المؤسسة العسكرية ومسار التحول الديمقراطي في الجزائر
أ. مسلم بابا عربي
أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية
جامعة قاصدي مرباح - ورقلة الجزائر
الملخـص:
نسعى من خلال هذه الدراسة إلى تحليل الأبعاد المختلفة للأدوار السياسية التي مارستها المؤسسة العسكرية في الجزائر، لاسيما في الفترة التي تلت إقرار التعددية السياسة(1990-2004)، فما من شك أن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسة كان له تأثيراته وانعكاساته على مسار التحول الديمقراطي. والتساؤل المركزي الذي تتمحور حوله هذه الدراسة هو: ما هي انعكاسات الدور السياسي للمؤسسة العسكرية على مسار التحول الديمقراطي في الجزائر؟
تنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور أساسية :
أولا: بنية وخصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية.
ثانيا: أنماط وأشكال تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.
ثالثا: انعكاسات تدخل المؤسسة العسكرية على مسار التحول الديمقراطي.
مقدمــة :
قد يبدو الحديث عن المؤسسة العسكرية ومسار التحول الديمقراطي في الجزائر حديثا مبتدلا، ذلك أن الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع قد أسهبت في الربط بين مؤسسة الجيش وعملية وقف المسار الانتخابي، حتى أضحى الحديث عن دور الجيش في الحياة السياسية مقترنا، بل ويكاد ينحصر في هذا الحدث الذي وإن كان أبرز وأعنف مظهر من مظاهر تدخل الجيش في الحياة السياسية، فإنه بالتأكيد ليس المظهر الوحيد ولا السابقة الأولى في هذا المجال، كما أنه لم يكن أيضا أخر مشهد من مشاهد الوصاية العسكرية على الطبقة السياسية.
ففي منتصف التسعينات من القرن الماضي كتب الباحث الفرنسي "جان فرانسوا داغوزان" عن دور مؤسسة الجيش في الحياة السياسية في المغرب العربي قائلا "في أي بلد من بلدان المغرب، حتى في ليبيا لا يلعب الجيش دورا أكثر أهمية في الحياة السياسية من الدور الذي يلعبه في الجزائر"[1]، أما بالنسبة للكاتب الأمريكي "وليام كوانت" فإن الجيش الجزائري يشكل نمطا خاصا به في علاقته بالسلطة، لايشبه الأنماط التي سادت في أمريكا اللاتينية ولا شبه القارة الأيبيرية ولا التجربة التركية[2]. وعلى هذا الأساس فإن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية و تأثيره على مسار التحول الديمقراطي في الجزائر يبدو أعمق بكثير من مجرد تدخل ظرفي لوقف مسار سياسي رأت فيه القيادة العسكرية "تهديدا لمستقبل الجمهورية".
ولفهم حقيقة أدوار مؤسسة الجيش وعلاقتها بالسلطة السياسية لابد في البداية من تقديم نظرة عابرة حول بنية هذه المؤسسة، خصائصها، وظروف نشأتها التي كانت عمالا حاسما في رسم حدود علاقتها بالسلطة ومدخلا لبروز دورها المؤثر في الحياة السياسية.
أولا: بنية وخصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية.
إن الأصول التاريخية للمؤسسة العسكرية الجزائرية تعود إلى الحرب التحريرية حيث شكل جيش التحرير الوطني النواة الأولى التي أسست لنشأة الجيش الوطني الشعبي سنة 1963، ولعل وصف الجيش الوطني الشعبي بأنه "سليل" جيش التحرير الوطني وصف له دلالات أعمق من الدلالة الرمزية والتاريخية، فالجيش الجزائري الحديث ورث في الحقيقة معظم خصائص وميزات جيش التحرير. لذلك من الضروري التذكير بأن نشأة هذا الأخير جاءت نتاج قناعة تشكلت لدى العسكريين من قدماء المنظمة الخاصة (التابعة لحرب الشعب) بضرورة تجاوز خلافات السياسين وإعلان الثورة المسلحة ضد الإحتلال الفرنسي. وهو الأمر الذي أرسى أول مبدأ يحكم علاقة العسكري بالسياسي في الجزائر: "حين يختلف الساسة ويعجزون عن المبادرة على العسكريين أن يأخذوا زمام الأمور ويتخذوا القرارات الحاسمة".
ولم تكن الأزمات المختلفة التي عرفتها الثورة التحريرية إلا فرصة لترسيخ مبدأ أفضلية وأولوية القادة العسكريين العاملين في الميدان على القادة السياسيين البعيدين عن ساحة المعركة، أما مبدأ أولوية السياسي على العسكري الذي أقره مؤتمر الصومام سنة 1956 فكانت نتائجه عكسية حيث زاد إصرار قادة الجيش على تجاوز قرارات القيادة السياسية.
وحين نتحدث عن خصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية فإنه يجب التفريق بين الخصائص العامة التي تميز الجيش عن غيره من البنى الأخرى المكونة للدولة وهي خصائص مشتركة بين كل الجيوش، وتعتبر بالنسبة للكاتب "مجدي حماد" أحد الأسباب المفسرة لظاهرة تدخل الجيش في الحياة السياسية، والخصائص المميزة للجيش الجزائري والتي ينفرد بها دون سواه من الجيوش الأخرى في العالم. فالأولى مرتبطة بالمؤسسة العسكرية كفئة وكتنظيم وهي بالأساس عوامل بنائية (structural factors)[3]، أما الثانية فهي مرتبطة بنشأة وتاريخ الجيش الجزائري وممارساته السلطوية، وهي مدخل أساسي لفهم علاقته بمسار التحول الديمقراطي.
لن نقف بالتفصيل عن المجموعة الأولى من الخصائص التي يمكن حصرها في : إحتكار العنف الشرعي داخل المجتمع، التنظيم الهرمي والإضباط والطاعة التامة للأوامر، التفوق التكنولوجي وامتلاك المعلومات، وهي خصائص وردت في الأدبيات المختلفة التي اهتمت بالظاهرة العسكرية كعوامل تحفز ميل المؤسسة العسكرية إلى التدخل في الشأن السياسي وتسهل عملية التدخل.
أما الخصائص المرتبطة بالجيش الجزائري فيمكن حصرها في الآتي:
1- المشروعية الثورية: من بين المفارقات التي ينفرد بها الجيش الجزائر أنه من حيث النشأة سابق عن وجود الدولة الجزائرية، يقول رشيد تلمساني في هذا الصدد "الجيش هو الذي أنشأ الدولة في الجزائر، بينما من المفروض أن الدولة هي التي تنشئ الجيش"[4] لذلك كان من المنطقي في ظل نظام سياسي (إلى غاية 1988) قائم على المشروعية التاريخية أن تكون للجيش الوطني الشعبي كلمة الفصل في اختيار القيادات السياسية (اختيار بن بلة سنة 1962، اختيار خليفة بومدين سنة 1979) والقدرة على تنحية هذه القيادات إذا أراد ذلك (انقلاب 19 جوان 1965). وفي انتظار تحقيق الانتقال الفعلي إلى الشرعية الدستورية، فإن الجيش حامل المشروعية الثورية يبقى على استعداد للقيام بمهام استثنائية، قد لا تدخل بالضرورة في نطاق مهامه الدستورية لكنها تنبع من تقدير وفهم قيادته لواقع الأمور وتفسيرها الخاص لحدود دورها في الدولة.
2- التركيبة البشرية: إن المؤسسة العسكرية الجزائرية من حيث تركيبتها البشرية تكاد تكون فريدة من نوعها فهي ليست على شاكلة الجيوش الإفريقية التي كونتها السلطات الاستعمارية غداة نهاية الاحتلال، التي كان جنودها أعضاء في الجيوش الاستعمارية و درب قادتها في دفعات خاصة داخل المدارس العسكرية الغربية، كما أنها ليست جيشا وطنيا تشكل عقب استرجاع السيادة والوطنية من مجندين وضباط آثروا حياة الجندية. بل هي -كما رأينا- امتداد لجيش التحرير الوطني الذي تشكل في أغلبيته من الفلاحين وبعض المناضلين السياسيين الذين لبوا نداء الكفاح.
وإن كنا هنا لن نتعرض لتطوره التاريخي، فإننا سنقف على تركيبته البشرية عشية وقف المسار الانتخابي وطيلة سنوات التسعينات، وسنركز على القيادة لأنها مصدر القرار، ولا يعتبر باقي الجيش المشكل في أغلبيته من المجندين في إطار الخدمة الوطنية، ذا تأثير في صنع القرار داخل مؤسسة الجيش.
فالقيادة العسكرية تخترقها ثلاثة فئات أساسية: الأولى تعرف بضباط جيش التحرير الوطني، هم المجاهدون الذين واكبوا مسيرة الثورة التحريرية، ومنهم من تحصل على تكوين أثناءها في إحدى الكليات الحربية العربية أو السوفيتية، وقد اختاروا عقب الاستقلال الاستمرار في الحياة العسكرية وشغلوا مراكز هامة في قيادة المؤسسة العسكرية[5] وكان هذا الجيل إلى بداية الثمانينات ممسكا بمراكز القرار في المؤسسة العسكرية وما يعاب على هذه الفئة هو اهتمامها المفرط بالشؤون السياسية، و ذلك راجع إلى كونها التحقت بجيش التحرير بهدف تحرير البلاد، لا بهدف امتهان الحياة العسكرية. الفئة الثانية وتضم ما يسمى بضباط الجيش الفرنسي وهم الضباط الذين تكونوا في المدارس العسكرية الفرنسية خلال الخمسينيات والتحقوا بالثورة بين 1958و1961 و قدر عددهم عشية الاستقلال ب200 ضابط[6]، دافع وزير الدفاع هواري بومدين عن وجودهم في الجيش خلال مؤتمر الحرب سنة 1964 بحجة افتقاد الجيش لإطارات بمستواهم، وأكد أن مهمة هؤلاء الضباط تقنية بالدرجة الأولى، لكن "هذه المجموعة بحكم تكوينها الخاص وخلفياتها الثقافية المتميزة تشكل توجها خاصا داخل الجيش".[7] أما الفئة الثالثة فيمثلها الجيل الشاب من الضباط الذين تكونوا في المدارس الجزائرية بعد الاستقلال وهم لم يشاركوا في الثورة بسبب صغر سنهم، و"أهم ما يمز هذا الجيل هو أنه لم يعتمد في ترقيته على شرف الشرعية الثورية، وإنما يعتمد على كفاءته المهنية ومدى استيعابه للعلوم العسكرية وتفوقه فيها"[8]، وهو بعيد إلى حد ما عن الصراعات السياسية.
إن هذه التركيبة المتباينة لقيادة المؤسسة العسكرية لا يمكن أن تنفي عنها صفة الانسجام والوحدة على مستوى صناعة القرار، لاسيما القرارات المصيرية التي يساهم في صناعتها مجموعة كبيرة من الضباط، وصل عددهم إلى 180 ضابطا حين قرروا وقف المسار الانتخابي[9].
وما ينبغي الإشارة إليه هنا بخصوص قيادة الجيش الجزائري، هو أنها كانت بداية التسعينات مشكلة في أغلبيتها من الضباط السابقين للجيش الفرنسي، الذين سمحت لهم سياسيات الشاذلي بن جديد بالارتقاء إلى أعلى هرم القيادة العسكرية[10].
ولعله ليس من الصدف أن الجيش الفرنسي الذي كانوا أعضاء فيه سابقا، قد قام بتجربة مشابهة في فرنسا سنة 1958 حين تمرد ضد النظام ونصب "دوغول" رئيسا للدولة، على الرغم من أن التجربة الديمقراطية في ذلك الوقت كانت قد قطعت أشواطا مهمة في فرنسا[11]. واستمرت سيطرة هؤلاء الضباط على قيادة المؤسسة العسكرية طيلة الفترة بين 1992-1999.
3- المساهمة في التنمية: من المميزات الأساسية للجيش الجزائري مساهمته الفعالة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد طيلة العقدين الأولين للاستقلال، حيث ساهم أفراد الجيش بصفة مباشرة في انجاز المشاريع الاقتصادية، لاسيما تلك المتعلقة بانجاز البنى التحتية من طرق و جسور وسدود، فالجيش الجزائري وبفضل المجندين في إطار الخدمة الوطنية التي أقرت سنة 1968 ساهم في إنجاز:مشروع السد الأخضر، طريق الوحدة الإفريقية، القرى الاشتراكية، بناء المطارات والمرافق الصحية....[12].
ولعل المساهمات الكبيرة للجيش في عمليات تحديث المجتمع تمنحه مزيدا من المشروعية، وتجعله قادرا أيضا على أداء مهام أخرى استثنائية، ليست من اختصاصاته التقليدية.
4- الماضي السياسي: وهو من بين العناصر الأساسية مكونة لاستعداد الجيش للتدخل في الشأن السياسي، فالجيش الجزائري الذي شكل - إلى غاية مارس 1989 تاريخ انسحابه من الحرب- طرفا أساسيا في السلطة الحاكمة في الجزائر، كان منذ نشأته "يعتبر الوظيفة السياسية أصيلة في تكوينه، ومهمة أساسية من مهامه"[13]، وأصبح بعد الاستقلال المحتكر لحق تعيين الرئيس أو تنحيته طيلة ثلاثة عقود من الاستقلال.
لذلك ليس من المستبعد أن يتدخل مجدد في الحياة السياسية ويؤثر في مسار التحول السياسي الذي عاشته البلاد في بداية التسعينات من القرن الماضي، إن كان هذا المسار - في نظره- سينتهي بالقضاء على التجربة الديمقراطية التي هو قيد التكوين، لاسيما وأن رئيس الجمهورية الذي قاد الإصلاحات السياسية كان قد وصل إلى الحكم بقرار من القيادة العسكرية سنة 1979. لذلك فإن هذه الأخيرة على استعداد للتدخل إذا ما رأت أنه قد أخل بالاتفاق الذي على أساسه قررت الانسحاب من الساحة السياسية. و هناك من يرى بأن الماضي السياسي للجيش لا يرتبط فقط بفترة الاستقلال ولا بالممارسات السياسية لجيش التحرير أثناء الثورة، بل إنه يستمد جذوره من إرث الدولة العثمانية التي كان من تقاليدها "فتح الباب أمام النخب العسكرية للتدخل في الشؤون السياسية وممارسة السلطة"[14].
هذه تقريبا معظم الخصائص التي تتميز بها المؤسسة العسكرية الجزائرية والتي ساهمت بشكل أساسي في تشكيل استعداد التدخل لديها، وتكوين وعي القيادة العسكرية بضرورة التدخل في الحياة السياسية بأشكال وأوجه مختلفة نحاول في المحور الآتي تحديدها.
المرجع : ملخص أطروحة ماجستبر لللأستاذ مسلم يايا عربي قسم العلوم السياسية) جامعة ورقلة
أ. مسلم بابا عربي
أستاذ مساعد بقسم العلوم السياسية
جامعة قاصدي مرباح - ورقلة الجزائر
الملخـص:
نسعى من خلال هذه الدراسة إلى تحليل الأبعاد المختلفة للأدوار السياسية التي مارستها المؤسسة العسكرية في الجزائر، لاسيما في الفترة التي تلت إقرار التعددية السياسة(1990-2004)، فما من شك أن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسة كان له تأثيراته وانعكاساته على مسار التحول الديمقراطي. والتساؤل المركزي الذي تتمحور حوله هذه الدراسة هو: ما هي انعكاسات الدور السياسي للمؤسسة العسكرية على مسار التحول الديمقراطي في الجزائر؟
تنقسم الدراسة إلى ثلاثة محاور أساسية :
أولا: بنية وخصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية.
ثانيا: أنماط وأشكال تدخل المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية.
ثالثا: انعكاسات تدخل المؤسسة العسكرية على مسار التحول الديمقراطي.
مقدمــة :
قد يبدو الحديث عن المؤسسة العسكرية ومسار التحول الديمقراطي في الجزائر حديثا مبتدلا، ذلك أن الأدبيات التي تناولت هذا الموضوع قد أسهبت في الربط بين مؤسسة الجيش وعملية وقف المسار الانتخابي، حتى أضحى الحديث عن دور الجيش في الحياة السياسية مقترنا، بل ويكاد ينحصر في هذا الحدث الذي وإن كان أبرز وأعنف مظهر من مظاهر تدخل الجيش في الحياة السياسية، فإنه بالتأكيد ليس المظهر الوحيد ولا السابقة الأولى في هذا المجال، كما أنه لم يكن أيضا أخر مشهد من مشاهد الوصاية العسكرية على الطبقة السياسية.
ففي منتصف التسعينات من القرن الماضي كتب الباحث الفرنسي "جان فرانسوا داغوزان" عن دور مؤسسة الجيش في الحياة السياسية في المغرب العربي قائلا "في أي بلد من بلدان المغرب، حتى في ليبيا لا يلعب الجيش دورا أكثر أهمية في الحياة السياسية من الدور الذي يلعبه في الجزائر"[1]، أما بالنسبة للكاتب الأمريكي "وليام كوانت" فإن الجيش الجزائري يشكل نمطا خاصا به في علاقته بالسلطة، لايشبه الأنماط التي سادت في أمريكا اللاتينية ولا شبه القارة الأيبيرية ولا التجربة التركية[2]. وعلى هذا الأساس فإن دور المؤسسة العسكرية في الحياة السياسية و تأثيره على مسار التحول الديمقراطي في الجزائر يبدو أعمق بكثير من مجرد تدخل ظرفي لوقف مسار سياسي رأت فيه القيادة العسكرية "تهديدا لمستقبل الجمهورية".
ولفهم حقيقة أدوار مؤسسة الجيش وعلاقتها بالسلطة السياسية لابد في البداية من تقديم نظرة عابرة حول بنية هذه المؤسسة، خصائصها، وظروف نشأتها التي كانت عمالا حاسما في رسم حدود علاقتها بالسلطة ومدخلا لبروز دورها المؤثر في الحياة السياسية.
أولا: بنية وخصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية.
إن الأصول التاريخية للمؤسسة العسكرية الجزائرية تعود إلى الحرب التحريرية حيث شكل جيش التحرير الوطني النواة الأولى التي أسست لنشأة الجيش الوطني الشعبي سنة 1963، ولعل وصف الجيش الوطني الشعبي بأنه "سليل" جيش التحرير الوطني وصف له دلالات أعمق من الدلالة الرمزية والتاريخية، فالجيش الجزائري الحديث ورث في الحقيقة معظم خصائص وميزات جيش التحرير. لذلك من الضروري التذكير بأن نشأة هذا الأخير جاءت نتاج قناعة تشكلت لدى العسكريين من قدماء المنظمة الخاصة (التابعة لحرب الشعب) بضرورة تجاوز خلافات السياسين وإعلان الثورة المسلحة ضد الإحتلال الفرنسي. وهو الأمر الذي أرسى أول مبدأ يحكم علاقة العسكري بالسياسي في الجزائر: "حين يختلف الساسة ويعجزون عن المبادرة على العسكريين أن يأخذوا زمام الأمور ويتخذوا القرارات الحاسمة".
ولم تكن الأزمات المختلفة التي عرفتها الثورة التحريرية إلا فرصة لترسيخ مبدأ أفضلية وأولوية القادة العسكريين العاملين في الميدان على القادة السياسيين البعيدين عن ساحة المعركة، أما مبدأ أولوية السياسي على العسكري الذي أقره مؤتمر الصومام سنة 1956 فكانت نتائجه عكسية حيث زاد إصرار قادة الجيش على تجاوز قرارات القيادة السياسية.
وحين نتحدث عن خصائص المؤسسة العسكرية الجزائرية فإنه يجب التفريق بين الخصائص العامة التي تميز الجيش عن غيره من البنى الأخرى المكونة للدولة وهي خصائص مشتركة بين كل الجيوش، وتعتبر بالنسبة للكاتب "مجدي حماد" أحد الأسباب المفسرة لظاهرة تدخل الجيش في الحياة السياسية، والخصائص المميزة للجيش الجزائري والتي ينفرد بها دون سواه من الجيوش الأخرى في العالم. فالأولى مرتبطة بالمؤسسة العسكرية كفئة وكتنظيم وهي بالأساس عوامل بنائية (structural factors)[3]، أما الثانية فهي مرتبطة بنشأة وتاريخ الجيش الجزائري وممارساته السلطوية، وهي مدخل أساسي لفهم علاقته بمسار التحول الديمقراطي.
لن نقف بالتفصيل عن المجموعة الأولى من الخصائص التي يمكن حصرها في : إحتكار العنف الشرعي داخل المجتمع، التنظيم الهرمي والإضباط والطاعة التامة للأوامر، التفوق التكنولوجي وامتلاك المعلومات، وهي خصائص وردت في الأدبيات المختلفة التي اهتمت بالظاهرة العسكرية كعوامل تحفز ميل المؤسسة العسكرية إلى التدخل في الشأن السياسي وتسهل عملية التدخل.
أما الخصائص المرتبطة بالجيش الجزائري فيمكن حصرها في الآتي:
1- المشروعية الثورية: من بين المفارقات التي ينفرد بها الجيش الجزائر أنه من حيث النشأة سابق عن وجود الدولة الجزائرية، يقول رشيد تلمساني في هذا الصدد "الجيش هو الذي أنشأ الدولة في الجزائر، بينما من المفروض أن الدولة هي التي تنشئ الجيش"[4] لذلك كان من المنطقي في ظل نظام سياسي (إلى غاية 1988) قائم على المشروعية التاريخية أن تكون للجيش الوطني الشعبي كلمة الفصل في اختيار القيادات السياسية (اختيار بن بلة سنة 1962، اختيار خليفة بومدين سنة 1979) والقدرة على تنحية هذه القيادات إذا أراد ذلك (انقلاب 19 جوان 1965). وفي انتظار تحقيق الانتقال الفعلي إلى الشرعية الدستورية، فإن الجيش حامل المشروعية الثورية يبقى على استعداد للقيام بمهام استثنائية، قد لا تدخل بالضرورة في نطاق مهامه الدستورية لكنها تنبع من تقدير وفهم قيادته لواقع الأمور وتفسيرها الخاص لحدود دورها في الدولة.
2- التركيبة البشرية: إن المؤسسة العسكرية الجزائرية من حيث تركيبتها البشرية تكاد تكون فريدة من نوعها فهي ليست على شاكلة الجيوش الإفريقية التي كونتها السلطات الاستعمارية غداة نهاية الاحتلال، التي كان جنودها أعضاء في الجيوش الاستعمارية و درب قادتها في دفعات خاصة داخل المدارس العسكرية الغربية، كما أنها ليست جيشا وطنيا تشكل عقب استرجاع السيادة والوطنية من مجندين وضباط آثروا حياة الجندية. بل هي -كما رأينا- امتداد لجيش التحرير الوطني الذي تشكل في أغلبيته من الفلاحين وبعض المناضلين السياسيين الذين لبوا نداء الكفاح.
وإن كنا هنا لن نتعرض لتطوره التاريخي، فإننا سنقف على تركيبته البشرية عشية وقف المسار الانتخابي وطيلة سنوات التسعينات، وسنركز على القيادة لأنها مصدر القرار، ولا يعتبر باقي الجيش المشكل في أغلبيته من المجندين في إطار الخدمة الوطنية، ذا تأثير في صنع القرار داخل مؤسسة الجيش.
فالقيادة العسكرية تخترقها ثلاثة فئات أساسية: الأولى تعرف بضباط جيش التحرير الوطني، هم المجاهدون الذين واكبوا مسيرة الثورة التحريرية، ومنهم من تحصل على تكوين أثناءها في إحدى الكليات الحربية العربية أو السوفيتية، وقد اختاروا عقب الاستقلال الاستمرار في الحياة العسكرية وشغلوا مراكز هامة في قيادة المؤسسة العسكرية[5] وكان هذا الجيل إلى بداية الثمانينات ممسكا بمراكز القرار في المؤسسة العسكرية وما يعاب على هذه الفئة هو اهتمامها المفرط بالشؤون السياسية، و ذلك راجع إلى كونها التحقت بجيش التحرير بهدف تحرير البلاد، لا بهدف امتهان الحياة العسكرية. الفئة الثانية وتضم ما يسمى بضباط الجيش الفرنسي وهم الضباط الذين تكونوا في المدارس العسكرية الفرنسية خلال الخمسينيات والتحقوا بالثورة بين 1958و1961 و قدر عددهم عشية الاستقلال ب200 ضابط[6]، دافع وزير الدفاع هواري بومدين عن وجودهم في الجيش خلال مؤتمر الحرب سنة 1964 بحجة افتقاد الجيش لإطارات بمستواهم، وأكد أن مهمة هؤلاء الضباط تقنية بالدرجة الأولى، لكن "هذه المجموعة بحكم تكوينها الخاص وخلفياتها الثقافية المتميزة تشكل توجها خاصا داخل الجيش".[7] أما الفئة الثالثة فيمثلها الجيل الشاب من الضباط الذين تكونوا في المدارس الجزائرية بعد الاستقلال وهم لم يشاركوا في الثورة بسبب صغر سنهم، و"أهم ما يمز هذا الجيل هو أنه لم يعتمد في ترقيته على شرف الشرعية الثورية، وإنما يعتمد على كفاءته المهنية ومدى استيعابه للعلوم العسكرية وتفوقه فيها"[8]، وهو بعيد إلى حد ما عن الصراعات السياسية.
إن هذه التركيبة المتباينة لقيادة المؤسسة العسكرية لا يمكن أن تنفي عنها صفة الانسجام والوحدة على مستوى صناعة القرار، لاسيما القرارات المصيرية التي يساهم في صناعتها مجموعة كبيرة من الضباط، وصل عددهم إلى 180 ضابطا حين قرروا وقف المسار الانتخابي[9].
وما ينبغي الإشارة إليه هنا بخصوص قيادة الجيش الجزائري، هو أنها كانت بداية التسعينات مشكلة في أغلبيتها من الضباط السابقين للجيش الفرنسي، الذين سمحت لهم سياسيات الشاذلي بن جديد بالارتقاء إلى أعلى هرم القيادة العسكرية[10].
ولعله ليس من الصدف أن الجيش الفرنسي الذي كانوا أعضاء فيه سابقا، قد قام بتجربة مشابهة في فرنسا سنة 1958 حين تمرد ضد النظام ونصب "دوغول" رئيسا للدولة، على الرغم من أن التجربة الديمقراطية في ذلك الوقت كانت قد قطعت أشواطا مهمة في فرنسا[11]. واستمرت سيطرة هؤلاء الضباط على قيادة المؤسسة العسكرية طيلة الفترة بين 1992-1999.
3- المساهمة في التنمية: من المميزات الأساسية للجيش الجزائري مساهمته الفعالة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية للبلاد طيلة العقدين الأولين للاستقلال، حيث ساهم أفراد الجيش بصفة مباشرة في انجاز المشاريع الاقتصادية، لاسيما تلك المتعلقة بانجاز البنى التحتية من طرق و جسور وسدود، فالجيش الجزائري وبفضل المجندين في إطار الخدمة الوطنية التي أقرت سنة 1968 ساهم في إنجاز:مشروع السد الأخضر، طريق الوحدة الإفريقية، القرى الاشتراكية، بناء المطارات والمرافق الصحية....[12].
ولعل المساهمات الكبيرة للجيش في عمليات تحديث المجتمع تمنحه مزيدا من المشروعية، وتجعله قادرا أيضا على أداء مهام أخرى استثنائية، ليست من اختصاصاته التقليدية.
4- الماضي السياسي: وهو من بين العناصر الأساسية مكونة لاستعداد الجيش للتدخل في الشأن السياسي، فالجيش الجزائري الذي شكل - إلى غاية مارس 1989 تاريخ انسحابه من الحرب- طرفا أساسيا في السلطة الحاكمة في الجزائر، كان منذ نشأته "يعتبر الوظيفة السياسية أصيلة في تكوينه، ومهمة أساسية من مهامه"[13]، وأصبح بعد الاستقلال المحتكر لحق تعيين الرئيس أو تنحيته طيلة ثلاثة عقود من الاستقلال.
لذلك ليس من المستبعد أن يتدخل مجدد في الحياة السياسية ويؤثر في مسار التحول السياسي الذي عاشته البلاد في بداية التسعينات من القرن الماضي، إن كان هذا المسار - في نظره- سينتهي بالقضاء على التجربة الديمقراطية التي هو قيد التكوين، لاسيما وأن رئيس الجمهورية الذي قاد الإصلاحات السياسية كان قد وصل إلى الحكم بقرار من القيادة العسكرية سنة 1979. لذلك فإن هذه الأخيرة على استعداد للتدخل إذا ما رأت أنه قد أخل بالاتفاق الذي على أساسه قررت الانسحاب من الساحة السياسية. و هناك من يرى بأن الماضي السياسي للجيش لا يرتبط فقط بفترة الاستقلال ولا بالممارسات السياسية لجيش التحرير أثناء الثورة، بل إنه يستمد جذوره من إرث الدولة العثمانية التي كان من تقاليدها "فتح الباب أمام النخب العسكرية للتدخل في الشؤون السياسية وممارسة السلطة"[14].
هذه تقريبا معظم الخصائص التي تتميز بها المؤسسة العسكرية الجزائرية والتي ساهمت بشكل أساسي في تشكيل استعداد التدخل لديها، وتكوين وعي القيادة العسكرية بضرورة التدخل في الحياة السياسية بأشكال وأوجه مختلفة نحاول في المحور الآتي تحديدها.
المرجع : ملخص أطروحة ماجستبر لللأستاذ مسلم يايا عربي قسم العلوم السياسية) جامعة ورقلة
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام