سلام عليكم و رحمة الله تعالى و بركاته
تأثير البُنية الاجتماعية -الاقتصادية على العملية التنموية في العالم الثالث والوطن العربي.تمهيد: مشكلة الدراسة ومعوقات البحث:
درج معظم المختصين في القضايا الاجتماعية والاقتصادية للبلدان النامية، على الاستناد إلى نقطة محورية- ارتكازية تعزو مشكلات التأخر وتخلّف القوى الإنتاجية، وعلاقات الإنتاج في بلدان آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية إلى الاستعمار بشكليه القديم والجديد. ورغم أن هذا المنطلق يعد صحيحاً إلى حد كبير، إلا أنّه لايتضمن الإجابة التامة أو الإحاطة الشاملة الكافية بالمسائل والتعقيدات، التي تعاني منها تلك الدول. فالواقع يؤكد أن الاستعمار ليس كل شيء، إذ أن العوامل الداخلية تظل الشرط الحاسم في كل تغير اقتصادي، أو اجتماعي أو سياسي أو ثقافي... الخ. وعلم اجتماع التنمية التكاملي ينطلق من دراسة أية ظاهرة اجتماعية على أساس كلي -شمولي يحيط بعوامل نشأتها وبما يربطها بغيرها من الظواهر، واتجاهات تطورها المتوقعة، وبما أن الأساس العلمي الصحيح لفهم مسيرة أي مجتمع يقتضي وعي طبيعة البنية التحتية له، فإن ذلك يحتم علينا دراسة واستقصاء علاقات الإنتاج السائدة في هذا المجتمع وطابع ومستوى القوى المنتجة فيه.وهذا يعني تفحص البنية الاجتماعية -الاقتصادية، التي تشكل النواة الجوهرية لأي مجتمع في العالم. ومن هنا تنبع الأهمية المنهجية الكبيرة لتفسير آلية العلاقة المتبادلة بين الأنماط الاقتصادية المختلفة على نطاق البلدان النامية ككل، ومسألة الصراع أو التعايش بين التشكيلات الاجتماعية -الاقتصادية على الصعيد العالمي.
وفي ضوء ما تقدم يمكننا القول، إن آلية التفاعل المتبادل بين عدة أنماط اقتصادية وتشكيلات اجتماعية تصبح واضحة، إذا ما تمت معرفة التأثيرات المتبادلة بين الظروف الداخلية والخارجية، التي تنتهي عادة بسيطرة نمط إنتاجي معين في نهاية المطاف.
وعليه، فإننا نعلن منذ البدء عن اتفاقنا مع الباحثين الذين يؤكدون "أن دراسة الدول النامية تتطلب إقامة نظرية بديلة عن تلك النظريات الغربية التي لم تعد تستطيع الصمود أمام واقع هذه الدول. ومن الضروري أن تستند هذه النظرية إلى فهم عميق للعناصر البنائية للتنمية، أي فهم عميق لوجود عالم متقدم جنباً إلى جنب عالم متخلف" (1).
ونحن في دارستنا هذه ننطلق من الفرضية التالية: إن الفهم العلمي السليم لأسباب تعثر الخطط والبرامج التنموية في بلدان العالم الثالث، يجب أن تستند إلى استقصاء مشكلات البنية الاجتماعية -الاقصادية المُهيمنة في تلك البلدان، والقائمة بدورها على الاقتصاد ذي الأنماط المتعددة.
إن تعقّد هذه المشكلة ناتج أساساً عن واقعة، أنه في ظروف تعايش وتفاعل تشكيلات اجتماعية مختلفة (على الصعيد العالمي)، وتعايش وتفاعل أنماط اقتصادية مختلفة (على الصعيد المحلي -القطري) تتشابك جملة ظواهر وأنظمة وأنساق اجتماعية -اقتصادية، سياسية -ثقافية، وكنتيجة منطقية لذلك يحصل تشابك شديد في مهام التنمية المأمولة، ولهذا التشابك الواسع لا يمكن تنفيذ البرامج والخطط المقررة دون مصاعب وتعثرات وإخفاقات.
وفي هذا الإطار أيضاً، فإن النظريات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية الغربية تستطيع أن تؤدي بنا إلى استنتاجات صادقة إذا ما طبقناها على العالم الغربي، ولكنها لن تقودنا إلى استنتاجات صادقة إذا ما طبقناها -كما هي -على الدول النامية، ذلك أن الاتجاهات والنظم السائدة في الدول الأخيرة تتخذ طابعاً معيناً يصعب معه إجراء تحليلات اقتصادية واجتماعية وسياسية من النوع السائد في الدول المتقدمة (الصناعية). لذلك يتعين إعادة صياغة كثير من المفاهيم والنظريات الغربية على نحو يلائم واقع الدول النامية. وأهم هذه المفاهيم في رأينا ما يتعلق بالبنية الاجتماعية -الاقتصادية لدول العالم الثالث.
وقد كتبت آلاف الدراسات والمقالات والكتب والأبحاث حول العامل الخارجي في ظاهرة تخلف دول العالم الثالث، أي عامل الاستعمار والتبعية والارتباط بالنظام الاقتصادي الرأسمالي العالمي، الذي يضمن للدول الرأسمالية الصناعية المتطورة مضاعفة احتكاراتها عن طريق استغلال الدول النامية والإبقاء على أوضاعها الراهنة، أي أن تظل مورداً أساساً للمواد الخام، وأن تظل السوق الرئيسة المستهلكة لمنتجات الدول الصناعية... الخ، في حين إنّ قلة فقط من الدراسات الجادة غاصت في العامل الداخلي للتخلف، المرتبط بطبيعة البنى الاجتماعية -الاقتصادية لدول العالم الثالث، أي تحليل طبيعة ومستويات القوى المنتجة والعلاقات الإنتاجية في تلك الدول، والتي لا يمكن إجراء تغييرات اجتماعية -اقتصادية وثقافية وعلمية حقيقية دون تحليلها وفهم جوهرها وآلية عملها ودينامية تأثيراتها (2).
ويتجلى تعقيد المشكلة المطروحة بألوان مختلفة، لسنا بصدد التوقف عند تفصيلاتها، مكتفين بالإشارة إلى أن أبرز خلفيات تعثر الوصول إلى تحليلات واقعية- موضوعية للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية في البلدان النامية يعود إلى هيمنة المواقف الأيديولوجية -السياسية إزاء النظريات والأفكار المطروحة، وقد ناقش كثير من الباحثين العرب هذه النقطة، مؤكدين على ظاهرة بارزة تتمثل في سعي "القوى الاجتماعية" التي بيدها السلطة السياسية إلى فرض نفوذها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة على مؤسسات إنتاج المعرفة ونشرها، لأن تلك السيطرة تحقق إدماج هذه المؤسسات في مشروع النظام القائم وجعلها أدوات لا غنى عنها في كسب الشرعية من جهة، وتزويد النظام بكفاءات ضرورية لتحقيق أهدافه في مختلف المستويات، اقتصادية وسياسية وعقيدية" (3).
والعامل الثاني، الذي يشكل حاجزاً رئيساً أمام الدراسات والبحوث الاجتماعية الناجحة، هو انغلاق ميادين ومؤسسات كثيرة في مجتمعاتنا أمام البحوث الميدانية والتحليلات والمتابعات العلمية. إذ إن تلك المجالات تعد مقدسة وينظر إلى البحث فيها على أنه تدنيس وخرق للحرمات "لأنه يكشف فيها مظاهر الخداع والتمويه" (4). والأمثلة على ذلك عديدة منها: قضايا الاختلال في سير النظام الاجتماعي، السلطة وآليات السيطرة التي تمارسها طبقات أو شرائح اجتماعية معينة، مؤسسات الحكم وأجهزتها المختلفة، العلاقات والسلوك الجنسي، قضايا العقيدة والممارسة الدينية، موقع الدين في المجتمع ودوره والحركات التي تستخدمه في شعاراتها واستيعابها للجماهير، الجماعات الهامشية أو المهمشة.... الخ.
أما العامل الأكثر تأثيراً على الدراسات والبحوث الاجتماعية العميقة، فإنه يتجلى في موضوع تلك الدراسات، أي في البنية الاجتماعية المعقدة في دول الثالث ذاتها. فالمعروف أن البنية الاجتماعية -الاقتصادية لبلدان العالم الثالث تحمل في داخلها مزيجاً مركباً يمثل تقريباً كل العلاقات الاجتماعية والتكوينات الاقتصادية التي عرفتها البشرية على مر العصور والأزمنة. وبكلمات أخرى، يعد التركيب الاجتماعي والاقتصادي لتلك البلدان من جهة، والحراك الاجتماعي المتسارع من جهة ثانية عاملاً مؤثراً إلى أبعد الحدود بالنسبة للدارسين الاجتماعيين، ويرتب عليهم مزيداً من المسؤوليات والحذر والدقة في إطلاق التعميمات والاستنتاجات.
ونظراً للأهمية الشديدة للعامل الأخير، فإننا نود التوسع في دراسته، خاصة وأنه يشكل المنطلق المنهجي والمحور الذي نرتكز عليه في بحثنا هذا.آملين أن نكرس دراسات أخرى لبقية العوامل المؤثرة في منجزات ونتائج البحوث الاجتماعية الخاصة بالبلدان النامية.
أولاً: مفهوم البنية الاجتماعية:
البنية أو البناء بشكل عام STRUCTURE هي علاقة كامنة ومستقرة نسبياً بين العناصر، أو الأجزاء، أو النماذج التي ينطوي عليها كل "منظم وموحد" (5). ويعرف الدكتور أحمد زكي بدوي واضع "معجم مصطلحات العلوم الاجتماعية" البناء بأنه "الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة، بحيث تكون كل ظاهرة تابعة للظواهر الأخرى، ومتعلقة بها، وبعابرة أخرى هو تنظيم دائم نسبياً تسير أجزاؤه في طرق مرسومة ويتحدد نمطه بنوع من النشاط الذي يتخذه" (6).
ويؤكد الدكتور جميل صليبا المفهوم ذاته، حيث يقول: أن للبنية معنى خاصاً وهو إطلاقها على الكل المؤلف من الظواهر المتضامنة، بحيث تكون كل ظاهرة منها تابعة للظواهر الأخرى، ومتعلقة بها (7).
ويُستنتج من التعريفات السابقة ارتباط مفهوم البناء أو البنية (أو البنيان) بمسألة الثبات النسبي برغم التغير المستمر والحراك الظاهر لأجزائه، ولا يتغير ذلك البناء عموماً إلا عندما تطرأ على الكل طفرة كيفية (نوعية، جذرية). ومن جهة أخرى فإن عناصر الكل تعتمد بشكل أساسي على بنائه، ويكون لها دور متميز كيفياً عليها أن تقوم به بالاستناد إلى نمط ونسق ترابطها وتنظيمها، ولهذا فإن المعرفة الكاملة بالكل تعني معرفة بنائه العضوي باعتباره إدراك تعقيد العلاقات بكاملها بين أجزاء الكل. فمفهوم "البنية" يظهر في المقام الأول؛ جانب الثابت والاستقرار، الذي بفضله يحافظ الموضوع على كيفيته أثناء تغير عناصر غير جوهرية في معطيات الظروف الداخلية أو الخارجية. فالمنظومة العامة تبقى ما بقيت البنية، وتهلك، أو تزول كلياً، أو تتبدل جوهرياً، حين تنحل البنية أو تتغير نوعيتها الأساسية المميزة.
هذا من ناحية مفهوم "البنية" أو "البناء" بصورة عامة، أما "البنية الاجتماعية" SOCIAL STRUCTURE أو "البناء الاجتماعي" فهو اصطلاح ينطوي على مقاربات ومعان مختلفة وافتراضات متنوعة، فقد استخدم سبنسر وغيره من علماء الاجتماع المعاصرين هذا المصطلح للإشارة إلى نوع من الترتيب بين مجموعة نظم يعتمد بعضها على بعض، وتعدّ وحدات البناء الاجتماعي هي ذاتها بناءات فرعية، والافتراض الأساسي هنا هو أن التكامل أو بقاء الكل يتوقف على العلاقات بين الأجزاء وأدائها لوظائفها.
وعلى العكس من هذا التصور العام للبناء الاجتماعي، هناك التصور الذي قدمه علماء الاجتماع التحليليون (أو علم الاجتماع الصوري) مثل فون ويزه VON WIESE، وبيكر، H.BECKER، وهيلر E.T. HILLER، ومؤداه أن البناء الاجتماعي هو: (أ) ترتيب للأوضاع أو المراكز أو (ب) شبكة من العلاقات بين الأشخاص والقوى الفاعلة، وهكذا يتكون بناء المجتمع أو تنظيمه من مراكز مثل المهن والطبقات والتوزيع العمري والجنسي. ويقترب تصور فيرث FIRTH من ذلك، حيث يرى أن "البناء الاجتماعي الذي يدرسه علماء الأنثروبولوجيا يتضمن علاقات أساسية تنشأ عن النسق الطبقي وعضوية الجماعات الدائمة، مثل القبائل والعشائر والطوائف، ومراحل العمر والسن أو الجماعات السرية. الخ، وثمة علاقات أخرى ترجع إلى الأوضاع التي يشغلها الناس في النسق القرابي" (
.
وجدير بالذكر أن المماثلة العضوية التي قدمها هربرت سبنسر بين المجتمع والكائن العضوي قد أسهمت في نشر وترويج مصطلح البناء الاجتماعي، أما التساؤلات الخاصة بالبناء فتشمل: (أ) كيف نشأ البناء الاجتماعي وحقق تكامله؟ (ب) ما هي مكونات البناء ووحداته الأساسية؟ (جـ) كيف يحدث التكامل بين هذه الوحدات؟ ومن المعروف أن مفهوم البناء الاجتماعي في الاستخدامات السوسيولوجية يطبّق على الجماعات الصغيرة والمجتمعات الكلية بآن معاً.
ويحتل مصطلح "البناء الاجتماعي"، أهمية مركزية في المدخل الوظيفي -البنائي في الأنثربولوجيا الاجتماعية البريطانية، وغالباً ما يستخدم في الأنثربولوجيا عامة كمرادف "للتنظيم الاجتماعي"، كما يستخدم بصفة خاصة في تحليل نظم القرابة والنظم السياسية والقانونية في المجتمعات الأصلية (غير الصناعية). إلا أن ريموند فيرث FIRTH يميز بين البناء الاجتماعي والتنظيم الاجتماعي على أساس أنّ التنظيم الاجتماعي يشير إلى الاختيارات والقرارات المتضمنة في العلاقات الاجتماعية الواقعية، بينما يشير البناء الاجتماعي إلى العلاقات الاجتماعية الجوهرية التي تعطي المجتمع صورته الأساسية، المحددة لمجريات الفعل الاجتماعي. أما فورتس FORTES فيرى أن المصطلح ينطبق على كل الترتيبات المنظمة للكليات المتميزة، كالنظم والجماعات والمواقف والعمليات والأوضاع الاجتماعية (9).
وبعبارة أخرى، فإن البناء الاجتماعي هو النمط الناظم لجماعة ما، ويتضمن مجموع العلاقات الموجودة بين أعضاء الجماعة، وبعضهم مع بعض، وبينهم وبين الجماعة نفسها. أو هو إطار المجتمع كعلاقة منظمة بين الوحدات الاجتماعية المختلفة: التجمعات القائمة على القرابة، والجنس والسن، والمصلحة المشتركة، والمكانة والمنماوالة، والمهنة الواحدة، والعلاقات الإنتاجية المشتركة، والانتماءات السياسية والقومية والعرقية وغير ذلك من العلاقات للبناء الاجتماعي.
ثانياً- البنية الاقتصادية والبنية التحتية (القاعدة الاقتصادية):
تشكل العلاقات الإنتاجية، التي يكوّنها الناس فيما بينهم خلال عملية الإنتاج القاعدة المادية (أو الأساس المادي)، التي ينتصب فوقها البنيان (البناء) الفوقي، المكون من العلاقات الأيديولوجية والآراء والمؤسسات التي تؤثر بدورها على القاعدة الاقتصادية، وإذا كانت علاقات الإنتاج تشكل جوهر البنية الاقتصادية لمجتمع ما، فإن البنية الاقتصادية لا تنفصل بالطبع عن نمط الإنتاج رغم عدم التطابق بينهما.
ومن جهة أخرى، فإن البنية الاقتصادية لا تتكون من مجموع علاقات الإنتاج فقط، بل تتكون أيضاً من تكويناتها الخاصة التي هي نتيجة لعلاقات الإنتاج الأساسية، وفي التشكيلات الاجتماعية المعروفة، فإن علاقات الإنتاج الأساسية المعلقة بملكية وسائل الإنتاج تحدد بدورها طبيعة وسمات الطبقة (أو الطبقات) المسيطرة.
ومفهوم البنية الاقتصادية هو حقيقة واقعية، ولكنها ليست ثابتة أو جامدة، بل تتطور بتطور القوى المنتجة في المجتمع.
وعندما يجري التركيز على مصطلح "القاعدة الاقتصادية" فالمقصود بذلك البناء الاقتصادي (أو البنيان الاقتصادي) منظوراً له في علاقته بالبنية الفوقية.
وهكذا يعود مفهوم القاعدة إلى مفهوم الأساس. وتبدو التشكيلة الاقتصادية -في ضوء ذلك- كبناء من مستويات عدة (مختلفة). وإن لكل بنية اجتماعية -اقتصادية قاعدتها الخاصة والتي تحدد سماتها الأساسية، وهذا ما نود التركيز عليه في هذه الدراسة.
ونحن نعتقد أن التعمق في تحليل هذه المقولات السوسيولوجية- الاقتصادية، من شأنه أن يقدم المفاتيح العامة لفهم التطور الاجتماعي -الاقتصادي والتاريخي لبلدان العالم الثالث، وربما لصياغة وبلورة نظام من القوانين والتفسيرات العلمية لصيرورات التطور في تلك البلدان.
ولكن من ناحية أخرى، فإن البنية الاجتماعية المعقدة لتلك المجتمعات تزيد من صعوبة دراسة جوهرها وتعيين طابع التحولات القائمة والعناصر الفاعلة بشكل علمي ودقيق، بعيداً عن المواقف السياسية، والأيديولوجية المسبقة. فالملاحظ بالنسبة لمعظم الدراسات المكرسة لتحليل وتوصيف البنى الاجتماعية والاقتصادية لبلدان العالم الثالث، غياب تصنيف موحد عام متفق عليه للأنماط الاجتماعية -الاقتصادية القائمة هنا. وعلى سبيل المثال، فإن العالم البولوني المعروف ي.كليير، يميز بين نمطين للاقتصاد السلعي الصغير (في المدينة والريف) ونمطين رأسماليين (أجنبي ومحلي). في حين أن الاقتصادي الروسي س. تولبانوف في دراسته للاقتصاد السياسي للبلدان النامية يؤكد على وجود نمط إنتاجي واحد للاقتصاد السلعي الصغير، ونمطين رأسماليين، أحدهما محلي والآخر أجنبي.
ودون الخوض في المسائل النظرية الخلافية حول عدد الأنماط الاقتصادية وتسمياتها وتفرعاتها، نشير في هذا الإطار إلى أن التركيب الاجتماعي والاقتصادي لهذه البلدان هو حاصل جمعي لأنماط اقتصادية مختلفة، مع عدم تمتع أي من هذه الأنماط القائمة بالسيطرة على الأسلوب الإنتاجي في المجتمع النامي. وكل نمط اقتصادي يحتوي على شكل محدد لملكية وسائل الإنتاج: ملكية مشاعية عامة، ملكية إقطاعية، ملكية خاصة صغيرة، ملكية رأسمالية (أجنبية أو محلية)، ملكية الدولة... الخ(10).
وانطلاقاً من أشكال الملكية والأساليب الإنتاجية الاستثمارية، يمكن تصنيف الأنماط الاجتماعية -الاقتصادية التالية في بلدان العالم الثالث:
1-الاقتصاد العيني وأنواعه: مشاعي أو قبلي، إقطاعي، شبه إقطاعي.. الخ.
2- النمط السلعي الصغير: في المدينة أو الريف.
3- النمط الرأسمالي المحلي: أي الاقتصاد الرأسمالي لأصحاب المشروعات المحليين: توجد في هذا النمط قطاعات مختلفة كالرأسمالية الوطنية الصغيرة، والرأسمالية الخاصة المتطورة القريبة من الطراز الغربي المتعارف عليه.
4- نمط الرأسمال الأجنبي: أي الاقتصاد والمنشآت التابعة للرأسمالية العالمية وللاحتكارات الدولية ولا سيما للشركات متعددة الجنسيات.
5- نمط رأسمالية الدولة، السائرة في طريق الاقتصاد الليبرالي والتطور الرأسمالي.
6- نمط رأسمالية الدولة، التي تعتمد على احتكار التجارة الخارجية والمواد الأساسية في التجارة الداخلية، أو ما يطلق عليه نمط "الاتجاه الاشتراكي".
7- بالإضافة للأنماط المذكورة، توجد في العالم الثالث أشكال انتقالية (هامشية) تمثل خليطاً أو حالة هلامية غير متبلورة من ناحية نمط الإنتاج وأساليب الاستثمار وشكل الملكية (11).
ولدى تحليل البنية الاقتصادية لمجتمعات العالم الثالث، يمكن تصنيفها إلى ثلاثة قطاعات أساسية: تقليدي وأجنبي متطور ومحلي تابع وضعيف نسبياً. وقد ظهر تقسيم اقتصاد هذه البلدان إلى تقليدي وأجنبي في عصر الاستعمار (الكولونيالية)، وعكس ذلك التقسيم دور البلدان النامية كمورد للخامات وسوق تتبع اقتصادات البلدان المستعمرة (المتروبولات).
وتشكل ملكية الاحتكارات الأجنبية عصب القطاع الأجنبي، المعتمد أساساً على تصدير الخامات الأولية، كما يتميز هذا القطاع بتطور العلاقات البضاعية -النقدية، وأما عملية الإنتاج الجارية في هذا القطاع، فإنها تتم بصورة رئيسة على أساس العلاقات الإنتاجية الرأسمالية، وقد حصلت القوى المنتجة الموظفة في هذا القطاع على تطوير سريع وتحديث لا بأس به، نظراً لأهمية ذلك بالنسبة للاحتكارات العالمية.
وأما القطاع التقليدي فهو قائم على أسلوب الاقتصاد العيني، حيث تسيطر فيه العلاقات ما قبل الرأسمالية، ويمتلك هذا القطاع أكثر أشكال القوى الإنتاجية بدائية وتخلفاً، ومن هنا يتفق أغلبية الخبراء والمختصين بشؤون اقتصادات البلدان النامية على معاناة هذا القطاع بالذات من النتائج التي ترتبت على ما سمي بالتحديث الاقتصادي والمالي والبنيوي في تلك البلدان، وفي هذا السياق يؤكد الباحث الاقتصادي البريطاني المعروف هـ. مينيت: أن أخطر النتائج التي ترتبت على الطراز الحديث عن السياسات النقدية والمالية توجد في تفاقم الازدواجية الاقتصادية بين القطاع الصناعي الحديث والقطاع التقليدي الكثير، من نقص رؤوس الأموال وارتفاع معدلات الفائدة، وذلك بسبب المخاطر الكبيرة وتكاليف إقراض النقود، وبالمفرق، لطبقات صغار المقترضين. ولكن هذا العائق قد تفاقم الآن بسبب سياسات الحكومة (في دول العالم الثالث/ خ.ج) لتعزيز التصنيع المحلي. لقد كان لهذه السياسات تأثيرها لتأمين رأس المال النادر، وموارد القطع الأجنبي، والخدمات الاقتصادية العامة، بشروط مواتية جداً للوحدات الاقتصادية الأكبر حجماً في القطاع الحديث وبشروط سيئة للوحدات الاقتصادية الصغيرة في القطاع التقليدي (12).
والحقيقة الواضحة للجميع أن الطابع العام للبلدان النامية (باستثناء أقطار الجزيرة والخليج العربي) يتجلى في غلبة الطابع الزراعي على سكان تلك البلدان، المتسم بالتخلف والبدائية، وضعف المستوى التكنولوجي للعمليات الزراعية، واعتمادها على الجهد العضلي للإنسان وعلى الظروف الطبيعية المتقلبة، وهذه سمة بارزة وعامة ومنتشرة تميز تلك البلدان عن البلدان الرأسمالية التي قطعت شوطاً كبيراً على طريق التقدم. ويشرح مؤلفو كتاب "التركيب الطبقي في البلدان النامية" أساليب هذه الظاهرة العامة فيقولون: "إن أساليب احتلال الزراعة لهذا المركز الكبير في توزيع العاملين من السكان في البلدان الآسيوية والأفريقية والأمريكية اللاتينية، تكمن بالدرجة الأولى طبعاً في التخلف الاقتصادي لهذه البلدان وفي المستوى المنخفض لإنتاجية العمل فيها"(13).
وما دمنا نتحدث عن القطاع التقليدي، فإننا يجب أن نشير إلى حقيقة أنه لدى الغالبية العظمى من البلدان النامية قطاعاً ضخماً من العاملين في الصناعات الصغيرة والحرف التقليدية. وما زال الإنتاج الصغير يلعب حتى الآن دوراً كبيراً في اقتصاد تلك البلدان، وسوف يستمر في ذلك زمناً طويلاً في المستقبل. فهو يلبي حاجة السكان لعدد كبير من السلع التي لا تنتجها المصانع الكبيرة أو لا تنتجها بكميات كافية، كما أنه يؤمن العمل لملايين الناس. والملاحظ أن نمو الصناعات الكبيرة الحديثة واتساع المدن من شأنه أن يؤدي إلى تحطيم الإنتاج اليدوي والحرفي الذي لم يعد بإمكانه أن يشبع احتياجات هذه الأعداد الضخمة المتركزة في المدينة بالسرعة المطلوبة، عدا عن تخلف إمكانياته الاقتصادية في نقل احتياجاته أو منتجاته مسافة بعيدة.
ولو نظرنا الآن إلى نسبة ذلك القطاع إلى بقية قطاعات النشاط الاقتصادي في البلدان النامية لوجدنا أن الحرفيين وصغار الكسبة (التجار الصغار) يشكلون الفئة الأكبر عدداً في مدن البلدان المذكورة. ففي القارة الأفريقية يتألف نصف سكان المدن أو أكثرهم من أصحاب الحرف اليدوية، وأصحاب الحوانيت الصغار والباعة المتجولين وغيرهم من هذه الفئات، وقد تنخفض هذه النسبة إلى حد ما في بلاد أمريكا اللاتينية وآسيا الأكثر تطوراً، ولكنها تبقى كبيرة رغم ذلك(14).
ويرجع ارتفاع نسبة صغار الحرفيين والتجار في تركيب سكان مدن البلدان النامية إلى أنه يغلب على اقتصاد هذه البلدان (في المدن) نمط الإنتاج السلعي الصغير والأشكال الدنيا من الإنتاج الرأسمالي مع ما يلازمها من علاقات سوق قديمة وتقليدية. والمؤكد أن النمو السريع في الصناعات الحديثة الممكنة سيؤدي إلى تدمير قطاع الصناعات الصغيرة والحرف اليدوية والتقليدية وإفقاره وإغلاق السوق في وجهه. وقد تجد حكومات البلدان النامية نفسها عاجزة عن اتخاذ إجراءات اقتصادية عملية فعالة لإيقاف هذا الدمار الذي يحلق بهذا القطاع الضخم. وعشية حصول بلدان العالم الثالث على استقلالها السياسي كانت العلاقات الاقتصادية بين هذه القطاعات معدومة تقريباً، فالقطاع الأجنبي ظل شديد الارتباط العضوي باقتصاد البلدان المستعمرة (المتروبولات)، وارتبط فيما بعد بصورة رئيسة بالاقتصاد الرأسمالي العالمي، لذا بقي جسماً غريباً في اقتصاد البلدان النامية، وأما القطاع التقليدي، فقد كان يسيطر على معظم نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية للسكان، التي بقيت دون تغيرات جوهرية لعدة قرون.
إن وجود الاقتصاد متعدد الأنماط يعتبر المؤشر الرئيس للمرحلة الانتقالية، التي تمر بها دول العالم الثالث منذ فترة تاريخية طويلة، حيث أن الاقتصاد متعدد الأنماط المسيطر في تلك الدول ظهر نتيجة لتزاوج عوامل خارجية وداخلية كثيرة، وضعت في حقيقة الأمر البذور الأولية لإمكانية انتهاج طرق مختلفة في عملية التطور الأحق. وإن تطور هذه الأنماط وفناء قسم منها... الخ، لا يجري بصورة فوضوية -عشوائية ودونما ضوابط موضوعية (داخلية وخارجية). لأن النمط هو وجود تاريخي محدد لأسلوب إنتاجي ما. وهذا يعني بوضوح تام أن نمطاً اقتصادياً معيناً لا يستطيع الظهور أو الاختفاء حيثما وكيفما اتفق.
إن ولادة أنماط اقتصادية جديدة تعني ظهور المراحل التاريخية الأولى لأساليب إنتاجية جديدة، و هي تجري وفق قوانين داخلية أو عناصر ذات منطق معيّن، تتحكم في أسباب تطورها اللاحق أو في عوامل تراجعها ومن ثم فنائها، مع ملاحظة وجود أنماط متضادة وأخرى متكاتفة، أنماط تجاوزها العصر، وأخرى تعد بذوراً جنينية للتطور والنمو في أحشاء المجتمع المتخلف، لكونها تمثل النزوع لسيطرة تشكيلة اقتصادية -اجتماعية أكثر تقدماً ودينامية وعصرية.
وطبقاً لرأي مجموعة من الباحثين السوسيولوجيين والاقتصاديين المتخصصين بشؤون العالم الثالث، وفي مقدمتهم العالم الروسي ألكسي ليفكوفسكي، فإن الأنماط ليست مجرد أجزاء وشرائح مقطوعة من أساليب إنتاجية متعارضة ضمن نظام اقتصادي معين، وإنما هي تجسيد لمقاطع عريضة من علاقات إنتاجية، تتصارع فيما بينها من جهة، وتتجه نحو الانسجام والتلاحم العضوي مع بعضها من جهة أخرى... بحيث تشكل نوعاً من التعددية الاقتصادية الثابتة (15). بل إن السمة الجوهرية للبنية الاجتماعية لدول العالم الثالث، أنّها متعددة الأنماط (16).
والواقع أن ثبات تعددية الأنماط يعطي تصوراً أقرب للحقيقة في ما يخص أوضاع البنية الاجتماعية -الاقتصادية للمجتمعات النامية، حيث لم يتمكن أي من الأنماط القائمة من السيطرة الحاسمة على الأنماط الأخرى فتصبح خاضعة له تماماً. طالما بقيت هذه الحالة الانتقالية- التعايشية هي المسيطرة، تبقى البنية الاجتماعية- الاقتصادية انتقالية أيضاً، وبالتالي يظل الطابع الأساسي للاقتصاد طابعاً انتقالياً.
أما الانتقال من تشكيلة اجتماعية إلى أخرى فهو مرتبط بوجود وتصادم عدة أنماط (بين نمطين على أقل تقدير) وكذلك بين ممثلي مجموعة من الطبقات والفئات والشرائح الاجتماعية، التي تدعم كل منها هذا النمط أو ذاك، وترتبط مصالحها المادية والاجتماعية والسياسية بهذا الأسلوب الإنتاجي أو ذاك.
وقد لاحظ المنظِّر الفرنسي شارل بتلهايم CHARLES BETTELHEIM وجود نمط شبه عام من الانتقال في الوقت الحاضر، يتمثل بالانتقال من اقتصاد كولونيالي مباشر إلى المرحلة ما بعد الكولونيالية. وفي هذا الانتقال لا تزول أشكال الاستغلال القديمة ولا تلغى السيطرة السابقة بل تتعدل فقط، وبالنسبة إلى النمط ما بعد الكولونيالي فيمكن أن يتجلى عبر اتجاهين:
أولهما: هو تغير أشكال السيطرة دون تغير جوهرها أو طبيعتها الأساسية، ومن أوضح الأمثلة على ذلك، الاقتصاد الهندي حيث تستخدم البرجوازية الهندية رأسمالية الدولة لإحكام سيطرتها الطبقية، دون الخروج فعلاً من قبضة الرأسمال الأجنبي بحكم القيود التي يفرضها النظام نفسه على تطوير الاقتصاد الهندي.
ثانيهما: تلك الوضعية، المتمثلة بنوع شبه عام من التوازن بين القوى الاجتماعية والطبقية السياسية المتصارعة. وهو توازن قد يصل إلى حد ظهور تحالفات طبقية- اجتماعية -سياسية، علنية أو خفية، مباشرة أو غير مباشرة تفرز بدورها عناصر محددة في عملية تطور البنية الاجتماعية -الاقتصادية للبلاد. ويطلق الأستاذ بتلهايم على هذه الحالة شبه العامة في دول العالم الثالث اصطلاح "الوضع الانتقالي" وأهم سماته على الصعيد الاقتصادي -انعدام النمو الاقتصادي بالمعنى الجوهري لمصطلح النمو.
ويستنتج بلتهايم من كل ما سبق أن "الوضع الانتقالي" يشهد عموماً فترة التوطيد الاجتماعي لنمط إنتاجي معين على حساب الأنماط الأخرى. إلا أن الفترة الأولى من ذلك التوطيد تتسم بخاصية عدم الانتصار للنمط الجديد، ولكنها تعقب زعزعة سيطرته بعد التحرر من النظام الكولونيالي (17).
ومن ناحية أخرى، يرى الباحث الدكتور عبد العزيز عبد اللطيف الزيدان أن "الطابع المختلط (MIXED) للأنظمة وللبنية الحقيقية هو ليس سمة داخلية لمختلف الاقتصادات الوطنية فقط، بل هو وإلى درجة أكبر طابع يسم الاقتصاد العالمي. حيث أن تطور قوى الإنتاج في كل بلد مشروط بعلاقات الإنتاج العالمية ويمكن ملاحظة تلك الحقيقة على وجه الخصوص في الأقطار الخاضعة للإمبريالية كما يمكن ملاحظتها أيضاً في الأقطار السائدة" (18).
أما الباحث الروسي م. براغينسكي، فإنه انطلاقاً من تجربة بلدان أفريقيا الاستوائية، يعتقد أنه لايمكن الحديث عن نمط اقتصادي مسيطر، ولكن من الأفضل التحدث عن الاتجاهات التطورية الغالبة في هذا المجتمع أو ذاك، تبعاً للأوساط الحاكمة (19).
والحقيقة أنّ مسالة "من سيريح المعركة" ذات علاقة جدلية بنتائج الصراع بين تلك الأنماط، وطبعاً بين الفئات والشرائح الاجتماعية والتراكيب السياسية التي تمثلها. وفي مجتمع يسود فيه الاقتصاد متعدد الأنماط، يلاحظ أن بنيته (الاجتماعية -الاقتصادية) تحمل في أحشائها عدة "ممكنات" و "احتمالات" مختلفة للتطور المستقبلي. وأما "كيف" سيصبح أحد هذه الاتجاهات المحتملة هو المنتصر ويتحول من حالة "الإمكان" إلى وضعية "التحقق" الفعلي -التاريخي، فذلك يبقى مرهوناً بجملة عوامل داخلية وخارجية لها دورها الفعال والحاسم في تطور المجتمع المعني.
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام