د.إدريس لكريني-أستاذ جامعي، كلية الحقوق، مراكش)
مقدمة
تنطوي دراسة النخبة في أي مجتمع على أهمية كبرى باعتبارها تسهم بشكل كبير في فهم وتفسير السلطة السياسية داخل الدولة، فداخل أي مجتمع نجد هناك فئة محدودة حاكمة؛ تحتكر أهم المراكز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..؛ وتلعب أدوارا طلائعية داخل النسق السياسي وتملك سلطات على مستوى اتخاذ القرارات أو التأثير في صياغتها في أقل الأحوال، وأخرى واسعة محكومة ولا تملك نفس الإمكانيات فيما يخص صناعة هذه القرارات.
وهكذا توجد في كل مجتمع من المجتمعات نخبة أتيحت لها إمكانية الاضطلاع بأدوار رئيسية ومهمة في مختلف المجالات.
ويطرح موضوع النخبة صعوبات مفاهيمية جمة؛ نظرا لتعدد الرؤى والمقاربات في هذا الشأن؛ وقد تناوله بالدراسة بعض الفلاسفة منذ آلاف السنين، فأفلاطون سبق وأن تحدث عن طبقة الحكماء.. كما استعملت كلمة "النخبة" في القرن السابع عشر لوصف سلع ذات تفوق معين، وامتد استعمالها فيما بعد ليشمل الإشارة إلى فئات اجتماعية متفوقة؛ كالوحدات العسكرية الخاصة أو الطبقات العليا من النبلاء(1).
وقد اكتسى مصطلح النخبة أهمية بالغة في بداية القرن المنصرم مع ظهور نظريات مرتبطة بهذا الشأن، قادها بعض الباحثين أمثال: باريتو وموسكا.. وقد تباينت الاصطلاحات التي ترمز إلى هذه الفئة ما بين الطليعة، الصفوة، السراة، الملأ..
أولا: مقاربة المفهوم
كان للباحثين الإيطاليين موسكا MOSKAوباريتو PARETO الأثر الكبير في ذيوع هذا المفهوم؛ من خلال دراساتهم الاجتماعية في بداية القرن العشرين، فقد أكدا معا على أن المجتمعات تنقسم عادة إلى طبقتين أو جماعتين: الأولى حاكمة؛ والثانية محكومة، وإذا كان موسكا قد فضل استعمال مصطلح الطبقة السياسية ليعبر به عن الفئة الأولى، فإن باريتو فضل مصطلح الطبقة الحاكمة للتعبير عنها.
والنخبة من منظورهما هي مجموعة قليلة من الأشخاص الذين توافرت لديهم شروط موضوعية (الثروة والقدرة..) وأخرى ذاتية (المواهب..) بالشكل الذي يجعلها متميزة عن باقي أفراد المجتمع.
أما لازويل Lassswel فقد اعتبر أنها تلك الطبقة التي تتميز بقدرتها على التأثير أكثر من غيرها، مع جنيها لنتائج ملموسة بفعل هذا التأثير.
وضمن تصور آخر؛ نجد رايت ميلز الذي ركز على المجتمع الأمريكي في دراساته، يقيم علاقة وطيدة بين النخبة وامتلاك إمكانية اتخاذ القرار، حيث توصل إلى أن هناك مجموعة من المؤسسات تتحكم في مسار الولايات المتحدة حددها في: المؤسسة العسكرية، المؤسسة السياسية؛ المؤسسة الشركات الكبرى، من خلال نخبة تحتل مكانة مهمة داخل هرم اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسات.
وفي القواميس الإنجليزية تعرف باعتبارها:" أقوى مجموعة من الناس في المجتمع، ولها مكانتها المتميزة وذات الاعتبار"(2). بينما القواميس الفرنسية فتحدثت في هذا الشأن عن أشخاص وجماعات تتيح لهم إمكانية امتلاك القوة أو التأثير؛ المشاركة في صياغة تاريخ جماعة معينة، عبر وسائل وسبل عديدة (اتخاذ القرارات؛ اقتراح الأفكار، إبداء المشاعر..).
والجدير بالذكر أن هناك مجموعة من الاعتبارات الذاتية (الذكاء، الإبداع، الاجتهاد، الطموح..) والموضوعية (الإمكانيات الاقتصادية والعلمية والوظيفية..) التي تجعل النخبة - باعتبارها أقلية - تتحكم في فئات عريضة من المجتمع.
ولعل أبرز ما تتميز به هذه الأقلية هو تلك القوة أو القدرة على التأثير على الآخرين؛ فتقنعهم أو تغريهم أو تهددهم؛ وتنتهي إلى توجيههم وقيادتهم والاستفادة منهم حسب أهداف معينة(3).
وعلى الرغم من الصعوبات التي تعتور تحديد مفهوم قار للنخبة بالنظر لتعدد التعريفات الواردة بشأنها، يمكن القول أن المصطلح يحيل إلى مجموعة من الأفراد الذين يتموقعون في مراكز سياسية واجتماعية واقتصادية.. عليا داخل المجتمع؛ تسمح لهم بصناعة القرارات في مختلف المجالات أو التأثير في صياغته.
وبناء على ذلك؛ كان من الطبيعي أن تتوافر لكل مجتمع من المجتمعات - بغض النظر عن درجة نمائه وتطوره - نخبة تحظى بأهمية كبرى على مستوى قيادة الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو العسكرية أو الاقتصادية..
ويعتقد البعض أن ترتيب وموقع أنماط "الصفوة" يختلف من حيث الأهمية والقوة، من مجتمع إلى آخر، كما يختلف في المجتمع الواحد من مرحلة إلى أخرى. ففي المجتمع البدائي أو البدوي، كانت الشجاعة والفروسية والكرم والشعر والثروة وحدها تشكل قيم وإمكانات "الصفوة".. وفي مجتمع أكثر تطورا وتحضرا يصبح أهل العلم والرأي والحكمة والفراسة، هم صفوة المجتمع، ويجري حل الأمور تحت رعايتهم ومشورتهم(4).
أما بخصوص النخبة السياسية؛ فنجد بنتام Puntam يقصر مفهوم النخبة فقط على "أولئك الذين لهم سلطة أكبر على الآخرين"، فالنخبة السياسية تقتصر فقط على البرلمانيين، الوزراء ورؤساء الدولة بالإضافة إلى كبار الموظفين(5)..
ومن منظور بوتومور؛ تعتبر النخبة السياسية هي تلك المجموعة التي تضم أفرادا يمارسون السلطة السياسية داخل المجتمع خلال فترة زمنية محددة. وضمن هذا الإطار نجد أعضاء الحكومة، والموظفون الإداريون السامون والقادة العسكريون والمستثمرون الاقتصاديون الكبار وبعض العائلات النافذة سياسيا..
أما موسكا وباريتو فقد كانا معا مهتمين بالنخبة باعتبارها فئات من الناس تمارس السلطة السياسية مباشرة؛ وتكون في وضع تؤثر فيه بشدة في عملية ممارسة هذه السلطة(6).
وذهب العديد من الباحثين إلى أن هذه النخبة تشكل فئة اجتماعية متقاربة، رغم بعض اختلافاتها الإيديولوجية والسياسية، كما أكدوا أيضا أنها تأتي عبر سبل مختلفة ومتعددة؛ تتأرجح بين بالوراثة والقوة والتعيين والتزكية تارة وبين الانتخاب تارة أخرى.
وإذا كان هناك اعتقاد بأن النخب السياسية مفتوحة أمام كل أفراد المجتمع كيفما كان منشِؤها الاجتماعي، مهنها، مستواها الثقافي أو طبيعة جنسها..؛ فإن موسكا اعتبر أن نقيض هذا النموذج هو السائد؛ على اعتبار أن هناك أقلية تتميز عن باقي شرائح المجتمع بخصائص معينة تمنحها تفوقا ماديا، ثقافيا وأدبيا..(7).
وفي مقابل الرأي الذي يركز على النخبة السياسية في مقارباته وتحليلاته كأرسطو، باريتو، موسكا..، هناك اتجاه آخر قاده كل من سان سيمون وكارل منهايم وريمون آرون ورايت ميلز..، أكد فيه أصحابه على وجود أشكال متعددة من النخب؛ تعمل بشكل مشترك (نخبة عسكرية، نخبة اقتصادية وسياسية..)، فالمجتمع - بحسب هذا الرأي الأخير - ينتج بالإضافة إلى نخب سياسية نخبا أخرى، غير أن هذه الأخيرة لا تحظى بممارسة أدوار سياسية كبرى، بل يظل تأثيرها في قضايا ومواقف هذا الحقل متواضعا.
ويعتقد أحد الباحثين أن الفرق الأساسي بين النخبة السياسية وباقي النخب يكمن في كون الأولى تتمتع بمجموعة من الصلاحيات تجعلها هي المقررة الأولى للمجتمع؛ بحيث تختار له توجهاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية أحيانا، مما يجعل سلطاتها واسعة وتأثيرها لا محدودا، أما النخب الأخرى؛ فإنها تمارس نفوذها وسلطتها داخل مجالاتها الخاصة، دون أن تستطيع التأثير على التوجهات السياسية بشكل قوي وفعال(.
ومن هذا المنطلق؛ فالنخبة السياسية تحتل مركزا متميزا ضمن قائمة مختلف النخب الأخرى، باعتبارها تملك القوة والقدرة داخل النظام السياسي للدولة، وتسهم بشكل محوري في صناعة القرارات.
ولقد جاءت نظرية النخبة كرد فعل على استحالة تطبيق الديموقراطية باعتبارها "حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه"، وكبديل لنظرية الطبقات الاجتماعية التي جاءت بها الماركسية. فباريتو في كتابه "العقل والمجتمع حدد مفهوم النخبة في كونها مجموعة من الأفراد الذين توفقوا في مختلف أنشطتهم ووظائفهم بشكل جيد داخل "مباراة الحياة"، بالشكل يجعلهم قادرين على احتلال مناصب قيادية للقيام بأدوار سياسية واجتماعية محورية داخل المجتمع؛ وتظل هذه القيادة غير مشروطة بالضرورة بموافقة أفراد هذا الأخير. أما موسكا فيؤكد على أنها مجموعة قليلة من الأشخاص يميزها التماسك وتملك القوة والإمكانية في مواجهة الأصوات المعارضة لها، وهي بذلك تملك قدرة فائقة على تنظيم أغلبية اجتماعية غير منظمة، غير أنه وعلى عكس باريتو يؤكد على ضرورة توافر موافقة المحكومين في هذا الشأن (مقاربة ديموقراطية). فيما يبرز بوتومور أيضا الدور الهام الذي تلعبه النخبة والمرتبط بتدبير شؤون المجتمع وقيادته.
أما ميشيل روبرتو ومن خلال مقاربته لنشاط الأحزاب السياسية؛ توصل إلى أن هذه الأخيرة باعتبارها مظهرا من مظاهر الممارسة الديموقراطية؛ تصبح مع مرور الوقت رهينة تحكم أقلية تستأثر بسلطة واسعة على مستوى اتخاذ القرارات داخل التنظيم، ونفس الشيء بالنسبة لبنيات اجتماعية أخرى بما فيها الدولة، وبخاصة وأن هذه البنيات تحتاج إلى أقليات منظمة.
من خلال المعطيات السابقة يمكن استخلاص أن النخبة السياسية هي أقلية داخل المجتمع، تتوفر على خصائص وقدرات ذاتية وإمكانيات أخرى موضوعية؛ تمكنها من قيادة المجتمع والتأثير في مساره من خلال قدرتها على صناعة القرارات السياسية..
من المفروض أن تحتل النخبة السياسية - باعتبارها الفئة التي تستأثر باتخاذ القرارات الأساسية في الدولة أو تؤثر فيها- مكانة متميزة داخل المجتمعات باعتبارها القاطرة التي ينبغي أن تقود حركة التطور والتنمية، غير أن نجاح هذا الدور الحيوي والهام يظل مرتبطا بمدى قوتها ومصداقيتها وتجددها.
وفي هذا السياق؛ تشير بعض الدراسات إلى أن النخبة السياسية وحدها (رؤساء الجمهوريات، ورؤساء الوزارات، والأحزاب والمجالس البرلمانية..) تستطيع أن تحدث الإصلاحات والتغير داخل المجتمع والدولة، ذلك أن استمرارية الديموقراطية على امتداد فترات زمنية طويلة يتطلب العديد من التغييرات والتعديلات، تستطيع النخبة من خلالها – النخبة التي تقدر الديموقراطية وتستجيب للاهتمامات المختلفة وتعمل على دمجها – أن تقوم باستمرار بإصلاح الديموقراطية وإعادة تشكيلها(9).
ويبدو أن استقلال النخب السياسية، لا يمنع من ارتباطها بممثليها والفئات التي تدعمها، وهذا هو النصف الثاني من الحقيقة التي أبان عنها شوميتر، وقد بين فيبر ذلك فيما يخص الأحزاب والتنظيمات السياسية؛ بحيث أن القادة الحربيين في تنافسهم على السلطة غالبا ما يحققون لأنصارهم بعض الرغبات والمطالب(10)..
كما أن أولئك الذين هم في مراكز السلطة، يعون تماما مدى عدم استقرارهم في مراكزهم؛ ولذا فإنهم يقيمون اعتبارا للفئات المعارضة؛ إذ أنهم أنفسهم كانوا في صفوف المعارضة وسيعودون في يوم من الأيام إلى تلك الصفوف(11).
ومن هذا المنطلق؛ يظل التجديد داخل هذه الفئة أمرا مطلوبا - ولو تم ببطء - لأجل تعزيزها بعناصر جديدة كل حين، غير أن الملاحظ هو أن هذا التغيير يظل مرتبطا بطبيعة النظام السياسي الذي تشتغل فيه هذه النخبة، فكلما كان الفضاء ديموقراطيا ومنفتحا؛ إلا وبرزت حركية وحيوية هذا التجدد باستمرار، وكلما كان النظام السياسي منغلقا وشموليا حدث العكس.
إن النخب السياسية في العديد من المجتمعات التي تعاني من ويلات التسلط؛ تضع شروطا تعجيزية للالتحاق بصفوفها؛ كما أنها لا تقر بأهمية الممارسة الديموقراطية إلا عندما تكون هذه الأخيرة في صالحها، فآلية الانتخابات المزورة تسمح بإعادة تجديد نفس الوجوه أو صعود النخب الموالية لها.
ومن هنا نطرح سؤالا ملحا: هل يمكن لنخبة سياسية لا تؤمن بالديموقراطية ولا تتبناها في ممارساتها أن تطالب جهات أخرى بتحقيقها وبلورتها في الواقع؟
ثانيا: أزمة التغيير الديموقراطي في المنطقة العربية
بدأت الديموقراطية في العقود الأخيرة التي أعقبت انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة - كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة من القضايا الحيوية الأخرى كحقوق الإنسان والمحافظة على البيئة ومكافحة الإرهاب..- تأخذ بعدا عالميا، حيث تزايد الاهتمام بهذا الشأن داخل الأوساط الدولية الرسمية منها وغير الرسمية؛ بعدما ظلت حتى وقت قريب تعد شأنا داخليا يحاط بجدار سميك تفرضه سيادة الدول، وهذا ما شكل في أحد جوانبه رادعا معنويا لتمادي مختلف الأنظمة الديكتاتورية في استبدادها.
فعلى مستوى الممارسات الانفرادية لبعض الدول؛ أضحى توجيه المساعدات يخضع لمعايير احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان، كما أن تقييم أداء الأنظمة والرضا عنها أضحى في جانب مهم منه يخضع لهذه الاعتبارات، فيما تنال الدول التي تصنف غير ديموقراطية ولا تحترم حقوق الإنسان حملات تشهيرية وعقوبات سياسية واقتصادية؛ وقد تصل إلى حد ممارسة الضغوطات العسكرية ضدها أحيانا.
وعلى المستوى الجماعي، فلا تخفى أهمية عامل احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان كمؤشر أساسي ضمن مجموعة من المؤشرات التي يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول. ومن جانب آخر تمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من مراكمة مجموعة من القرارات التي تؤكد الاهتمام الدولي بهذه القضية والتي وصلت إلى حد استعمال القوة العسكرية لأغراض مرتبطة بتثبيت الديموقراطية مثلما هو الشأن في هاييتي في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، أو التدخل لأغراض إنسانية مثلما تم في كل من العراق أو الصومال في بداية التسعينيات من القرن الماضي..
وإذا استحضرنا كون الديموقراطية ترتبط في الغالب بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة على تدبير الاختلاف.. فإنه وباعتماد هذا التعريف ومقاربة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأقطار العربية على ضوئه، يتبين منذ الوهلة الأولى أن هذه الأخيرة تعيش أزمة ديموقراطية حقيقية، لا تخلو من تداعيات سلبية داخلية وأخرى خارجية.
حقيقة أن معظم الأقطار العربية كانت من ضمن الدول التي دخلت معترك هذه التغيرات بنسب متفاوتة في أعقاب التحولات الديموقراطية العالمية التي هبت على مختلف المناطق من العالم، بعدما لم يعد بإمكان الأنظمة المستبدة تجاهل الضغوطات الدولية القائمة في هذا الشأن - كما رأينا -.
وإذا كانت دول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية قد انخرطت في التغيير بشكل جدي وانحازت للديموقراطية كأسلوب؛ فإن مجمل الإصلاحات التي عرفتها الأقطار العربية بدت بطيئة وغير شاملة، ولم تعكس في العمق تطلعات الشعوب، وظهرت وكأنها تستهدف تحسين صور وسمعة هذه الدول في الخارج، الأمر الذي ولد مجموعة من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية.. التي لم تخل في عمقها من تداعيات دولية من قبيل تزايد الهجرة وانتشار التطرف(12).
ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بأن: "الأزمة الراهنة في العالم العربي تعيدنا إلى نقطة الصفر، أي إلى طرح الأسئلة ذاتها التي طرحها مفكرو ما سمي بعصر النهضة منذ بدايات تكون العالم العربي الحديث كما هو عليه الآن؛ على الصعيد السياسي على الأقل"(13).
وقد أدت حالة الترهل العربي إلى نتيجة ملحوظة مفادها أن التغيير أصبح ضرورة تمليها العوامل الخارجية، بدلا من أن يصبح رغبة داخلية تدفع نحو التطوير الطوعي والتوجه الاختياري نحو الانعتاق من جمود الماضي، وهو ما قد يعود في جزء كبير منه إلى ضعف ثقافة التغيير العربية – إن وجدت- وعدم قدرتها على النهوض مرة أخرى بعد أن تآكلت مع انتهاء حركة الاستقلال الوطني(14).
ونتيجة لربط الولايات المتحدة ما عرفته من عمليات إرهابية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، بغياب هامش الحريات والديموقراطية في الأقطار العربية، تزايدت الضغوطات الأمريكية والأوربية المطالبة بإعمال إصلاحات ديموقراطية في مجمل الدول العربية(15).
ففي عام 2003، أقر الاتحاد الأوربي "سياسة الجار الصالح الجديدة" التي تركز بصورة شبه كاملة على قضايا الإصلاح الداخلي بالدول العربية(16).
كما شهد العام 2004؛ بروز تحالف اتحاد دولي معني بالديموقراطية بالشرق الأوسط، ففي أعقاب اقتراح الولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، تقدمت ألمانيا في فبراير عام 2004 بمقترح يحمل عنوان:" مبادرة الشرق الأوسط الأوسع"، وشاركت فرنسا في رعايتها في وقت لاحق.. وخلال شهر يونيو 2004 تلاقت العديد من المشروعات الأوربية والأمريكية، من خلال قمة مجموعة الثمانية في الولايات المتحدة والقمة الأورو- أمريكية في دبلن وقمة الناتو في إستانبول(17).
وقد تباينت ردود الفعل العربية إزاء هذه المشاريع الخارجية؛ بين متحمس؛ وجد فيها مدخلا لتحريك ملف الإصلاحات الديموقراطية في منطقة تفرض فيها الأنظمة طوقا من حديد على أي إصلاح أو تغيير في هذا الشأن، وبين معارض متشائم من أية مشاريع "دخيلة" لا تنبعث من خصوصيات وثقافة المنطقة بقدر ما تنطوي على خلفيات مصلحية لطارحيها.
وإذا استحضرنا كون التغيير- وكما هو معروف في الأدبيات السياسية - يصبح أكثر فاعلية وصدقية إذا ساهمت القاعدة الجماهيرية العريضة في طرحه وبلورته بما يحقق أهدافها ورغباتها(18)، فإنه وبغض النظر عن هذه المواقف المتباينة؛ يمكن القول بأن تزايد هذه الضغوطات الخارجية من جهة؛ وتنامي الاستياء الشعبي العربي جراء الركود الذي تعرفه الأوضاع السياسية من جهة ثانية؛ يشكل دليلا على أزمة التغيير الديموقراطي في الأقطار العربية ومؤشرا على عجز النخبة السياسية في هذه المنطقة على بلورة إصلاحات بديلة وفعالة.
ثالثا: النخب العربية ومطلب الإصلاح الديموقراطي
تتقاسم النخب السياسية العربية الحاكمة مجموعة من الخاصيات المشتركة، لخصها أحد الباحثين(19) في ثلاث خصائص هي: التجربة السياسية المشتركة (الخبرة التاريخية، الخبرة الدينية، الخبرة السياسية) ثم التكوين الفكري المشترك (المعتقد الديني، المعتقد السياسي، التكوين العصري)؛ هذا فضلا عن تشابه طرق تولي الحكم (الوراثة، الانقلاب، الخلافة، الانتخاب).
وقد نجحت الأنظمة السياسية في مختلف البلدان العربية إلى حد بعيد في تدجين العديد النخب(المثقفة، الاقتصادية، الدينية، العسكرية، الحربية، الحكومية..) تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، وبخاصة وأن فئة كبيرة من هذه الأنظمة تعتمد في استراتيجيتها التسلطية على النخبة السياسية إلى جانب نظيرتها العسكرية، وتبين تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وتورطها في فساد مالي وإداري وسياسي..؛ مما أسهم بشكل كبير في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة وما بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها. الأمر أفقد هذه النخب ثقة الجماهير؛ وولد شعورا بالإحباط في أوساط الشعوب العربية، فيما فضلت نخب أخرى الانكفاء على نفسها والانزواء بعيدا..
وبغض النظر عن وجود رغبة حقيقية لدى النخبة السياسية لإجراء تغييرات جدية في الأنساق السياسية العربية أو غيابها، فإن الإصلاح الديموقراطي الحقيقي في المنطقة، لا ينبغي أن يرتبط بمشاريع إصلاحية خارجية، بقدر ما ينبغي أن يرتكز على الإنصات إلى نبض الشارع العربي وتحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بهذه البلدان، بعيدا عن كل إملاءات خارجية لا تحقق إلا مصالح مروجيها.. ومع ذلك؛ ينبغي استثمار هذه المشاريع بشكل محسوب وذكي للضغط على الأنظمة العربية من خلال حثها على فتح المجال أمام مختلف الفاعلين داخليا، لبلورة تصورات ومشاريع إصلاحية ديموقراطية حقيقية..(20)، ذلك أن الإصلاحات الكفيلة بإخراج الأقطار العربية من إخفاقاتها وتخلفها يظل مشروطا بفتح ورشات إصلاحية تنبع من الداخل، لتعكس الحاجات الحقيقية الملحة لشعوب المنطقة الكفيلة بإخراجها من إكراهاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
ولا يخفي انعكاس هذه الأوضاع على المجتمع، فالتماهي بالمتسلط يشكل أحد" المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور لحل مأزقه الوجودي والتخفيف من انعدام الشعور بالأمن والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ… والتماهي بالمعتدي هو من أقوى عوامل مقاومة التغيير، وعرقلة التحرر الوطني والاجتماعي(21).
والملاحظ أن الركود السياسي الذي تشهده معظم الأقطار العربية من جهة؛ وتهافت هذه المشاريع الخارجية على المنطقة من جهة ثانية؛ يؤكد حجم التحديات والمسؤوليات التاريخية المطروحة على عاتق النخب العربية بشتى أصنافها باتجاه بلورة وفرض إصلاحات تكون في حجم التحديات الداخلية والخارجية.
ويعتقد أحد الباحثين(22) أن أزمة "الصفوة العربية" أزمة مركبة، ولها عدة جوانب؛ من بينها:
1- ضعف المصداقية لدى هذه الصفوة، بحيث تأكد لجل الناس في الوطن العربي أن الأقوال والتصريحات والشعارات مخالفة ومتناقضة مع الأفعال والممارسة والتطبيق.
2- الفشل والهزائم والإحباطات التي سادت الشعوب العربية، وهي مسؤولية الصفوة السياسية بالدرجة الأولى.
3- بسبب ضعف أو غياب المصداقية، وبسبب تراكم الفشل، فقدت الشعوب العربية "الثقة" في قياداتها، وتفشى القنوط بين كثير من الأوساط الشعبية.
ويضيف بأن أزمة "الصفوة العربية المعاصرة" هي أزمة قيم، ذلك أن نجاح وتألق "النموذج التاريخي" كان بسبب ثروته من القيم، وبسبب تفاعل تلك القيم وانبساط سلطانها في الحياة؛ ولا تزال هي النبع وهي المصدر فلا صفوة ولا نجاح بدون قيم وبدون الصدق في الفعل والممارسة(23).
إن النخب السياسية العربية الحاكمة منها أو تلك المتموقعة في صفوف المعارضة؛ ينبغي أن تراهن على الجماهير؛ وتستمد منها مشروعيتها وقوتها، كما أن إيمانها بالديموقراطية مبدأ وسلوكا يعد منطلقا لتحقيق تغيير حقيقي في الأقطار العربية.
والجدير بالذكر أن تاريخ البشرية يبرز بأن النخب عندما تتحمل مسؤوليتها؛ تسهم بشكل كبير في تطور مجتمعاتها، فقد برزت في الماضي نخب عربية وإسلامية أثرت الحضارة الإنسانية بمواقفها وأفكارها وأسهمت بشكل ملحوظ في تحديث وتطوير مجتمعاتها.
ومن تم فسكوت النخب وعدم فضحها ونقدها لهذه الأوضاع، يعد في حد ذاته تواطؤا مع الأنظمة وتشجيعا لها من أجل التمادي في تسلطها.
ولعل الموضوعية تقتضي - في ظل الأوضاع المأزومة التي تعيشها مختلف الأقطار العربية في شتى المجالات – القيام بوقفة صريحة مع الذات والاعتراف بالأخطاء؛ والوقوف على العلل ومكامن الخلل؛ لأن ذلك هو السبيل الأساسي لتحقيق تغيير في حجم التطلعات والانتظارات الداخلية والتحديات التي يفرضها المحيط الدولي.
وإذا كان الدور القيادي للنخبة على مستوى الإصلاح والتغيير؛ ينطوي على أهمية كبرى في مختلف المجتمعات البشرية؛ فإن هذا الدور يصبح أكثر أهمية وحيوية وملحاحية في المنطقة العربية.
رابعا: النخبة السياسية في المغرب
سارت معظم الدراسات التي انصبت على مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب، في اتجاهين، الأول: أنكر وجود نظرية للنخبة السياسية (عربيا ومغربيا) نظرا لارتباطها بالمفهوم الغربي ومقوماته، سواء في أبعاده التاريخية الماركسية أو الديموقراطية، والثاني: أكد على هذا الوجود؛ سواء بالاعتماد على التاريخ السياسي للمغرب أو من خلال ربط ظهورها بالوجود الاستعماري.
إن مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب ينطوي على صعوبات شتى؛ نظرا لتأثرها بمجمل التحولات التي شهدها المغرب من جهة؛ وبمواقف النظام السياسي من جهة ثانية؛ مما يتطلب استحضار مختلف المحطات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب الحديث، وكذا السلطات المحورية التي يحظى بها الملك في النسق السياسي والدستوري المغربي، التي لا تترك للنخبة السياسية سوى هامشا ضيقا للتحرك.
وبالعودة إلى تاريخ المغرب نجد أن النخبة السياسية في البلاد كانت تتكون من عنصرين رئيسيين: المخزن والخاصة، وضمن هذا السياق نجد فئة العلماء والشرفاء وشيوخ الزوايا التي تستمد قوتها وشرعيتها من وظائفها الدينية؛ هذا بالإضافة إلى رؤساء الحرف والقواد..
قبل أن تتراجع هذه النخبة بفعل الاحتلال الفرنسي، بعدما عمل هذا الأخير على تهميش إدارة المخزن؛ بالشكل انعكس بالسلب أيضا على أدوار "الخاصة" من علماء وشرفاء وشيوخ وزوايا(24).
وفي ظل هذه الظروف؛ سيطغى الطابع الوطني على هذه النخبة في سياق مواجهة المستعمر، كما ستتعزز الحركة الوطنية بفئات سبق أن تلقت تكوينا عصريا، الأمر الذي أسهم في تعزيز الوعي ببعض القيم الليبرالية المرتبطة بتقديس الحريات واعتماد أساليب ديموقراطية في تدبير الخلافات السياسية.
ونتيجة لحصول المغرب على استقلاله سنة 1956؛ ستشهد النخبة تطورا ملحوظا؛ بعدما ارتفع عدد موظفي الدولة، وتعزيز هذه الفئة بنخب ثقافية واقتصادية جديدة.
وهو ما سمح ببروز صنفين من النخب، الأولى: تقليدية؛ حاولت الاستمرار والمحافظة على خصائصها رغم التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية المتلاحقة، والثانية: حديثة؛ استفادت من هذه التحولات وبرزت في العقود الأخيرة؛ مما تمخض عنه نوع من الصراع والتنافس بين مختلف الفاعلين السياسيين.
إن أهم السبل التي تؤدي إلى ولوج عالم النخبة السياسية في المغرب؛ تتلخص في التعيين (النخبة الحكومية والإدارية العليا)، والانتخاب (النخبة البرلمانية).
فبخصوص اقتحام الأولى؛ يظل الأمر بحسب البعض مرهونا ب"الأصل النبيل" والإمكانيات المالية" والحصول على "الرضا المخزني"، فيما يظل عامل الكفاءة ثانويا.
فأن يكون المرء وزيرا في النسق المغربي فذلك يعني مرورا مفترضا عبر عدد من القنوات، ويعني كذلك حيازة أكيدة لعدد من الرساميل المفتوحة على الجاه والأصل النبيل(25)، كما أن المصاهرة تقود أيضا إلى صنع القرار(26).
أما اقتحام الثانية؛ وبالإضافة إلى السبل الانتخابية المشروعة؛ فهو يعتمد في كثير من الحالات على سبل متحايلة، وملتوية وغير شرعية؛ فما تعرفه العمليات الانتخابية من بعض مظاهر الفساد تفرض أشخاصا بعينهم وتحول دون تجدد هذه النخبة، كما أن تزكية العضو للترشيح للانتخابات التشريعية أو المحلية داخل مختلف الأحزاب؛ تخضع في العديد من الحالات لاعتبارات آنية وبعيدة عن الكفاءة والجدارة؛ بعدما تحول هاجس الأحزاب إلى الحصول على نسب مهمة من المقاعد داخل البرلمان، دون التفكير في تطوير أدائها ووظائفها.
وضمن هذا السياق، تعيش الأحزاب السياسية المغربية أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية ووظائفها الاجتماعية والسياسية، فالديموقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحرب؛ حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة؛ ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية؛ بالشكل الذي يكرس "شخصنة" هذه الهيئات ويحول دون تجددها، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للأنظمة السياسية بإعمال أسلوب الديموقراطية؛ وذلك في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها في ممارساتها الداخلية.
وأمام هذه الاعتبارات "يصير الوصول إلى القمة محكوما بعدد من الولاءات والتضحيات والتحالفات والخصومات والضرب تحت الحزام أيضا، خصوصا وأن الوصول إلى أعلى الهرم الحربي يفتح الطريق مباشرة نحو إمكانيات الاستوزار وصنع القرار"(27).
وكل هذه العوامل بالإضافة إلى ضعف التأطير والتعبئة والتنشئة الاجتماعية والسياسية الذي يترجمه المستوى الهزيل لإعلامها؛ والتعصب للمواقف – التي تترجمها ظاهرة الانشقاقات التي تعرفها هذه الأحزاب - وضعف وهشاشة ولاء أعضائها – التي يؤكدها أيضا الإقبال المكثف على الانتقال من حرب لآخر -؛ واعتماد إصلاحات داخلية "ترقيعية" مرحلية؛ يسهم في تكريس العزوف السياسي في أوساط المجتمع بكل فئاته.
وتؤكد مجموعة من المحطات في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال؛ أن النظام السياسي - الذي يتميز عادة بقدرة هائلة على احتواء أو إقصاء المشاريع المضادة -؛ وفي سبيل تحقيق نوع من التوازن للمؤسسة الملكية داخل الحقل السياسي المغربي؛ اتجه إلى إضعاف هذه الأحزاب؛ تارة بتشكيل أحزاب "إدارية منافسة" أو جمعيات مدنية تنافس الأحزاب على مستوى تدبير الشؤون المحلية؛ أو بالعمل على خلق ظروف تؤدي إلى انشقاق هذه الأحزاب، وتارة أخرى باحتوائها وإدماجها؛ عبر تمكين أعضائها من مناصب هامة، أو عبر ممارسة التهميش والإقصاء؛ وبخاصة في مواجهة النخب الحربية الذين يصعب تطويعها؛ بالشكل الذي يحول دون بلورة مشاريعها واقتراحاتها.
أما فيما يخص مؤسسة الحكومة، فقد لاحظ البعض أن "النظام عمد بدوره إلى المحافظة على ازدواجية هذه النخبة؛ إذ نجد نخبة من "المنتمين" في مقابل نخبة التقنوقراط، فقد تميل كفة المنتمين ضد التقنوقراط، وقد تميل كفة التقنوقراط ضد المنتمين، وذلك تبعا للظروف السياسية والاقتصادية، وسعي النظام إلى الحفاظ على هذه الازدواجية، هو بمثابة ضمانة للاستقرار السياسي ولإبعاد هذه المؤسسة عن جو الصراع السياسي"(28).
وكإجراء منه للتضييق على العمل الحكومي ومنافسة صلاحياته في مجالات تنفيذية مختلفة وزيادة على وجود حقائب وزارية "سيادية" تمارس خارج مسؤولية الأحزاب(الخارجية، الشؤون الإسلامية؛ الداخلية)، عمل النظام المغربي في العقود الأخيرة على إنشاء مجموعة من المؤسسات التي تعمل بتوجيهات ملكية وبإمكانيات مهمة؛ وتملك سلطات واسعة في اتخاذ القرارات الحاسمة في مختلف المجالات المندرجة ضمن صميم النشاط التنفيذي؛ الأمر الذي يتيح بروز نخب موازية ومنافسة للنخبة الحكومية(29).
وإذا كانت النخب الحربية قد ظلت إلى حدود التسعينيات من القرن المنصرم تشتغل في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة، وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة، فقد شهدت بعض التحول تبعا للمتغيرات السياسية التي شهدها المغرب في هذه الفترة - وصول المعارضة إلى الحكم - بالشكل الذي سمح بحدوث نوع من التجديد والتبدل في الأدوار.
وأمام هذه الأوضاع التي تعبر عن الجمود الذي أصبح يعتور عمل الأحزاب، تساءل البعض(30): هل يمكن لنخبة سياسية مصطنعة أن تراعي مصلحة الوطن والأمة، لما تكون قد أثبتت أنها فضلت – وعلى امتداد عقود من الزمن – مصالحها الأنانية واللاعادلة؟ ويضيف بأن خطابات اليمينيين فقيرة وبئيسة؛ تردد نفس "الألحان والأوزان".. أما اليساريون الجذريون.. فما زالوا تائهين بين ماضيهم ومستقبلهم.. وأما النخبة السياسية الاشتراكية التي وصلت مرة أخرى إلى السلطة الحكومية.. فلم تتوصل إلى التخلي الصريح عن إيديولوجيتها الاشتراكية التي أصبحت تعوق ليبراليتها الفعلية..
وضمن هذا السياق أيضا؛ وجه عدد من الباحثين والمهتمين مجموعة من الانتقادات لتجربة "التناوب" وحمل النخب الديموقراطية مسؤولية كبرى، نظرا لتحول المشاركة في العمل الحكومي إلى هدف، الأمر الذي أفرغها- التجربة- من أهميتها.
وأمام هذه الأوضاع وعدم بروز معارضة قوية وفاعلة في البرلمان، انخرط مجموعة من الفاعلين (نخبة من المثقفين، الصحافة المستقلة، هيئات حقوقية، جمعيات مدنية..) في نقاش موسع حول ضرورة إعمال إصلاحات حقيقية في النسق السياسي المغربي كفيلة بإحداث تغييرات فعالة.
وإذا كان البعض يعتقد بأهمية وضرورة تأهيل المؤسسة الحربية كمدخل للتحديث والديموقراطية وبخاصة مع صدور قانون الأحزاب، فإن الإصلاح الدستوري الكفيل بتوسيع وتوضيح مجال وهامش تحرك النخبة السياسية يعتبر بدوره أمرا مطلوبا.
الهوامش:
1- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، ترجمة جورج جحا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، ص 5
2- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، الطبعة الأولى 1989، ص 15
3- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 16
4- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 5
5- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، العدد 9 - 10 / 1989، ص 5
6- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، مرجع سابق؛ ص 8
7- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية، مرجع سابق؛ ص 11
8- حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، إفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى 2000، ص 154
9- مجموعة من الباحثين: مصادر الديموقراطية: ثقافة المجموع أم دور النخبة، إعداد: لاري دايموند، ترجمة: سمية فلوعبود، دار الساقي، لبنان؛ الطبعة العربية الأولى 1994؛ ص 222
10- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية؛ مرجع سابق، ص 10
11- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، مرجع سابق؛ ص 118
12- إدريس لكريني: "الديموقراطية" الأمريكية لمكافحة "الإرهاب" الدولي، مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة، عدد 125، ربيع 2006، ص 170
13- برهان غليون: مجتمع النخبة، دار البراق، تونس، الطبعة الثانية 1989، ص 11
14- خليل العناني: إشكالية التغيير في الوطن العربي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان؛ عدد 296 بتاريخ أكتوبر2003، ص 168
15- محمد السيد سليم: تدويل عمليات الإصلاح في الشرق الأوسط: وجهة نظر عربية؛ مجلة الديموقراطية، مؤسسة الأهرام، مصر، السنة السادسة، العدد 24 أكتوبر 2006، ص 16
16- إدريس لكريني: التداعيات الدولية الكبرى لأحداث 11 شتنبر، المطبعة والوراقة الوطنية، المغرب؛ الطبعة الأولى 2005؛ ص 195
17- محمد السيد سليم: تدويل عمليات الإصلاح في الشرق الأوسط: وجهة نظر عربية؛ مرجع سابق؛ ص 18
18- خليل العناني: إشكالية التغيير في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 166
19- محمد شقير: خصائص النخبة الحاكمة في الوطن العربي، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، العدد 9 - 10 / 1989، ص 23 وما بعدها
20- إدريس لكريني: "الديموقراطية" الأمريكية لمكافحة "الإرهاب" الدولي، مرجع سابق، ص ص 172 و 173
21- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة التاسعة 2005، ص123
22- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق؛ ص 7
23- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 42
24- حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، مرجع سابق؛ ص 159
25- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، دفاتر وجهة نظر (9) الطبعة الأولى 2006؛ ص 26
26- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، مرجع سابق؛ ص 31
27- عبد الرحيم العطري: صناعة النخبة بالمغرب، مرجع سابق، ص 36
28- عزيزة حاجي: النخب السياسية في المغرب، محاولة للتحديد، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق أكدال، الرباط، السنة الجامعية 2002- 2001 (غير منشورة)، ص 295
29- نشير إلى أن علاقة النظام السياسي بالنخبة السياسية وتحكمه في مسارها؛ يختلف في أشكاله بحسب الظروف السياسية وطبيعة النخبة السياسية نفسها، فقد يتخذ تدخله في مسارها شكلا صارما وعنيفا مثلما تم خلال إعلان حالة الاستثناء بعد بروز صراع سياسي نتج عنه تقديم ملتمس الرقابة في 15 يونيو 1964؛ وقد يكون أقل عنفا؛ إما في شكل تحكيم سياسي بطلب من الأطراف المتصارعة..، أو قد يكون في شكل ضمانات ملكية أو عن طريق إقرار أسلوب "الحوار والتراضي".. لمزيد من التفاصيل في هذا الشأن، راجع: عزيزة حاجي: النخب السياسية في المغرب؛ محاولة للتحديد، مرجع سابق، ص 295؛ ص 23
30- محمد الهلالي: اليساريون الثوريون بالمغرب، منشورات اختلاف، المغرب؛ الطبعة الأولى 2001 ص 9 و 10
المصدر :مدونات مكتوب د.إدريس لكريني-أستاذ جامعي، كلية الحقوق، مراكش)
http://drisslagrini.maktoobblog.com/659369/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ae%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%82%d8%b6%d8%a7%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b5%d9%84/
مقدمة
تنطوي دراسة النخبة في أي مجتمع على أهمية كبرى باعتبارها تسهم بشكل كبير في فهم وتفسير السلطة السياسية داخل الدولة، فداخل أي مجتمع نجد هناك فئة محدودة حاكمة؛ تحتكر أهم المراكز الاقتصادية والاجتماعية والسياسية..؛ وتلعب أدوارا طلائعية داخل النسق السياسي وتملك سلطات على مستوى اتخاذ القرارات أو التأثير في صياغتها في أقل الأحوال، وأخرى واسعة محكومة ولا تملك نفس الإمكانيات فيما يخص صناعة هذه القرارات.
وهكذا توجد في كل مجتمع من المجتمعات نخبة أتيحت لها إمكانية الاضطلاع بأدوار رئيسية ومهمة في مختلف المجالات.
ويطرح موضوع النخبة صعوبات مفاهيمية جمة؛ نظرا لتعدد الرؤى والمقاربات في هذا الشأن؛ وقد تناوله بالدراسة بعض الفلاسفة منذ آلاف السنين، فأفلاطون سبق وأن تحدث عن طبقة الحكماء.. كما استعملت كلمة "النخبة" في القرن السابع عشر لوصف سلع ذات تفوق معين، وامتد استعمالها فيما بعد ليشمل الإشارة إلى فئات اجتماعية متفوقة؛ كالوحدات العسكرية الخاصة أو الطبقات العليا من النبلاء(1).
وقد اكتسى مصطلح النخبة أهمية بالغة في بداية القرن المنصرم مع ظهور نظريات مرتبطة بهذا الشأن، قادها بعض الباحثين أمثال: باريتو وموسكا.. وقد تباينت الاصطلاحات التي ترمز إلى هذه الفئة ما بين الطليعة، الصفوة، السراة، الملأ..
أولا: مقاربة المفهوم
كان للباحثين الإيطاليين موسكا MOSKAوباريتو PARETO الأثر الكبير في ذيوع هذا المفهوم؛ من خلال دراساتهم الاجتماعية في بداية القرن العشرين، فقد أكدا معا على أن المجتمعات تنقسم عادة إلى طبقتين أو جماعتين: الأولى حاكمة؛ والثانية محكومة، وإذا كان موسكا قد فضل استعمال مصطلح الطبقة السياسية ليعبر به عن الفئة الأولى، فإن باريتو فضل مصطلح الطبقة الحاكمة للتعبير عنها.
والنخبة من منظورهما هي مجموعة قليلة من الأشخاص الذين توافرت لديهم شروط موضوعية (الثروة والقدرة..) وأخرى ذاتية (المواهب..) بالشكل الذي يجعلها متميزة عن باقي أفراد المجتمع.
أما لازويل Lassswel فقد اعتبر أنها تلك الطبقة التي تتميز بقدرتها على التأثير أكثر من غيرها، مع جنيها لنتائج ملموسة بفعل هذا التأثير.
وضمن تصور آخر؛ نجد رايت ميلز الذي ركز على المجتمع الأمريكي في دراساته، يقيم علاقة وطيدة بين النخبة وامتلاك إمكانية اتخاذ القرار، حيث توصل إلى أن هناك مجموعة من المؤسسات تتحكم في مسار الولايات المتحدة حددها في: المؤسسة العسكرية، المؤسسة السياسية؛ المؤسسة الشركات الكبرى، من خلال نخبة تحتل مكانة مهمة داخل هرم اتخاذ القرار داخل هذه المؤسسات.
وفي القواميس الإنجليزية تعرف باعتبارها:" أقوى مجموعة من الناس في المجتمع، ولها مكانتها المتميزة وذات الاعتبار"(2). بينما القواميس الفرنسية فتحدثت في هذا الشأن عن أشخاص وجماعات تتيح لهم إمكانية امتلاك القوة أو التأثير؛ المشاركة في صياغة تاريخ جماعة معينة، عبر وسائل وسبل عديدة (اتخاذ القرارات؛ اقتراح الأفكار، إبداء المشاعر..).
والجدير بالذكر أن هناك مجموعة من الاعتبارات الذاتية (الذكاء، الإبداع، الاجتهاد، الطموح..) والموضوعية (الإمكانيات الاقتصادية والعلمية والوظيفية..) التي تجعل النخبة - باعتبارها أقلية - تتحكم في فئات عريضة من المجتمع.
ولعل أبرز ما تتميز به هذه الأقلية هو تلك القوة أو القدرة على التأثير على الآخرين؛ فتقنعهم أو تغريهم أو تهددهم؛ وتنتهي إلى توجيههم وقيادتهم والاستفادة منهم حسب أهداف معينة(3).
وعلى الرغم من الصعوبات التي تعتور تحديد مفهوم قار للنخبة بالنظر لتعدد التعريفات الواردة بشأنها، يمكن القول أن المصطلح يحيل إلى مجموعة من الأفراد الذين يتموقعون في مراكز سياسية واجتماعية واقتصادية.. عليا داخل المجتمع؛ تسمح لهم بصناعة القرارات في مختلف المجالات أو التأثير في صياغته.
وبناء على ذلك؛ كان من الطبيعي أن تتوافر لكل مجتمع من المجتمعات - بغض النظر عن درجة نمائه وتطوره - نخبة تحظى بأهمية كبرى على مستوى قيادة الحياة الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية أو العسكرية أو الاقتصادية..
ويعتقد البعض أن ترتيب وموقع أنماط "الصفوة" يختلف من حيث الأهمية والقوة، من مجتمع إلى آخر، كما يختلف في المجتمع الواحد من مرحلة إلى أخرى. ففي المجتمع البدائي أو البدوي، كانت الشجاعة والفروسية والكرم والشعر والثروة وحدها تشكل قيم وإمكانات "الصفوة".. وفي مجتمع أكثر تطورا وتحضرا يصبح أهل العلم والرأي والحكمة والفراسة، هم صفوة المجتمع، ويجري حل الأمور تحت رعايتهم ومشورتهم(4).
أما بخصوص النخبة السياسية؛ فنجد بنتام Puntam يقصر مفهوم النخبة فقط على "أولئك الذين لهم سلطة أكبر على الآخرين"، فالنخبة السياسية تقتصر فقط على البرلمانيين، الوزراء ورؤساء الدولة بالإضافة إلى كبار الموظفين(5)..
ومن منظور بوتومور؛ تعتبر النخبة السياسية هي تلك المجموعة التي تضم أفرادا يمارسون السلطة السياسية داخل المجتمع خلال فترة زمنية محددة. وضمن هذا الإطار نجد أعضاء الحكومة، والموظفون الإداريون السامون والقادة العسكريون والمستثمرون الاقتصاديون الكبار وبعض العائلات النافذة سياسيا..
أما موسكا وباريتو فقد كانا معا مهتمين بالنخبة باعتبارها فئات من الناس تمارس السلطة السياسية مباشرة؛ وتكون في وضع تؤثر فيه بشدة في عملية ممارسة هذه السلطة(6).
وذهب العديد من الباحثين إلى أن هذه النخبة تشكل فئة اجتماعية متقاربة، رغم بعض اختلافاتها الإيديولوجية والسياسية، كما أكدوا أيضا أنها تأتي عبر سبل مختلفة ومتعددة؛ تتأرجح بين بالوراثة والقوة والتعيين والتزكية تارة وبين الانتخاب تارة أخرى.
وإذا كان هناك اعتقاد بأن النخب السياسية مفتوحة أمام كل أفراد المجتمع كيفما كان منشِؤها الاجتماعي، مهنها، مستواها الثقافي أو طبيعة جنسها..؛ فإن موسكا اعتبر أن نقيض هذا النموذج هو السائد؛ على اعتبار أن هناك أقلية تتميز عن باقي شرائح المجتمع بخصائص معينة تمنحها تفوقا ماديا، ثقافيا وأدبيا..(7).
وفي مقابل الرأي الذي يركز على النخبة السياسية في مقارباته وتحليلاته كأرسطو، باريتو، موسكا..، هناك اتجاه آخر قاده كل من سان سيمون وكارل منهايم وريمون آرون ورايت ميلز..، أكد فيه أصحابه على وجود أشكال متعددة من النخب؛ تعمل بشكل مشترك (نخبة عسكرية، نخبة اقتصادية وسياسية..)، فالمجتمع - بحسب هذا الرأي الأخير - ينتج بالإضافة إلى نخب سياسية نخبا أخرى، غير أن هذه الأخيرة لا تحظى بممارسة أدوار سياسية كبرى، بل يظل تأثيرها في قضايا ومواقف هذا الحقل متواضعا.
ويعتقد أحد الباحثين أن الفرق الأساسي بين النخبة السياسية وباقي النخب يكمن في كون الأولى تتمتع بمجموعة من الصلاحيات تجعلها هي المقررة الأولى للمجتمع؛ بحيث تختار له توجهاته الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية أحيانا، مما يجعل سلطاتها واسعة وتأثيرها لا محدودا، أما النخب الأخرى؛ فإنها تمارس نفوذها وسلطتها داخل مجالاتها الخاصة، دون أن تستطيع التأثير على التوجهات السياسية بشكل قوي وفعال(.
ومن هذا المنطلق؛ فالنخبة السياسية تحتل مركزا متميزا ضمن قائمة مختلف النخب الأخرى، باعتبارها تملك القوة والقدرة داخل النظام السياسي للدولة، وتسهم بشكل محوري في صناعة القرارات.
ولقد جاءت نظرية النخبة كرد فعل على استحالة تطبيق الديموقراطية باعتبارها "حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه"، وكبديل لنظرية الطبقات الاجتماعية التي جاءت بها الماركسية. فباريتو في كتابه "العقل والمجتمع حدد مفهوم النخبة في كونها مجموعة من الأفراد الذين توفقوا في مختلف أنشطتهم ووظائفهم بشكل جيد داخل "مباراة الحياة"، بالشكل يجعلهم قادرين على احتلال مناصب قيادية للقيام بأدوار سياسية واجتماعية محورية داخل المجتمع؛ وتظل هذه القيادة غير مشروطة بالضرورة بموافقة أفراد هذا الأخير. أما موسكا فيؤكد على أنها مجموعة قليلة من الأشخاص يميزها التماسك وتملك القوة والإمكانية في مواجهة الأصوات المعارضة لها، وهي بذلك تملك قدرة فائقة على تنظيم أغلبية اجتماعية غير منظمة، غير أنه وعلى عكس باريتو يؤكد على ضرورة توافر موافقة المحكومين في هذا الشأن (مقاربة ديموقراطية). فيما يبرز بوتومور أيضا الدور الهام الذي تلعبه النخبة والمرتبط بتدبير شؤون المجتمع وقيادته.
أما ميشيل روبرتو ومن خلال مقاربته لنشاط الأحزاب السياسية؛ توصل إلى أن هذه الأخيرة باعتبارها مظهرا من مظاهر الممارسة الديموقراطية؛ تصبح مع مرور الوقت رهينة تحكم أقلية تستأثر بسلطة واسعة على مستوى اتخاذ القرارات داخل التنظيم، ونفس الشيء بالنسبة لبنيات اجتماعية أخرى بما فيها الدولة، وبخاصة وأن هذه البنيات تحتاج إلى أقليات منظمة.
من خلال المعطيات السابقة يمكن استخلاص أن النخبة السياسية هي أقلية داخل المجتمع، تتوفر على خصائص وقدرات ذاتية وإمكانيات أخرى موضوعية؛ تمكنها من قيادة المجتمع والتأثير في مساره من خلال قدرتها على صناعة القرارات السياسية..
من المفروض أن تحتل النخبة السياسية - باعتبارها الفئة التي تستأثر باتخاذ القرارات الأساسية في الدولة أو تؤثر فيها- مكانة متميزة داخل المجتمعات باعتبارها القاطرة التي ينبغي أن تقود حركة التطور والتنمية، غير أن نجاح هذا الدور الحيوي والهام يظل مرتبطا بمدى قوتها ومصداقيتها وتجددها.
وفي هذا السياق؛ تشير بعض الدراسات إلى أن النخبة السياسية وحدها (رؤساء الجمهوريات، ورؤساء الوزارات، والأحزاب والمجالس البرلمانية..) تستطيع أن تحدث الإصلاحات والتغير داخل المجتمع والدولة، ذلك أن استمرارية الديموقراطية على امتداد فترات زمنية طويلة يتطلب العديد من التغييرات والتعديلات، تستطيع النخبة من خلالها – النخبة التي تقدر الديموقراطية وتستجيب للاهتمامات المختلفة وتعمل على دمجها – أن تقوم باستمرار بإصلاح الديموقراطية وإعادة تشكيلها(9).
ويبدو أن استقلال النخب السياسية، لا يمنع من ارتباطها بممثليها والفئات التي تدعمها، وهذا هو النصف الثاني من الحقيقة التي أبان عنها شوميتر، وقد بين فيبر ذلك فيما يخص الأحزاب والتنظيمات السياسية؛ بحيث أن القادة الحربيين في تنافسهم على السلطة غالبا ما يحققون لأنصارهم بعض الرغبات والمطالب(10)..
كما أن أولئك الذين هم في مراكز السلطة، يعون تماما مدى عدم استقرارهم في مراكزهم؛ ولذا فإنهم يقيمون اعتبارا للفئات المعارضة؛ إذ أنهم أنفسهم كانوا في صفوف المعارضة وسيعودون في يوم من الأيام إلى تلك الصفوف(11).
ومن هذا المنطلق؛ يظل التجديد داخل هذه الفئة أمرا مطلوبا - ولو تم ببطء - لأجل تعزيزها بعناصر جديدة كل حين، غير أن الملاحظ هو أن هذا التغيير يظل مرتبطا بطبيعة النظام السياسي الذي تشتغل فيه هذه النخبة، فكلما كان الفضاء ديموقراطيا ومنفتحا؛ إلا وبرزت حركية وحيوية هذا التجدد باستمرار، وكلما كان النظام السياسي منغلقا وشموليا حدث العكس.
إن النخب السياسية في العديد من المجتمعات التي تعاني من ويلات التسلط؛ تضع شروطا تعجيزية للالتحاق بصفوفها؛ كما أنها لا تقر بأهمية الممارسة الديموقراطية إلا عندما تكون هذه الأخيرة في صالحها، فآلية الانتخابات المزورة تسمح بإعادة تجديد نفس الوجوه أو صعود النخب الموالية لها.
ومن هنا نطرح سؤالا ملحا: هل يمكن لنخبة سياسية لا تؤمن بالديموقراطية ولا تتبناها في ممارساتها أن تطالب جهات أخرى بتحقيقها وبلورتها في الواقع؟
ثانيا: أزمة التغيير الديموقراطي في المنطقة العربية
بدأت الديموقراطية في العقود الأخيرة التي أعقبت انهيار المعسكر الشرقي ونهاية الحرب الباردة - كما هو الشأن بالنسبة لمجموعة من القضايا الحيوية الأخرى كحقوق الإنسان والمحافظة على البيئة ومكافحة الإرهاب..- تأخذ بعدا عالميا، حيث تزايد الاهتمام بهذا الشأن داخل الأوساط الدولية الرسمية منها وغير الرسمية؛ بعدما ظلت حتى وقت قريب تعد شأنا داخليا يحاط بجدار سميك تفرضه سيادة الدول، وهذا ما شكل في أحد جوانبه رادعا معنويا لتمادي مختلف الأنظمة الديكتاتورية في استبدادها.
فعلى مستوى الممارسات الانفرادية لبعض الدول؛ أضحى توجيه المساعدات يخضع لمعايير احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان، كما أن تقييم أداء الأنظمة والرضا عنها أضحى في جانب مهم منه يخضع لهذه الاعتبارات، فيما تنال الدول التي تصنف غير ديموقراطية ولا تحترم حقوق الإنسان حملات تشهيرية وعقوبات سياسية واقتصادية؛ وقد تصل إلى حد ممارسة الضغوطات العسكرية ضدها أحيانا.
وعلى المستوى الجماعي، فلا تخفى أهمية عامل احترام الديموقراطية وحقوق الإنسان كمؤشر أساسي ضمن مجموعة من المؤشرات التي يقاس بها مدى تقدم وتطور الدول. ومن جانب آخر تمكن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من مراكمة مجموعة من القرارات التي تؤكد الاهتمام الدولي بهذه القضية والتي وصلت إلى حد استعمال القوة العسكرية لأغراض مرتبطة بتثبيت الديموقراطية مثلما هو الشأن في هاييتي في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، أو التدخل لأغراض إنسانية مثلما تم في كل من العراق أو الصومال في بداية التسعينيات من القرن الماضي..
وإذا استحضرنا كون الديموقراطية ترتبط في الغالب بتداول السلطة بشكل مشروع وسلمي، واحترام حقوق الإنسان مع القدرة على تدبير الاختلاف.. فإنه وباعتماد هذا التعريف ومقاربة الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في الأقطار العربية على ضوئه، يتبين منذ الوهلة الأولى أن هذه الأخيرة تعيش أزمة ديموقراطية حقيقية، لا تخلو من تداعيات سلبية داخلية وأخرى خارجية.
حقيقة أن معظم الأقطار العربية كانت من ضمن الدول التي دخلت معترك هذه التغيرات بنسب متفاوتة في أعقاب التحولات الديموقراطية العالمية التي هبت على مختلف المناطق من العالم، بعدما لم يعد بإمكان الأنظمة المستبدة تجاهل الضغوطات الدولية القائمة في هذا الشأن - كما رأينا -.
وإذا كانت دول أوربا الشرقية وأمريكا اللاتينية قد انخرطت في التغيير بشكل جدي وانحازت للديموقراطية كأسلوب؛ فإن مجمل الإصلاحات التي عرفتها الأقطار العربية بدت بطيئة وغير شاملة، ولم تعكس في العمق تطلعات الشعوب، وظهرت وكأنها تستهدف تحسين صور وسمعة هذه الدول في الخارج، الأمر الذي ولد مجموعة من الإكراهات الاجتماعية والاقتصادية.. التي لم تخل في عمقها من تداعيات دولية من قبيل تزايد الهجرة وانتشار التطرف(12).
ولعل هذا ما دفع البعض إلى القول بأن: "الأزمة الراهنة في العالم العربي تعيدنا إلى نقطة الصفر، أي إلى طرح الأسئلة ذاتها التي طرحها مفكرو ما سمي بعصر النهضة منذ بدايات تكون العالم العربي الحديث كما هو عليه الآن؛ على الصعيد السياسي على الأقل"(13).
وقد أدت حالة الترهل العربي إلى نتيجة ملحوظة مفادها أن التغيير أصبح ضرورة تمليها العوامل الخارجية، بدلا من أن يصبح رغبة داخلية تدفع نحو التطوير الطوعي والتوجه الاختياري نحو الانعتاق من جمود الماضي، وهو ما قد يعود في جزء كبير منه إلى ضعف ثقافة التغيير العربية – إن وجدت- وعدم قدرتها على النهوض مرة أخرى بعد أن تآكلت مع انتهاء حركة الاستقلال الوطني(14).
ونتيجة لربط الولايات المتحدة ما عرفته من عمليات إرهابية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، بغياب هامش الحريات والديموقراطية في الأقطار العربية، تزايدت الضغوطات الأمريكية والأوربية المطالبة بإعمال إصلاحات ديموقراطية في مجمل الدول العربية(15).
ففي عام 2003، أقر الاتحاد الأوربي "سياسة الجار الصالح الجديدة" التي تركز بصورة شبه كاملة على قضايا الإصلاح الداخلي بالدول العربية(16).
كما شهد العام 2004؛ بروز تحالف اتحاد دولي معني بالديموقراطية بالشرق الأوسط، ففي أعقاب اقتراح الولايات المتحدة لمشروع الشرق الأوسط الكبير، تقدمت ألمانيا في فبراير عام 2004 بمقترح يحمل عنوان:" مبادرة الشرق الأوسط الأوسع"، وشاركت فرنسا في رعايتها في وقت لاحق.. وخلال شهر يونيو 2004 تلاقت العديد من المشروعات الأوربية والأمريكية، من خلال قمة مجموعة الثمانية في الولايات المتحدة والقمة الأورو- أمريكية في دبلن وقمة الناتو في إستانبول(17).
وقد تباينت ردود الفعل العربية إزاء هذه المشاريع الخارجية؛ بين متحمس؛ وجد فيها مدخلا لتحريك ملف الإصلاحات الديموقراطية في منطقة تفرض فيها الأنظمة طوقا من حديد على أي إصلاح أو تغيير في هذا الشأن، وبين معارض متشائم من أية مشاريع "دخيلة" لا تنبعث من خصوصيات وثقافة المنطقة بقدر ما تنطوي على خلفيات مصلحية لطارحيها.
وإذا استحضرنا كون التغيير- وكما هو معروف في الأدبيات السياسية - يصبح أكثر فاعلية وصدقية إذا ساهمت القاعدة الجماهيرية العريضة في طرحه وبلورته بما يحقق أهدافها ورغباتها(18)، فإنه وبغض النظر عن هذه المواقف المتباينة؛ يمكن القول بأن تزايد هذه الضغوطات الخارجية من جهة؛ وتنامي الاستياء الشعبي العربي جراء الركود الذي تعرفه الأوضاع السياسية من جهة ثانية؛ يشكل دليلا على أزمة التغيير الديموقراطي في الأقطار العربية ومؤشرا على عجز النخبة السياسية في هذه المنطقة على بلورة إصلاحات بديلة وفعالة.
ثالثا: النخب العربية ومطلب الإصلاح الديموقراطي
تتقاسم النخب السياسية العربية الحاكمة مجموعة من الخاصيات المشتركة، لخصها أحد الباحثين(19) في ثلاث خصائص هي: التجربة السياسية المشتركة (الخبرة التاريخية، الخبرة الدينية، الخبرة السياسية) ثم التكوين الفكري المشترك (المعتقد الديني، المعتقد السياسي، التكوين العصري)؛ هذا فضلا عن تشابه طرق تولي الحكم (الوراثة، الانقلاب، الخلافة، الانتخاب).
وقد نجحت الأنظمة السياسية في مختلف البلدان العربية إلى حد بعيد في تدجين العديد النخب(المثقفة، الاقتصادية، الدينية، العسكرية، الحربية، الحكومية..) تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، وبخاصة وأن فئة كبيرة من هذه الأنظمة تعتمد في استراتيجيتها التسلطية على النخبة السياسية إلى جانب نظيرتها العسكرية، وتبين تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وتورطها في فساد مالي وإداري وسياسي..؛ مما أسهم بشكل كبير في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة وما بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها. الأمر أفقد هذه النخب ثقة الجماهير؛ وولد شعورا بالإحباط في أوساط الشعوب العربية، فيما فضلت نخب أخرى الانكفاء على نفسها والانزواء بعيدا..
وبغض النظر عن وجود رغبة حقيقية لدى النخبة السياسية لإجراء تغييرات جدية في الأنساق السياسية العربية أو غيابها، فإن الإصلاح الديموقراطي الحقيقي في المنطقة، لا ينبغي أن يرتبط بمشاريع إصلاحية خارجية، بقدر ما ينبغي أن يرتكز على الإنصات إلى نبض الشارع العربي وتحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بهذه البلدان، بعيدا عن كل إملاءات خارجية لا تحقق إلا مصالح مروجيها.. ومع ذلك؛ ينبغي استثمار هذه المشاريع بشكل محسوب وذكي للضغط على الأنظمة العربية من خلال حثها على فتح المجال أمام مختلف الفاعلين داخليا، لبلورة تصورات ومشاريع إصلاحية ديموقراطية حقيقية..(20)، ذلك أن الإصلاحات الكفيلة بإخراج الأقطار العربية من إخفاقاتها وتخلفها يظل مشروطا بفتح ورشات إصلاحية تنبع من الداخل، لتعكس الحاجات الحقيقية الملحة لشعوب المنطقة الكفيلة بإخراجها من إكراهاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية..
ولا يخفي انعكاس هذه الأوضاع على المجتمع، فالتماهي بالمتسلط يشكل أحد" المظاهر البارزة في سعي الإنسان المقهور لحل مأزقه الوجودي والتخفيف من انعدام الشعور بالأمن والتبخيس الذاتي الذي يلحق به من جراء وضعية الرضوخ… والتماهي بالمعتدي هو من أقوى عوامل مقاومة التغيير، وعرقلة التحرر الوطني والاجتماعي(21).
والملاحظ أن الركود السياسي الذي تشهده معظم الأقطار العربية من جهة؛ وتهافت هذه المشاريع الخارجية على المنطقة من جهة ثانية؛ يؤكد حجم التحديات والمسؤوليات التاريخية المطروحة على عاتق النخب العربية بشتى أصنافها باتجاه بلورة وفرض إصلاحات تكون في حجم التحديات الداخلية والخارجية.
ويعتقد أحد الباحثين(22) أن أزمة "الصفوة العربية" أزمة مركبة، ولها عدة جوانب؛ من بينها:
1- ضعف المصداقية لدى هذه الصفوة، بحيث تأكد لجل الناس في الوطن العربي أن الأقوال والتصريحات والشعارات مخالفة ومتناقضة مع الأفعال والممارسة والتطبيق.
2- الفشل والهزائم والإحباطات التي سادت الشعوب العربية، وهي مسؤولية الصفوة السياسية بالدرجة الأولى.
3- بسبب ضعف أو غياب المصداقية، وبسبب تراكم الفشل، فقدت الشعوب العربية "الثقة" في قياداتها، وتفشى القنوط بين كثير من الأوساط الشعبية.
ويضيف بأن أزمة "الصفوة العربية المعاصرة" هي أزمة قيم، ذلك أن نجاح وتألق "النموذج التاريخي" كان بسبب ثروته من القيم، وبسبب تفاعل تلك القيم وانبساط سلطانها في الحياة؛ ولا تزال هي النبع وهي المصدر فلا صفوة ولا نجاح بدون قيم وبدون الصدق في الفعل والممارسة(23).
إن النخب السياسية العربية الحاكمة منها أو تلك المتموقعة في صفوف المعارضة؛ ينبغي أن تراهن على الجماهير؛ وتستمد منها مشروعيتها وقوتها، كما أن إيمانها بالديموقراطية مبدأ وسلوكا يعد منطلقا لتحقيق تغيير حقيقي في الأقطار العربية.
والجدير بالذكر أن تاريخ البشرية يبرز بأن النخب عندما تتحمل مسؤوليتها؛ تسهم بشكل كبير في تطور مجتمعاتها، فقد برزت في الماضي نخب عربية وإسلامية أثرت الحضارة الإنسانية بمواقفها وأفكارها وأسهمت بشكل ملحوظ في تحديث وتطوير مجتمعاتها.
ومن تم فسكوت النخب وعدم فضحها ونقدها لهذه الأوضاع، يعد في حد ذاته تواطؤا مع الأنظمة وتشجيعا لها من أجل التمادي في تسلطها.
ولعل الموضوعية تقتضي - في ظل الأوضاع المأزومة التي تعيشها مختلف الأقطار العربية في شتى المجالات – القيام بوقفة صريحة مع الذات والاعتراف بالأخطاء؛ والوقوف على العلل ومكامن الخلل؛ لأن ذلك هو السبيل الأساسي لتحقيق تغيير في حجم التطلعات والانتظارات الداخلية والتحديات التي يفرضها المحيط الدولي.
وإذا كان الدور القيادي للنخبة على مستوى الإصلاح والتغيير؛ ينطوي على أهمية كبرى في مختلف المجتمعات البشرية؛ فإن هذا الدور يصبح أكثر أهمية وحيوية وملحاحية في المنطقة العربية.
رابعا: النخبة السياسية في المغرب
سارت معظم الدراسات التي انصبت على مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب، في اتجاهين، الأول: أنكر وجود نظرية للنخبة السياسية (عربيا ومغربيا) نظرا لارتباطها بالمفهوم الغربي ومقوماته، سواء في أبعاده التاريخية الماركسية أو الديموقراطية، والثاني: أكد على هذا الوجود؛ سواء بالاعتماد على التاريخ السياسي للمغرب أو من خلال ربط ظهورها بالوجود الاستعماري.
إن مقاربة موضوع النخبة السياسية في المغرب ينطوي على صعوبات شتى؛ نظرا لتأثرها بمجمل التحولات التي شهدها المغرب من جهة؛ وبمواقف النظام السياسي من جهة ثانية؛ مما يتطلب استحضار مختلف المحطات السياسية الكبرى في تاريخ المغرب الحديث، وكذا السلطات المحورية التي يحظى بها الملك في النسق السياسي والدستوري المغربي، التي لا تترك للنخبة السياسية سوى هامشا ضيقا للتحرك.
وبالعودة إلى تاريخ المغرب نجد أن النخبة السياسية في البلاد كانت تتكون من عنصرين رئيسيين: المخزن والخاصة، وضمن هذا السياق نجد فئة العلماء والشرفاء وشيوخ الزوايا التي تستمد قوتها وشرعيتها من وظائفها الدينية؛ هذا بالإضافة إلى رؤساء الحرف والقواد..
قبل أن تتراجع هذه النخبة بفعل الاحتلال الفرنسي، بعدما عمل هذا الأخير على تهميش إدارة المخزن؛ بالشكل انعكس بالسلب أيضا على أدوار "الخاصة" من علماء وشرفاء وشيوخ وزوايا(24).
وفي ظل هذه الظروف؛ سيطغى الطابع الوطني على هذه النخبة في سياق مواجهة المستعمر، كما ستتعزز الحركة الوطنية بفئات سبق أن تلقت تكوينا عصريا، الأمر الذي أسهم في تعزيز الوعي ببعض القيم الليبرالية المرتبطة بتقديس الحريات واعتماد أساليب ديموقراطية في تدبير الخلافات السياسية.
ونتيجة لحصول المغرب على استقلاله سنة 1956؛ ستشهد النخبة تطورا ملحوظا؛ بعدما ارتفع عدد موظفي الدولة، وتعزيز هذه الفئة بنخب ثقافية واقتصادية جديدة.
وهو ما سمح ببروز صنفين من النخب، الأولى: تقليدية؛ حاولت الاستمرار والمحافظة على خصائصها رغم التطورات السياسية والاجتماعية والثقافية المتلاحقة، والثانية: حديثة؛ استفادت من هذه التحولات وبرزت في العقود الأخيرة؛ مما تمخض عنه نوع من الصراع والتنافس بين مختلف الفاعلين السياسيين.
إن أهم السبل التي تؤدي إلى ولوج عالم النخبة السياسية في المغرب؛ تتلخص في التعيين (النخبة الحكومية والإدارية العليا)، والانتخاب (النخبة البرلمانية).
فبخصوص اقتحام الأولى؛ يظل الأمر بحسب البعض مرهونا ب"الأصل النبيل" والإمكانيات المالية" والحصول على "الرضا المخزني"، فيما يظل عامل الكفاءة ثانويا.
فأن يكون المرء وزيرا في النسق المغربي فذلك يعني مرورا مفترضا عبر عدد من القنوات، ويعني كذلك حيازة أكيدة لعدد من الرساميل المفتوحة على الجاه والأصل النبيل(25)، كما أن المصاهرة تقود أيضا إلى صنع القرار(26).
أما اقتحام الثانية؛ وبالإضافة إلى السبل الانتخابية المشروعة؛ فهو يعتمد في كثير من الحالات على سبل متحايلة، وملتوية وغير شرعية؛ فما تعرفه العمليات الانتخابية من بعض مظاهر الفساد تفرض أشخاصا بعينهم وتحول دون تجدد هذه النخبة، كما أن تزكية العضو للترشيح للانتخابات التشريعية أو المحلية داخل مختلف الأحزاب؛ تخضع في العديد من الحالات لاعتبارات آنية وبعيدة عن الكفاءة والجدارة؛ بعدما تحول هاجس الأحزاب إلى الحصول على نسب مهمة من المقاعد داخل البرلمان، دون التفكير في تطوير أدائها ووظائفها.
وضمن هذا السياق، تعيش الأحزاب السياسية المغربية أزمة حقيقية على مستوى تدبير اختلافاتها الداخلية ووظائفها الاجتماعية والسياسية، فالديموقراطية الداخلية تصبح بدون جدوى كلما تم الاقتراب من مراكز القرار داخل الهياكل الرئيسية للحرب؛ حيث يفرض أسلوب التزكية والتعيين نفسه بقوة؛ ويسود منطق الوراثة في بناء الشرعية السياسية؛ بالشكل الذي يكرس "شخصنة" هذه الهيئات ويحول دون تجددها، وهذا يدفعنا إلى التساؤل عن مدى جدية ومصداقية مطالبة هذه الأحزاب للأنظمة السياسية بإعمال أسلوب الديموقراطية؛ وذلك في الوقت الذي تتنكر له هي نفسها في ممارساتها الداخلية.
وأمام هذه الاعتبارات "يصير الوصول إلى القمة محكوما بعدد من الولاءات والتضحيات والتحالفات والخصومات والضرب تحت الحزام أيضا، خصوصا وأن الوصول إلى أعلى الهرم الحربي يفتح الطريق مباشرة نحو إمكانيات الاستوزار وصنع القرار"(27).
وكل هذه العوامل بالإضافة إلى ضعف التأطير والتعبئة والتنشئة الاجتماعية والسياسية الذي يترجمه المستوى الهزيل لإعلامها؛ والتعصب للمواقف – التي تترجمها ظاهرة الانشقاقات التي تعرفها هذه الأحزاب - وضعف وهشاشة ولاء أعضائها – التي يؤكدها أيضا الإقبال المكثف على الانتقال من حرب لآخر -؛ واعتماد إصلاحات داخلية "ترقيعية" مرحلية؛ يسهم في تكريس العزوف السياسي في أوساط المجتمع بكل فئاته.
وتؤكد مجموعة من المحطات في تاريخ مغرب ما بعد الاستقلال؛ أن النظام السياسي - الذي يتميز عادة بقدرة هائلة على احتواء أو إقصاء المشاريع المضادة -؛ وفي سبيل تحقيق نوع من التوازن للمؤسسة الملكية داخل الحقل السياسي المغربي؛ اتجه إلى إضعاف هذه الأحزاب؛ تارة بتشكيل أحزاب "إدارية منافسة" أو جمعيات مدنية تنافس الأحزاب على مستوى تدبير الشؤون المحلية؛ أو بالعمل على خلق ظروف تؤدي إلى انشقاق هذه الأحزاب، وتارة أخرى باحتوائها وإدماجها؛ عبر تمكين أعضائها من مناصب هامة، أو عبر ممارسة التهميش والإقصاء؛ وبخاصة في مواجهة النخب الحربية الذين يصعب تطويعها؛ بالشكل الذي يحول دون بلورة مشاريعها واقتراحاتها.
أما فيما يخص مؤسسة الحكومة، فقد لاحظ البعض أن "النظام عمد بدوره إلى المحافظة على ازدواجية هذه النخبة؛ إذ نجد نخبة من "المنتمين" في مقابل نخبة التقنوقراط، فقد تميل كفة المنتمين ضد التقنوقراط، وقد تميل كفة التقنوقراط ضد المنتمين، وذلك تبعا للظروف السياسية والاقتصادية، وسعي النظام إلى الحفاظ على هذه الازدواجية، هو بمثابة ضمانة للاستقرار السياسي ولإبعاد هذه المؤسسة عن جو الصراع السياسي"(28).
وكإجراء منه للتضييق على العمل الحكومي ومنافسة صلاحياته في مجالات تنفيذية مختلفة وزيادة على وجود حقائب وزارية "سيادية" تمارس خارج مسؤولية الأحزاب(الخارجية، الشؤون الإسلامية؛ الداخلية)، عمل النظام المغربي في العقود الأخيرة على إنشاء مجموعة من المؤسسات التي تعمل بتوجيهات ملكية وبإمكانيات مهمة؛ وتملك سلطات واسعة في اتخاذ القرارات الحاسمة في مختلف المجالات المندرجة ضمن صميم النشاط التنفيذي؛ الأمر الذي يتيح بروز نخب موازية ومنافسة للنخبة الحكومية(29).
وإذا كانت النخب الحربية قد ظلت إلى حدود التسعينيات من القرن المنصرم تشتغل في جو سياسي قوامه الحذر وعدم الثقة بين مختلف الفرقاء السياسيين وسيادة ثقافة المعارضة، وتزايد أدوار البيروقراطية ضمن المناصب العليا للدولة، فقد شهدت بعض التحول تبعا للمتغيرات السياسية التي شهدها المغرب في هذه الفترة - وصول المعارضة إلى الحكم - بالشكل الذي سمح بحدوث نوع من التجديد والتبدل في الأدوار.
وأمام هذه الأوضاع التي تعبر عن الجمود الذي أصبح يعتور عمل الأحزاب، تساءل البعض(30): هل يمكن لنخبة سياسية مصطنعة أن تراعي مصلحة الوطن والأمة، لما تكون قد أثبتت أنها فضلت – وعلى امتداد عقود من الزمن – مصالحها الأنانية واللاعادلة؟ ويضيف بأن خطابات اليمينيين فقيرة وبئيسة؛ تردد نفس "الألحان والأوزان".. أما اليساريون الجذريون.. فما زالوا تائهين بين ماضيهم ومستقبلهم.. وأما النخبة السياسية الاشتراكية التي وصلت مرة أخرى إلى السلطة الحكومية.. فلم تتوصل إلى التخلي الصريح عن إيديولوجيتها الاشتراكية التي أصبحت تعوق ليبراليتها الفعلية..
وضمن هذا السياق أيضا؛ وجه عدد من الباحثين والمهتمين مجموعة من الانتقادات لتجربة "التناوب" وحمل النخب الديموقراطية مسؤولية كبرى، نظرا لتحول المشاركة في العمل الحكومي إلى هدف، الأمر الذي أفرغها- التجربة- من أهميتها.
وأمام هذه الأوضاع وعدم بروز معارضة قوية وفاعلة في البرلمان، انخرط مجموعة من الفاعلين (نخبة من المثقفين، الصحافة المستقلة، هيئات حقوقية، جمعيات مدنية..) في نقاش موسع حول ضرورة إعمال إصلاحات حقيقية في النسق السياسي المغربي كفيلة بإحداث تغييرات فعالة.
وإذا كان البعض يعتقد بأهمية وضرورة تأهيل المؤسسة الحربية كمدخل للتحديث والديموقراطية وبخاصة مع صدور قانون الأحزاب، فإن الإصلاح الدستوري الكفيل بتوسيع وتوضيح مجال وهامش تحرك النخبة السياسية يعتبر بدوره أمرا مطلوبا.
الهوامش:
1- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، ترجمة جورج جحا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الطبعة الثانية، ص 5
2- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، الطبعة الأولى 1989، ص 15
3- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 16
4- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 5
5- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، العدد 9 - 10 / 1989، ص 5
6- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، مرجع سابق؛ ص 8
7- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية، مرجع سابق؛ ص 11
8- حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، إفريقيا الشرق، المغرب، الطبعة الأولى 2000، ص 154
9- مجموعة من الباحثين: مصادر الديموقراطية: ثقافة المجموع أم دور النخبة، إعداد: لاري دايموند، ترجمة: سمية فلوعبود، دار الساقي، لبنان؛ الطبعة العربية الأولى 1994؛ ص 222
10- كوليت أسمال: مظاهر خصوصية النخب السياسية؛ مرجع سابق، ص 10
11- ت. بوتومور: النخبة والمجتمع، مرجع سابق؛ ص 118
12- إدريس لكريني: "الديموقراطية" الأمريكية لمكافحة "الإرهاب" الدولي، مجلة شؤون عربية، الأمانة العامة لجامعة الدول العربية، القاهرة، عدد 125، ربيع 2006، ص 170
13- برهان غليون: مجتمع النخبة، دار البراق، تونس، الطبعة الثانية 1989، ص 11
14- خليل العناني: إشكالية التغيير في الوطن العربي، المستقبل العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، لبنان؛ عدد 296 بتاريخ أكتوبر2003، ص 168
15- محمد السيد سليم: تدويل عمليات الإصلاح في الشرق الأوسط: وجهة نظر عربية؛ مجلة الديموقراطية، مؤسسة الأهرام، مصر، السنة السادسة، العدد 24 أكتوبر 2006، ص 16
16- إدريس لكريني: التداعيات الدولية الكبرى لأحداث 11 شتنبر، المطبعة والوراقة الوطنية، المغرب؛ الطبعة الأولى 2005؛ ص 195
17- محمد السيد سليم: تدويل عمليات الإصلاح في الشرق الأوسط: وجهة نظر عربية؛ مرجع سابق؛ ص 18
18- خليل العناني: إشكالية التغيير في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 166
19- محمد شقير: خصائص النخبة الحاكمة في الوطن العربي، المجلة المغربية لعلم الاجتماع السياسي، العدد 9 - 10 / 1989، ص 23 وما بعدها
20- إدريس لكريني: "الديموقراطية" الأمريكية لمكافحة "الإرهاب" الدولي، مرجع سابق، ص ص 172 و 173
21- مصطفى حجازي: التخلف الاجتماعي: مدخل إلى سيكولوجية الإنسان المقهور، المركز الثقافي العربي، المغرب، الطبعة التاسعة 2005، ص123
22- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق؛ ص 7
23- محمود محمد الناكوع: أزمة النخبة في الوطن العربي، مرجع سابق، ص 42
24- حسن قرنفل: المجتمع المدني والنخبة السياسية، مرجع سابق؛ ص 159
25- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، دفاتر وجهة نظر (9) الطبعة الأولى 2006؛ ص 26
26- عبد الرحيم العطري، صناعة النخبة بالمغرب، مرجع سابق؛ ص 31
27- عبد الرحيم العطري: صناعة النخبة بالمغرب، مرجع سابق، ص 36
28- عزيزة حاجي: النخب السياسية في المغرب، محاولة للتحديد، أطروحة لنيل الدكتوراه في القانون العام، كلية الحقوق أكدال، الرباط، السنة الجامعية 2002- 2001 (غير منشورة)، ص 295
29- نشير إلى أن علاقة النظام السياسي بالنخبة السياسية وتحكمه في مسارها؛ يختلف في أشكاله بحسب الظروف السياسية وطبيعة النخبة السياسية نفسها، فقد يتخذ تدخله في مسارها شكلا صارما وعنيفا مثلما تم خلال إعلان حالة الاستثناء بعد بروز صراع سياسي نتج عنه تقديم ملتمس الرقابة في 15 يونيو 1964؛ وقد يكون أقل عنفا؛ إما في شكل تحكيم سياسي بطلب من الأطراف المتصارعة..، أو قد يكون في شكل ضمانات ملكية أو عن طريق إقرار أسلوب "الحوار والتراضي".. لمزيد من التفاصيل في هذا الشأن، راجع: عزيزة حاجي: النخب السياسية في المغرب؛ محاولة للتحديد، مرجع سابق، ص 295؛ ص 23
30- محمد الهلالي: اليساريون الثوريون بالمغرب، منشورات اختلاف، المغرب؛ الطبعة الأولى 2001 ص 9 و 10
المصدر :مدونات مكتوب د.إدريس لكريني-أستاذ جامعي، كلية الحقوق، مراكش)
http://drisslagrini.maktoobblog.com/659369/%d8%a7%d9%84%d9%86%d8%ae%d8%a8%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b3%d9%8a%d8%a7%d8%b3%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b1%d8%a8%d9%8a%d8%a9-%d9%88%d9%82%d8%b6%d8%a7%d9%8a%d8%a7-%d8%a7%d9%84%d8%a5%d8%b5%d9%84/
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام