سيناريوهات الانتقال الديمقراطي
في المنطقة العربية في السياقات الدولية والإقليمية والمحلية العربية
أ.محسن مرزوقالمنسق التنفيذي العام
مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية
هذه المداخلة هي محاولة لطرح أسئلة استشرافية حول سيناريوهات الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية في السياقات الدولية والإقليمية والمحلية العربية.
نحاول طرح هذه الأسئلة في إطار السياقات أولا، ثم، ثانيا، من منظور داخلي يتعلق بقدرات الحركة الديمقراطية العربية على معالجة استحقاقات الانتقال الديمقراطي، وأخيرا وأنا لا أخفي انحيازي لهذه الحركة، سأتقدم ببعض الاقتراحات العملية قد تفيدنا في رسم برامج متابعة مستقبلية.
في البداية لا بد من إطلالة سريعة على الوضع الحالي إقليميا وعربيا.
1. في السياقات:
في جملة مختصرة لخص د.الصادق المهدي، رئيس الوزراء السوداني السابق، الوضع الحالي في منطقتنا بالقول هي هيمنة الثلاثية الحزينة: الغزاة، الغلاة والطغاة. السياق الناتج عن تفاعل هذه القوى هو ما يحيط باستشرافنا لسيناريوهات تطور النظام السياسي العربي.
1.1. العامل الدولي:
تتراوح تأثيرات العامل الدولي على مشروع الانتقال العربي بين السلبي الفاعل والسلبي المحايد. فمن جهة من الواضح أن قوى أجنبية مؤثرة، حكومية بالأخص، مازالت تنظر للمنطقة العربية من زاوية الأطماع، وهو ما يسبغ على مقاربتها لمشروع الانتقال الديمقراطي العربي طابع المقاربة الانتهازية التي رغم دعمها الظاهري لهذا المشروع فإنها تنظر له بصفته تهديدا محتملا لأطماعها المادية والاستراتيجية.
ولأن بعض هذه القوى تعتقد أنه من الممكن اتباع سياسة عدوانية لحل ما تعتبره مشاكل المنطقة، من منظور أجندة ما تعتبره حلولا لتلك المشاكل، فإن التأثير على المشروع الديمقراطي العربي يصبح بالغ السلبية. فشعار ضرورة دمقرطة المنطقة التي تطرحه هذه القوى في خطابها يتناقض مع سلوكها الفعلي الذي يتناقض مع أبسط حقوق الإنسان، فما بالك بحقوقه المدنية والسياسية.
وبشكل عام يمكن القول أن المبادرات الأمريكية أو الأوروبية الرسمية الخاصة بنشر الديمقراطية في المنطقة العربية، لم تشكل عاملا إيجابيا داعما بشكل حقيقي للمشروع الديمقراطي العربي. أما الأمم المتحدة فإنها سجينة براديغم سيادة الدول الذي يقوم عليه كيانها.
أما قوى المجتمع المدني الدولي، فإنها تتأرجح بين اللامبالاة، وغياب الجدية وفي أحسن الأحوال هو اهتمام دون متابعة. بالنسبة لهذه القوى، وباستثناء عدد قليل من المبادرات، فإن وضع الاستبداد السياسي العربي هو أمر يؤسف له ولكنه لا يشكل أولوية لنشاطاتها في المنطقة.
ولقد ساعد الوضع العربي المتميز بهيمنة ثنائية الطغاة والغلاة وضعف القوى الديمقراطية، على خلق قابلية لاستمرارية التأثير السلبي للعامل الخارجي على مشروع النهوض الديمقراطي العربي.
2.1. الوضع العربي الداخلي:
لعل النقطة الإيجابية الوحيدة الأساسية، وهي غير هينة، التي يمكن استخلاصها من قراءتنا للوضع العربي الداخلي من وجهة نظر المشروع الديمقراطي، تتمثل في الإجماع الحاصل، في الخطاب الرسمي كما في خطاب القوى المدنية على فضائل النظام الديمقراطي. فمنذ سنوات قليلة مضت، كان ينظر للمنطوق الديمقراطي نظرة أمنية أو أيديولوجية سلبية من طرف الأنظمة وكذلك من طرف المجموعات الأيديولوجية التي تعتبر الديمقراطية مشروعا مستوردا، دخيلا، متناقضا مع خصوصياتنا وقيمنا.
الأنظمة العربية: إصلاح خجول وجمود متجدد:
باستثناء هذا الإجماع اللفظي، ومع الإقرار بنقط ضوء نادرة، لا نلاحظ أي ديناميكية جدية للولوج في سيرورة الانتقال الديمقراطي في عالمنا العربي.
ولعل المحاولة الوحيدة التي تستحق الاهتمام هي تلك التي تتواصل في المملكة المغربية، حيث ترافق السعي لتوسيع نطاق المشاركة السياسية، بمسار مصالحة وطنية لمعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، وقع فيها اعتماد مبادئ العدالة الانتقالية. كما نلاحظ بعض المحاولات المحدودة في المملكة الأردنية والمملكة البحرينية، ويواصل لبنان محاولات دمقرطة نظامه الطائفي.
ورغم هذا التقدم، فإن تحديات عديدة ترافق هذه المحاولات، أهمها كيفية العبور من الانفتاح السياسي إلى تغيير النظام السياسي بشكل جوهري يعبد الطريق أما إحراز انتقال ديمقراطي حقيقي.
أما بالنسبة لغالبية الدول العربية فإنها تتراوح بين وضع جمود لا ينبئ بأي خير، أو انحلال وتفكك شديد الخطورة. وإذا كانت الدول الغنية بالنفط، مثل السعودية، مازالت تستطيع أن تحافظ لوقت معين على وضع الجمود السياسي، وترفض نخبها الحاكمة الإصلاح، مستفيدة من قدرات مالية هائلة، فإن دولا أخرى مثل سوريا وتونس، لا تملك مثل هذه القدرات، تصارع من أجل الحفاظ على وضع سياسي لا يحتمل البقاء.
الشق الثالث من الدول العربية يعاني من انحلال شديد في بنية اجتماعه السياسي، يصل حد الحرب الأهلية، مما يهدد ببقاء الكيان السياسي نفسه، كما يحصل في العراق والسودان وبدرجة مختلفة في فلسطين ولبنان. ومما تجدر الإشارة إليه، في حال هذا الشق الثالث، أن دور العامل الأجنبي فيه، وفي سيرورة انحلال دوله، شديد التأثير، مما يطرح مزيدا من الأسئلة المشروعة حول طبيعة هذا الدور.
خلاصة القول، لا نلاحظ، برغم الاستعداد الخطابي الجديد مضمونا ولكن القديم منهجا وشكلا، رغبة سياسية واضحة من طرف النخب والجماعات العربية الحاكمة للاستفادة من دروس الماضي، ومحاولة استشراف مسار انتقال ديمقراطي جدي حتى وإن كان بطيئا.
القوى الديمقراطية العربية:
في مواجهة هذا الوضع وفي إطاره، تعاني القوى الديمقراطية العربية من ضعف هيكلي متواصل على كل المستويات، لا يؤهلها بكل أسف أن تكون بديلا جديا، وفي أحيان أخرى حتى شريكا.
فالحركة الديمقراطية العلمانية ضعيفة على كل المستويات، لأسباب عديدة ومتعددة، أحدها أنها مشكلة من عوائل سياسية غير منسجمة، لم تقم رغم ما علق ببرامجها وأيديولوجياتها من وهن، بإعادة تقييم وتغيير ذاتها، بحيث أعلنت تحولها إلى قوة ديمقراطية بمجرد رفعها للشعار الديمقراطي.
ومن بين هذه العوائل السياسية يمكن الإشارة للقوى الإسلامية المشاركة أو الطامحة للمشاركة في اللعبة الديمقراطية - التي تقدم نفسها باعتبارها معتدلة-. فهي رغم قوتها البالغة في مجال التعبئة المادية والرمزية، مازالت بشكل عام بعيدة عن مصالحة ذاتها مع استحقاقات المسألة الديمقراطية.
على طرف خارطة المجموعات الإسلامية، يقف الغلاة الجهاديون وهم، وإن بالغت التقارير الدولية في قوتهم لأسباب تتعلق بتبرير ما يسمى بالحرب على الإرهاب، يشكلون توجها متوهجا على المستوى الأيديولوجي، يستفيد خاصة من انسداد الآفاق السياسية وحرية التعبير حيث يعم الاستبداد، وينتشر الجهل والفقر. ورغم كونهم يشكلون خطرا حقيقا على مشروع النهوض الديمقراطي، فأنهم على المستوى الاستراتيجي قد يقدمون حجة إضافية تساعد، إذا أحسن استغلالها، على ضرورة المضي في تعبيد طريق هذا النهوض قبل أن يعم منطق العنف.
2. السيناريوهات المطروحة:
في هذا السياق الكئيب نوعا ما، تتبدى سيناريوهات المستقبل السياسي لمنطقتنا متوزعة على ثلاثة احتمالات، تتغذى من الاتجاهات والديناميكيات الحالية التي قمنا بعرضها في ما سبق من التحليل.
- السيناريو الأسوأ تقدمه نماذج التفكك والتمزق وسيادة العنف الدموي التي نشاهدها الآن في العراق وفلسطين ولبنان والجزائر والسودان والتي تهدد بالامتداد إلى دول أخرى، بتضافر قابلية داخلية مع قابلية خارجية.
- السيناريو الأرجح، على الأقل في المدى المنظور، هو سيناريو الجمود وإعادة الإنتاج لمقومات الاستبداد السياسي الجوهرية وإن بشيء من التجميل. يجد هذا السيناريو مشروعية له في رغبة أغلب النظم العربية على إبقاء الأمر على ما هو عليه، مستفيدة من عناصر متعددة، أهمها ضعف حركة التغيير الديمقراطي داخليا، إضافة لإمكانية الاستفادة من ظروف متغيرة مثل مداخيل ريعية هائلة (النفط) أو عوامل جيو-استراتيجية كالصراع العربي الإسرائيلي أو الحرب على الإرهاب. ونحن نرى نماذج من هذا السيناريو في عمليات توريث السلطة. كما يستطيع أن يتحقق من خلال حركات تغيير سياسي تستبدل طاغية بآخر، دون المس من جوهر الاستبداد.
إلى أي مدى يستطيع هذا السيناريو البقاء دون الانحراف نحو السيناريو الأسوأ أو التسامي نحو النهوض الديمقراطي؟ لا يمكن تقديم إجابة قاطعة أو شاملة على هذا السؤال. فنحن محتاجون إلى عمل بحثي استراتيجي لمسار كل بلد عربي على حدة يقوم بالرصد والتحليل، وهي بكل أسف قدرات لا نملكها بالشكل الكافي في المنطقة.
- التحول الديمقراطي السلمي، هو السيناريو الثالث الذي نطمح له جميعا. وهو يجد مشروعيته أولا من حركة التاريخ الدولي الحالية، بعد موجات إرساء الديمقراطية في أوروبا الجنوبية، والشرقية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. كما أنه يجد مشروعية نظرية كونه يقدم حلا مرضيا لمشاكل اجتماعنا السياسي. وثالثا، لوجود قوى تحمله، وهي رغم ضعفها فإنها تتقوى بالعاملين التاريخي والنظري، الأولين.أخيرا لوجود إجماع دولي أخلاقي وسياسي على اعتبار النظام الديمقراطي، النظام الوحيد المقبول في هذا العصر لإدارة الشأن العام.
يجب الإقرار هنا أن السيناريوهان الأولان يمثلان التوجه الغالب الآن، بكل أسف. ولكن ما هي حظوظ الاحتمال الثالث؟
كيف يمكن دفع مسار الانتقال الديمقراطي السلمي؟ وتحقيق طموحات أبناء هذه الأمة. من الواضح أنه لا توجد لهذا السؤال إجابة من نوع تعويذات الحتميات التاريخية. فليس هناك سيناريو سيحصل حتما لأن قانونا إلاهيا أو تاريخيا يقوده. الذي سيصنع الفرق هو تحقيق القدرة من خلال العمل المتواصل والتجديد.
في هذا الإطار، أود طرح بعض الأفكار لدفع النقاش حول عدد من المسائل تتعلق بورشة العمل الهائل الذي ينتظرنا، داخل القوى الديمقراطية العربية، والتجديد الذي هو قدرنا، إن أردنا فعلا لسيناريو النهوض الديمقراطي أن يكون، ويشق له طريقا في الأوحال الحالية.
3. بناء المعرفة الديمقراطية العملية: تسييد البراديغم الديمقراطي المبيأ على ثقافتنا السياسية:
أول المهام التي يجب أن نعمل عليها، من خلال التربية وإعادة مراجعة الذات، هو تسييد البراديغم الديمقراطي المبيأ على ثقافتنا السياسية. يجب تحويل الفكرة الديمقراطية إلى براديغم جوهري يسود غابة الأيديولوجيات والبدائل والتنظيمات والأفراد.
فالعقل السياسي العربي الديمقراطي مطالب بلملمة شرذمة تصوراته المجزأة من خلال إعادة عجنها في خلاط البراديغم الديمقراطي. الأفكار الإسلامية والقومية والوطنية والتنموية، وهي كلها تكثيف مبالغ فيه لجانب واحد من مقومات النهضة، هي أمام ضرورة الوعي بأنها لوحدها لا تشكل كلا لحل نهضوي شامل. لا مستقبل لكل هذه الأفكار السياسية الكبرى التي ألهمت أجيالا سياسية عربية واسعة إلا إذا التزمت بالبراديغم الديمقراطي.
المطلوب هو تحويل الاعتراف السلبي المهيمن حاليا بفضائل النظام الديمقراطي إلى مظلة فكرية، قيمية، نفعية وتنظيمية، تشكل قاعدة إعادة بناء مقومات الاجتماع السياسي داخل دولنا.
ولكن هذا لا يكفي، فحتى لا يكون هذا العمل مجردا، لا بد من إنتاج نظريات فرعية، تتناول القضايا الخصوصية في منطقتنا، والتي تعطي للمشروع الديمقراطي معناه في سياقه.
إنتاج نظريات فرعية تطبيقية:
أقترح التفكير في مجموعة من القضايا هي كالتالي:
- نظرية في صفقة الانتقال وتقاسم السلطة والمصالح:
سيرورة الانتقال الديمقراطي هي بالأساس سيرورة إعادة تقاسم للسلطة تقوم على إعادة ترتيب لتوازن المصالح والقوى السياسية. السؤال هو، هل نملك رؤيا تحليلية لبنية القوى الحاكمة الحالية والمصالح التي تقف عليها؟
والسؤال الثاني هو هل نملك رؤيا استشرافية لماهية قوى التغيير ومصالحها؟
والسؤال الأهم هل نملك رؤيا بديلة نقترحها على المجتمع السياسي في بلداننا تكون بمثابة صفقة شعارها لا خاسر ولا رابح ولكن الوطن هو الوحيد الرابح؟ صفقة وقائية، تعترف بالمصالح الموجودة وتؤمن إعادة بنائها بشكل جديد لا يحتمل خشية القطيعة الدموية الشاملة.
السؤال الأخير في هذا النطاق هو حول القوى السياسية المنتظرة لأداء التغيير؟ من تكون؟ هل سنخترعها مثلما اخترعت الماركسية قوى الطليعة البروليتارية؟ وكما اخترعت القومية قوى طليعة الشعب العربي؟ والتنظيمات الإسلامية التي اخترعت نموذج القوى الجهادية؟ أم أننا سنتعامل مع الموجود الكائن.
تجارب الانتقال الديمقراطي الحديثة تعطينا إشارة هامة قد تساعدنا على الإجابة على هذه الأسئلة. وهي أن جانبا من قوى التغيير تتشكل من إعادة صياغة المجتمع السياسي القائم قبل التغيير وفي عدد كثير من الأحيان فإنها تتشكل من حركات الانسلاخ من الأحزاب الحاكمة ذاتها.
- نظرية حول الديمقراطية والسلام
تعاني منطقتنا من الحروب وتتخبط في تعقدات مشاريع السلام. السؤال هو هل يملك الديمقراطيون رؤيا للسلام؟ ثم ما هي العلاقة الخرائطية بين سيرورتي الانتقال الديمقراطي وإحلال السلام؟ هل تتشابك الأجندتان وكيف؟ المؤتمر الحالي الذي نحضره يرفع شعار "الديمقراطية، طريقا للسلام"، أي أنه بشكل أو بآخر يقيم علاقة شرطية بين المسألتين. ما رأينا في الموضوع؟
سؤال آخر، يتعلق بالعلاقة بين قوى السلام وقوى النهوض الديمقراطي. هل من علاقة بينهما؟
منذ ثلاثة أسابيع، التقيت بواشنطن باحثة أوروبية قالت لي: هل تعرف من يساند المستبدين العرب في أروقة دوائر القرار الأمريكية. قلت لها كثيرون. قالت أعرف على الأقل "لوبيا" مهما من بينهم هو اللوبي الإسرائيلي، والليكودي خاصة. هذا اللوبي النافذ في العالم لا يرى أي مصلحة في تحقيق النهوض الديمقراطي العربي. قلت لها أعرف ذلك، بالبداهة. فردت، حسنا هل ترشدك البداهة إلى ضرورة إقامة تحالف بين الديمقراطيين العرب وقوى السلام الإسرائيلي الذين قد يضعفون جهود اللوبي المذكور؟
تحفزت لأجيبها بما تعرفون: نحن نرفض أن نتعامل مع هؤلاء وأولئك...لأننا كذا وكذا...إلخ...ثم لم أقل شيئا لأنني أحسست أنني سأواجه سؤالا عمليا بتعويذة....
- نظرية حول المسألة الديمقراطية والمسألة الوطنية
بعلاقة بما سبق، السؤال المركزي هنا هو كيف نستطيع استراتيجيا وتكتيكيا أن نوفق بين تطلعاتنا إلى إقامة النظام الديمقراطي مع الحفاظ على السيادة الوطنية. كل عملنا الضروري من أجل إقامة التحالفات على المستوى الدولي يجب أن يخضع لهذه الموازنة، دون أن يلغي هذا، ذاك.
نفس السؤال يطرح على الفكرة القومية. إننا نعرف أن قيام فضاء عربي، اقتصادي وربما سياسي موحد هو مسألة ضرورية لمستقبل وطننا العربي. ولكننا نعرف أيضا أنها آخر ما يمكن أن تقتنع به الدول العظمى، والتي بدون بدون حيادها على الأقل سيصير من الصعب إنجاز التحول الديمقراطي.
إننا موجودون أمام مفارقة صعبة تتمثل معطياتها في كوننا مضطرون إلى العمل والتحالف، من أجل إقامة أنظمة ديمقراطية، مع قوى يبدو أن لا مصلحة عندها في تحقيق طموحاتنا القومية.
مبدئيا كل تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم كانت متزامنة ومتداخلة مع سيرورة بناء وطني. لأن النهوض الديمقراطي، أو إحلال سيادة الشعب، هو تجذير للسيادة الوطنية بمعناها الشامل. فلا ديمقراطية بدون سيادة وطنية. المسألتان بكل بساطة متداخلتان تماما. لن يختلف معنا أحد في هذه الفكرة. ولكن المشكلة هي في كيفية تفصيلها وتحويلها من شعار إلى برامج
- نظرية حول الديمقراطية والمصالحة الوطنية
تركيبة المجتمع العربي المتنوعة والحروب والنزاعات الأهلية التي نشأت لهذا السبب والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، خلقت حالة من التمزق يصبح فيها من المستحيل تصور حالة تحول ديمقراطي خارج سياق مسألة المصالحة الوطنية. هنا يجب النظر بجدية لمسالة العدالة الانتقالية.
- نظرية حول الديمقراطية والتنمية
من البداهة أيضا التذكير أن النهوض الديمقراطي مرتبط بمسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- نظرية حول الديمقراطية والهوية
أي تحول ديمقراطي يحتاج إلى رموز قادرة على تأصيله في سيمياء الثقافة السياسية السائدة. لن نختلف حول حقيقة أن الإسلام والتراث العربي هو المجرى الذي تسبح فيه رمزيات الثقافة السياسية سلطوية كانت أو تحررية. السؤال هنا هو كيف يجب التوفيق بين الباراديغم الديمقراطي الشامل والرمزيات المحلية التي يحتاج إليها للولوج في أي سياق ثقافي خاص.
- نظرية حول الديمقراطية والمساواة النوعية
أي بين الرجل والمرأة. هذه مسألة جوهرية وذات خصوصية في منطقتنا العربية وجزء أساسي في البراديغم الديمقراطي، بشكل يعمل على لف جميع المكونات السياسية العربية حولها بدون إقصاء، ولكن دون المس من مبدأ المساواة.
4. بناء المعرفة والقدرة الاستراتيجية:
بناء البراديغمات والنظريات، مهما كانت عملية، لن يكفي لوحده لبناء حركة ديمقراطية عربية قوية. فلا بد من بناء القدرة الاستراتيجية للإجابة على الأسئلة المتعلقة بالعمل. في هذا المجال هناك نقاط عديدة يمكن إثارتها، ولكن سأكتفي بملاحظات حول مسألتين أساسيتين هما استراتيجية التحول السلمي للسلطة واستراتيجية الديبلوماسية الشعبية.
هذان الأمران، على درجة بالغة من الأهمية لا تعادلها سوى ضعف قدرات القوى الديمقراطية العربية في التعامل معهما، لأنهما يحددان إمكانية قيام دور لهذه القوى في الانتقال الديمقراطي من عدمه.
- التحول السلمي للسلطة:
استراتيجة تغيير السلطة تحتاج هي أيضا إلى نظرية تصبح مهيمنة على الفكر السياسي الاستراتيجي للقوى الديمقراطية العربية وقناعة عامة تسود ذهنية المحكوم وتتعامل مع توجسات وانتظارات الحاكم.
حاليا تتنازع، على هذا المجال، استراتيجيتان مختلفتان:
- التوجه الجهادي الذي تعمل على تربيته المجموعات الجهادية الإسلامية، وهو يقوم على فكرة العنف "المقدس" وسيلة للتغيير
- التوجه المدني الذي يتبنى وسائل التغيير السلمي. وبلا شك فإن إطار العمل السلمي هو الخيار الاستراتيجي السليم، الوحيد الذي يستطيع دفع سيناريو التغيير السلمي المنشود.
المشكلة أنه باستثناء قبول مسلمة ضرورة اعتماد العمل السلمي، لا تملك القوى الديمقراطية العربية التي تعتمده أي معرفة جدية بنظرية وتكتيكات العمل السلمي من أجل التغيير وهي التي أصبحت علما نظريا يدرس ونماذج تكتيكية حية مستوحاة من تجارب عالمية عديدة في آسيا وأوروبا الشرقية.
توظيف العامل الخارجي:
الديبلوماسية الشعبية، ديبلوماسية المجتمع المدني، لها هدف هو صقل نموذج المستقبل الديمقراطي للمنطقة وتسويقه ليكون مقبولا دوليا وجزءا من الأجندة الدولية.
ولها دور يتمثل في العمل على تحقيق تحالف واسع، إقليمي ودولي من أجل مصلحة التغيير في العالم العربي. يجب أن تتوجه هذه الديبلوماسية لنظرائها في المجتمع المدني الدولي وكذلك الحكومات. وفي الواقع، لا يجب أن نخجل من ذلك أو ننتظر دروسا من أحد، خاصة من يريدون استعمال أداة التكفير الوطني لمنع القوى الديمقراطية العربية من أن تكبر، وتصير قوى قادرة على طرق أبواب السلطة.
والحقيقة أن ممارسة أنشطة محددة في مجال الديبلوماسية الشعبية، ليس بالأمر الصعب، بل يتطلب، إضافة للوضوح الاستراتيجي حول الأهداف والمطالب والسقف السياسي لكذا أنشطة، حسن استغلال أجندة مشاركة رموز المجتمع المدني العربي في مختلف الفاعاليات والديناميات الدولية.
5. توصيات:
ختاما أقترح جملة من التوصيات العملية لمتابعة الاستحقاقات التي حاولت بسرعة عرضها، أعلاه.
- تشكيل حلقات تفكير استراتيجي Think Tank وطنية وإقليمية لصياغة مشروع مستقبلي قابل للحياة يقوم على سيادة البراديغم الديمقراطي وتطوير النظريات التطبيقية التي عرضنا بعضا منها أعلاه.
أنا أدعو، من هذا المنبر إلى تأسيس حلقة المشروع الديمقراطي المستقبلي العربي، تكون فضاء تفكير استراتيجي يعنى بصياغة البدائل وقائم على الشراكة بين المنظمات والخبرات العربية. وأدعو كل المنظمات العربية إلى تأسيس حلقات من هذا النوع على المستوى الوطني، حيادية، تكوم منبرا لمختلف القوى الديمقراطية، وتكون محاورها متقاطعة مع القضايا لتي أوضحناها أعلاه.
- ضخ جيل جديد من النشطاء داخل الحركة الديمقراطة تقوم قدراتهم على توازن بين الإلمام النظري، والالتزام القيمي والخبرة التقنية العالية.
أنا أدعو أيضا من هذا المنبر إلى تطوير برامج واسعة لخلق جيل جديد من الخبرات العربية عالية المستوى في مجال إدارة قضايا الانتقال الديمقراطي.
- التوصية الثالثة تتعلق بتنمية المعارف حول قضايا الانتقال الديمقراطي باعتماد منهجية تبادل للتجارب ونقل الخبرات
- تنشيط أنشطة الديبلوماسية الشعبية وتوظيف بعض مكونات العامل الخارجي لصالح النهوض الديمقراطي العربي
في المنطقة العربية في السياقات الدولية والإقليمية والمحلية العربية
أ.محسن مرزوقالمنسق التنفيذي العام
مركز الكواكبي للتحولات الديمقراطية
هذه المداخلة هي محاولة لطرح أسئلة استشرافية حول سيناريوهات الانتقال الديمقراطي في المنطقة العربية في السياقات الدولية والإقليمية والمحلية العربية.
نحاول طرح هذه الأسئلة في إطار السياقات أولا، ثم، ثانيا، من منظور داخلي يتعلق بقدرات الحركة الديمقراطية العربية على معالجة استحقاقات الانتقال الديمقراطي، وأخيرا وأنا لا أخفي انحيازي لهذه الحركة، سأتقدم ببعض الاقتراحات العملية قد تفيدنا في رسم برامج متابعة مستقبلية.
في البداية لا بد من إطلالة سريعة على الوضع الحالي إقليميا وعربيا.
1. في السياقات:
في جملة مختصرة لخص د.الصادق المهدي، رئيس الوزراء السوداني السابق، الوضع الحالي في منطقتنا بالقول هي هيمنة الثلاثية الحزينة: الغزاة، الغلاة والطغاة. السياق الناتج عن تفاعل هذه القوى هو ما يحيط باستشرافنا لسيناريوهات تطور النظام السياسي العربي.
1.1. العامل الدولي:
تتراوح تأثيرات العامل الدولي على مشروع الانتقال العربي بين السلبي الفاعل والسلبي المحايد. فمن جهة من الواضح أن قوى أجنبية مؤثرة، حكومية بالأخص، مازالت تنظر للمنطقة العربية من زاوية الأطماع، وهو ما يسبغ على مقاربتها لمشروع الانتقال الديمقراطي العربي طابع المقاربة الانتهازية التي رغم دعمها الظاهري لهذا المشروع فإنها تنظر له بصفته تهديدا محتملا لأطماعها المادية والاستراتيجية.
ولأن بعض هذه القوى تعتقد أنه من الممكن اتباع سياسة عدوانية لحل ما تعتبره مشاكل المنطقة، من منظور أجندة ما تعتبره حلولا لتلك المشاكل، فإن التأثير على المشروع الديمقراطي العربي يصبح بالغ السلبية. فشعار ضرورة دمقرطة المنطقة التي تطرحه هذه القوى في خطابها يتناقض مع سلوكها الفعلي الذي يتناقض مع أبسط حقوق الإنسان، فما بالك بحقوقه المدنية والسياسية.
وبشكل عام يمكن القول أن المبادرات الأمريكية أو الأوروبية الرسمية الخاصة بنشر الديمقراطية في المنطقة العربية، لم تشكل عاملا إيجابيا داعما بشكل حقيقي للمشروع الديمقراطي العربي. أما الأمم المتحدة فإنها سجينة براديغم سيادة الدول الذي يقوم عليه كيانها.
أما قوى المجتمع المدني الدولي، فإنها تتأرجح بين اللامبالاة، وغياب الجدية وفي أحسن الأحوال هو اهتمام دون متابعة. بالنسبة لهذه القوى، وباستثناء عدد قليل من المبادرات، فإن وضع الاستبداد السياسي العربي هو أمر يؤسف له ولكنه لا يشكل أولوية لنشاطاتها في المنطقة.
ولقد ساعد الوضع العربي المتميز بهيمنة ثنائية الطغاة والغلاة وضعف القوى الديمقراطية، على خلق قابلية لاستمرارية التأثير السلبي للعامل الخارجي على مشروع النهوض الديمقراطي العربي.
2.1. الوضع العربي الداخلي:
لعل النقطة الإيجابية الوحيدة الأساسية، وهي غير هينة، التي يمكن استخلاصها من قراءتنا للوضع العربي الداخلي من وجهة نظر المشروع الديمقراطي، تتمثل في الإجماع الحاصل، في الخطاب الرسمي كما في خطاب القوى المدنية على فضائل النظام الديمقراطي. فمنذ سنوات قليلة مضت، كان ينظر للمنطوق الديمقراطي نظرة أمنية أو أيديولوجية سلبية من طرف الأنظمة وكذلك من طرف المجموعات الأيديولوجية التي تعتبر الديمقراطية مشروعا مستوردا، دخيلا، متناقضا مع خصوصياتنا وقيمنا.
الأنظمة العربية: إصلاح خجول وجمود متجدد:
باستثناء هذا الإجماع اللفظي، ومع الإقرار بنقط ضوء نادرة، لا نلاحظ أي ديناميكية جدية للولوج في سيرورة الانتقال الديمقراطي في عالمنا العربي.
ولعل المحاولة الوحيدة التي تستحق الاهتمام هي تلك التي تتواصل في المملكة المغربية، حيث ترافق السعي لتوسيع نطاق المشاركة السياسية، بمسار مصالحة وطنية لمعالجة ماضي انتهاكات حقوق الإنسان، وقع فيها اعتماد مبادئ العدالة الانتقالية. كما نلاحظ بعض المحاولات المحدودة في المملكة الأردنية والمملكة البحرينية، ويواصل لبنان محاولات دمقرطة نظامه الطائفي.
ورغم هذا التقدم، فإن تحديات عديدة ترافق هذه المحاولات، أهمها كيفية العبور من الانفتاح السياسي إلى تغيير النظام السياسي بشكل جوهري يعبد الطريق أما إحراز انتقال ديمقراطي حقيقي.
أما بالنسبة لغالبية الدول العربية فإنها تتراوح بين وضع جمود لا ينبئ بأي خير، أو انحلال وتفكك شديد الخطورة. وإذا كانت الدول الغنية بالنفط، مثل السعودية، مازالت تستطيع أن تحافظ لوقت معين على وضع الجمود السياسي، وترفض نخبها الحاكمة الإصلاح، مستفيدة من قدرات مالية هائلة، فإن دولا أخرى مثل سوريا وتونس، لا تملك مثل هذه القدرات، تصارع من أجل الحفاظ على وضع سياسي لا يحتمل البقاء.
الشق الثالث من الدول العربية يعاني من انحلال شديد في بنية اجتماعه السياسي، يصل حد الحرب الأهلية، مما يهدد ببقاء الكيان السياسي نفسه، كما يحصل في العراق والسودان وبدرجة مختلفة في فلسطين ولبنان. ومما تجدر الإشارة إليه، في حال هذا الشق الثالث، أن دور العامل الأجنبي فيه، وفي سيرورة انحلال دوله، شديد التأثير، مما يطرح مزيدا من الأسئلة المشروعة حول طبيعة هذا الدور.
خلاصة القول، لا نلاحظ، برغم الاستعداد الخطابي الجديد مضمونا ولكن القديم منهجا وشكلا، رغبة سياسية واضحة من طرف النخب والجماعات العربية الحاكمة للاستفادة من دروس الماضي، ومحاولة استشراف مسار انتقال ديمقراطي جدي حتى وإن كان بطيئا.
القوى الديمقراطية العربية:
في مواجهة هذا الوضع وفي إطاره، تعاني القوى الديمقراطية العربية من ضعف هيكلي متواصل على كل المستويات، لا يؤهلها بكل أسف أن تكون بديلا جديا، وفي أحيان أخرى حتى شريكا.
فالحركة الديمقراطية العلمانية ضعيفة على كل المستويات، لأسباب عديدة ومتعددة، أحدها أنها مشكلة من عوائل سياسية غير منسجمة، لم تقم رغم ما علق ببرامجها وأيديولوجياتها من وهن، بإعادة تقييم وتغيير ذاتها، بحيث أعلنت تحولها إلى قوة ديمقراطية بمجرد رفعها للشعار الديمقراطي.
ومن بين هذه العوائل السياسية يمكن الإشارة للقوى الإسلامية المشاركة أو الطامحة للمشاركة في اللعبة الديمقراطية - التي تقدم نفسها باعتبارها معتدلة-. فهي رغم قوتها البالغة في مجال التعبئة المادية والرمزية، مازالت بشكل عام بعيدة عن مصالحة ذاتها مع استحقاقات المسألة الديمقراطية.
على طرف خارطة المجموعات الإسلامية، يقف الغلاة الجهاديون وهم، وإن بالغت التقارير الدولية في قوتهم لأسباب تتعلق بتبرير ما يسمى بالحرب على الإرهاب، يشكلون توجها متوهجا على المستوى الأيديولوجي، يستفيد خاصة من انسداد الآفاق السياسية وحرية التعبير حيث يعم الاستبداد، وينتشر الجهل والفقر. ورغم كونهم يشكلون خطرا حقيقا على مشروع النهوض الديمقراطي، فأنهم على المستوى الاستراتيجي قد يقدمون حجة إضافية تساعد، إذا أحسن استغلالها، على ضرورة المضي في تعبيد طريق هذا النهوض قبل أن يعم منطق العنف.
2. السيناريوهات المطروحة:
في هذا السياق الكئيب نوعا ما، تتبدى سيناريوهات المستقبل السياسي لمنطقتنا متوزعة على ثلاثة احتمالات، تتغذى من الاتجاهات والديناميكيات الحالية التي قمنا بعرضها في ما سبق من التحليل.
- السيناريو الأسوأ تقدمه نماذج التفكك والتمزق وسيادة العنف الدموي التي نشاهدها الآن في العراق وفلسطين ولبنان والجزائر والسودان والتي تهدد بالامتداد إلى دول أخرى، بتضافر قابلية داخلية مع قابلية خارجية.
- السيناريو الأرجح، على الأقل في المدى المنظور، هو سيناريو الجمود وإعادة الإنتاج لمقومات الاستبداد السياسي الجوهرية وإن بشيء من التجميل. يجد هذا السيناريو مشروعية له في رغبة أغلب النظم العربية على إبقاء الأمر على ما هو عليه، مستفيدة من عناصر متعددة، أهمها ضعف حركة التغيير الديمقراطي داخليا، إضافة لإمكانية الاستفادة من ظروف متغيرة مثل مداخيل ريعية هائلة (النفط) أو عوامل جيو-استراتيجية كالصراع العربي الإسرائيلي أو الحرب على الإرهاب. ونحن نرى نماذج من هذا السيناريو في عمليات توريث السلطة. كما يستطيع أن يتحقق من خلال حركات تغيير سياسي تستبدل طاغية بآخر، دون المس من جوهر الاستبداد.
إلى أي مدى يستطيع هذا السيناريو البقاء دون الانحراف نحو السيناريو الأسوأ أو التسامي نحو النهوض الديمقراطي؟ لا يمكن تقديم إجابة قاطعة أو شاملة على هذا السؤال. فنحن محتاجون إلى عمل بحثي استراتيجي لمسار كل بلد عربي على حدة يقوم بالرصد والتحليل، وهي بكل أسف قدرات لا نملكها بالشكل الكافي في المنطقة.
- التحول الديمقراطي السلمي، هو السيناريو الثالث الذي نطمح له جميعا. وهو يجد مشروعيته أولا من حركة التاريخ الدولي الحالية، بعد موجات إرساء الديمقراطية في أوروبا الجنوبية، والشرقية وأمريكا اللاتينية وإفريقيا. كما أنه يجد مشروعية نظرية كونه يقدم حلا مرضيا لمشاكل اجتماعنا السياسي. وثالثا، لوجود قوى تحمله، وهي رغم ضعفها فإنها تتقوى بالعاملين التاريخي والنظري، الأولين.أخيرا لوجود إجماع دولي أخلاقي وسياسي على اعتبار النظام الديمقراطي، النظام الوحيد المقبول في هذا العصر لإدارة الشأن العام.
يجب الإقرار هنا أن السيناريوهان الأولان يمثلان التوجه الغالب الآن، بكل أسف. ولكن ما هي حظوظ الاحتمال الثالث؟
كيف يمكن دفع مسار الانتقال الديمقراطي السلمي؟ وتحقيق طموحات أبناء هذه الأمة. من الواضح أنه لا توجد لهذا السؤال إجابة من نوع تعويذات الحتميات التاريخية. فليس هناك سيناريو سيحصل حتما لأن قانونا إلاهيا أو تاريخيا يقوده. الذي سيصنع الفرق هو تحقيق القدرة من خلال العمل المتواصل والتجديد.
في هذا الإطار، أود طرح بعض الأفكار لدفع النقاش حول عدد من المسائل تتعلق بورشة العمل الهائل الذي ينتظرنا، داخل القوى الديمقراطية العربية، والتجديد الذي هو قدرنا، إن أردنا فعلا لسيناريو النهوض الديمقراطي أن يكون، ويشق له طريقا في الأوحال الحالية.
3. بناء المعرفة الديمقراطية العملية: تسييد البراديغم الديمقراطي المبيأ على ثقافتنا السياسية:
أول المهام التي يجب أن نعمل عليها، من خلال التربية وإعادة مراجعة الذات، هو تسييد البراديغم الديمقراطي المبيأ على ثقافتنا السياسية. يجب تحويل الفكرة الديمقراطية إلى براديغم جوهري يسود غابة الأيديولوجيات والبدائل والتنظيمات والأفراد.
فالعقل السياسي العربي الديمقراطي مطالب بلملمة شرذمة تصوراته المجزأة من خلال إعادة عجنها في خلاط البراديغم الديمقراطي. الأفكار الإسلامية والقومية والوطنية والتنموية، وهي كلها تكثيف مبالغ فيه لجانب واحد من مقومات النهضة، هي أمام ضرورة الوعي بأنها لوحدها لا تشكل كلا لحل نهضوي شامل. لا مستقبل لكل هذه الأفكار السياسية الكبرى التي ألهمت أجيالا سياسية عربية واسعة إلا إذا التزمت بالبراديغم الديمقراطي.
المطلوب هو تحويل الاعتراف السلبي المهيمن حاليا بفضائل النظام الديمقراطي إلى مظلة فكرية، قيمية، نفعية وتنظيمية، تشكل قاعدة إعادة بناء مقومات الاجتماع السياسي داخل دولنا.
ولكن هذا لا يكفي، فحتى لا يكون هذا العمل مجردا، لا بد من إنتاج نظريات فرعية، تتناول القضايا الخصوصية في منطقتنا، والتي تعطي للمشروع الديمقراطي معناه في سياقه.
إنتاج نظريات فرعية تطبيقية:
أقترح التفكير في مجموعة من القضايا هي كالتالي:
- نظرية في صفقة الانتقال وتقاسم السلطة والمصالح:
سيرورة الانتقال الديمقراطي هي بالأساس سيرورة إعادة تقاسم للسلطة تقوم على إعادة ترتيب لتوازن المصالح والقوى السياسية. السؤال هو، هل نملك رؤيا تحليلية لبنية القوى الحاكمة الحالية والمصالح التي تقف عليها؟
والسؤال الثاني هو هل نملك رؤيا استشرافية لماهية قوى التغيير ومصالحها؟
والسؤال الأهم هل نملك رؤيا بديلة نقترحها على المجتمع السياسي في بلداننا تكون بمثابة صفقة شعارها لا خاسر ولا رابح ولكن الوطن هو الوحيد الرابح؟ صفقة وقائية، تعترف بالمصالح الموجودة وتؤمن إعادة بنائها بشكل جديد لا يحتمل خشية القطيعة الدموية الشاملة.
السؤال الأخير في هذا النطاق هو حول القوى السياسية المنتظرة لأداء التغيير؟ من تكون؟ هل سنخترعها مثلما اخترعت الماركسية قوى الطليعة البروليتارية؟ وكما اخترعت القومية قوى طليعة الشعب العربي؟ والتنظيمات الإسلامية التي اخترعت نموذج القوى الجهادية؟ أم أننا سنتعامل مع الموجود الكائن.
تجارب الانتقال الديمقراطي الحديثة تعطينا إشارة هامة قد تساعدنا على الإجابة على هذه الأسئلة. وهي أن جانبا من قوى التغيير تتشكل من إعادة صياغة المجتمع السياسي القائم قبل التغيير وفي عدد كثير من الأحيان فإنها تتشكل من حركات الانسلاخ من الأحزاب الحاكمة ذاتها.
- نظرية حول الديمقراطية والسلام
تعاني منطقتنا من الحروب وتتخبط في تعقدات مشاريع السلام. السؤال هو هل يملك الديمقراطيون رؤيا للسلام؟ ثم ما هي العلاقة الخرائطية بين سيرورتي الانتقال الديمقراطي وإحلال السلام؟ هل تتشابك الأجندتان وكيف؟ المؤتمر الحالي الذي نحضره يرفع شعار "الديمقراطية، طريقا للسلام"، أي أنه بشكل أو بآخر يقيم علاقة شرطية بين المسألتين. ما رأينا في الموضوع؟
سؤال آخر، يتعلق بالعلاقة بين قوى السلام وقوى النهوض الديمقراطي. هل من علاقة بينهما؟
منذ ثلاثة أسابيع، التقيت بواشنطن باحثة أوروبية قالت لي: هل تعرف من يساند المستبدين العرب في أروقة دوائر القرار الأمريكية. قلت لها كثيرون. قالت أعرف على الأقل "لوبيا" مهما من بينهم هو اللوبي الإسرائيلي، والليكودي خاصة. هذا اللوبي النافذ في العالم لا يرى أي مصلحة في تحقيق النهوض الديمقراطي العربي. قلت لها أعرف ذلك، بالبداهة. فردت، حسنا هل ترشدك البداهة إلى ضرورة إقامة تحالف بين الديمقراطيين العرب وقوى السلام الإسرائيلي الذين قد يضعفون جهود اللوبي المذكور؟
تحفزت لأجيبها بما تعرفون: نحن نرفض أن نتعامل مع هؤلاء وأولئك...لأننا كذا وكذا...إلخ...ثم لم أقل شيئا لأنني أحسست أنني سأواجه سؤالا عمليا بتعويذة....
- نظرية حول المسألة الديمقراطية والمسألة الوطنية
بعلاقة بما سبق، السؤال المركزي هنا هو كيف نستطيع استراتيجيا وتكتيكيا أن نوفق بين تطلعاتنا إلى إقامة النظام الديمقراطي مع الحفاظ على السيادة الوطنية. كل عملنا الضروري من أجل إقامة التحالفات على المستوى الدولي يجب أن يخضع لهذه الموازنة، دون أن يلغي هذا، ذاك.
نفس السؤال يطرح على الفكرة القومية. إننا نعرف أن قيام فضاء عربي، اقتصادي وربما سياسي موحد هو مسألة ضرورية لمستقبل وطننا العربي. ولكننا نعرف أيضا أنها آخر ما يمكن أن تقتنع به الدول العظمى، والتي بدون بدون حيادها على الأقل سيصير من الصعب إنجاز التحول الديمقراطي.
إننا موجودون أمام مفارقة صعبة تتمثل معطياتها في كوننا مضطرون إلى العمل والتحالف، من أجل إقامة أنظمة ديمقراطية، مع قوى يبدو أن لا مصلحة عندها في تحقيق طموحاتنا القومية.
مبدئيا كل تجارب الانتقال الديمقراطي في العالم كانت متزامنة ومتداخلة مع سيرورة بناء وطني. لأن النهوض الديمقراطي، أو إحلال سيادة الشعب، هو تجذير للسيادة الوطنية بمعناها الشامل. فلا ديمقراطية بدون سيادة وطنية. المسألتان بكل بساطة متداخلتان تماما. لن يختلف معنا أحد في هذه الفكرة. ولكن المشكلة هي في كيفية تفصيلها وتحويلها من شعار إلى برامج
- نظرية حول الديمقراطية والمصالحة الوطنية
تركيبة المجتمع العربي المتنوعة والحروب والنزاعات الأهلية التي نشأت لهذا السبب والانتهاكات الواسعة لحقوق الإنسان، خلقت حالة من التمزق يصبح فيها من المستحيل تصور حالة تحول ديمقراطي خارج سياق مسألة المصالحة الوطنية. هنا يجب النظر بجدية لمسالة العدالة الانتقالية.
- نظرية حول الديمقراطية والتنمية
من البداهة أيضا التذكير أن النهوض الديمقراطي مرتبط بمسألة التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
- نظرية حول الديمقراطية والهوية
أي تحول ديمقراطي يحتاج إلى رموز قادرة على تأصيله في سيمياء الثقافة السياسية السائدة. لن نختلف حول حقيقة أن الإسلام والتراث العربي هو المجرى الذي تسبح فيه رمزيات الثقافة السياسية سلطوية كانت أو تحررية. السؤال هنا هو كيف يجب التوفيق بين الباراديغم الديمقراطي الشامل والرمزيات المحلية التي يحتاج إليها للولوج في أي سياق ثقافي خاص.
- نظرية حول الديمقراطية والمساواة النوعية
أي بين الرجل والمرأة. هذه مسألة جوهرية وذات خصوصية في منطقتنا العربية وجزء أساسي في البراديغم الديمقراطي، بشكل يعمل على لف جميع المكونات السياسية العربية حولها بدون إقصاء، ولكن دون المس من مبدأ المساواة.
4. بناء المعرفة والقدرة الاستراتيجية:
بناء البراديغمات والنظريات، مهما كانت عملية، لن يكفي لوحده لبناء حركة ديمقراطية عربية قوية. فلا بد من بناء القدرة الاستراتيجية للإجابة على الأسئلة المتعلقة بالعمل. في هذا المجال هناك نقاط عديدة يمكن إثارتها، ولكن سأكتفي بملاحظات حول مسألتين أساسيتين هما استراتيجية التحول السلمي للسلطة واستراتيجية الديبلوماسية الشعبية.
هذان الأمران، على درجة بالغة من الأهمية لا تعادلها سوى ضعف قدرات القوى الديمقراطية العربية في التعامل معهما، لأنهما يحددان إمكانية قيام دور لهذه القوى في الانتقال الديمقراطي من عدمه.
- التحول السلمي للسلطة:
استراتيجة تغيير السلطة تحتاج هي أيضا إلى نظرية تصبح مهيمنة على الفكر السياسي الاستراتيجي للقوى الديمقراطية العربية وقناعة عامة تسود ذهنية المحكوم وتتعامل مع توجسات وانتظارات الحاكم.
حاليا تتنازع، على هذا المجال، استراتيجيتان مختلفتان:
- التوجه الجهادي الذي تعمل على تربيته المجموعات الجهادية الإسلامية، وهو يقوم على فكرة العنف "المقدس" وسيلة للتغيير
- التوجه المدني الذي يتبنى وسائل التغيير السلمي. وبلا شك فإن إطار العمل السلمي هو الخيار الاستراتيجي السليم، الوحيد الذي يستطيع دفع سيناريو التغيير السلمي المنشود.
المشكلة أنه باستثناء قبول مسلمة ضرورة اعتماد العمل السلمي، لا تملك القوى الديمقراطية العربية التي تعتمده أي معرفة جدية بنظرية وتكتيكات العمل السلمي من أجل التغيير وهي التي أصبحت علما نظريا يدرس ونماذج تكتيكية حية مستوحاة من تجارب عالمية عديدة في آسيا وأوروبا الشرقية.
توظيف العامل الخارجي:
الديبلوماسية الشعبية، ديبلوماسية المجتمع المدني، لها هدف هو صقل نموذج المستقبل الديمقراطي للمنطقة وتسويقه ليكون مقبولا دوليا وجزءا من الأجندة الدولية.
ولها دور يتمثل في العمل على تحقيق تحالف واسع، إقليمي ودولي من أجل مصلحة التغيير في العالم العربي. يجب أن تتوجه هذه الديبلوماسية لنظرائها في المجتمع المدني الدولي وكذلك الحكومات. وفي الواقع، لا يجب أن نخجل من ذلك أو ننتظر دروسا من أحد، خاصة من يريدون استعمال أداة التكفير الوطني لمنع القوى الديمقراطية العربية من أن تكبر، وتصير قوى قادرة على طرق أبواب السلطة.
والحقيقة أن ممارسة أنشطة محددة في مجال الديبلوماسية الشعبية، ليس بالأمر الصعب، بل يتطلب، إضافة للوضوح الاستراتيجي حول الأهداف والمطالب والسقف السياسي لكذا أنشطة، حسن استغلال أجندة مشاركة رموز المجتمع المدني العربي في مختلف الفاعاليات والديناميات الدولية.
5. توصيات:
ختاما أقترح جملة من التوصيات العملية لمتابعة الاستحقاقات التي حاولت بسرعة عرضها، أعلاه.
- تشكيل حلقات تفكير استراتيجي Think Tank وطنية وإقليمية لصياغة مشروع مستقبلي قابل للحياة يقوم على سيادة البراديغم الديمقراطي وتطوير النظريات التطبيقية التي عرضنا بعضا منها أعلاه.
أنا أدعو، من هذا المنبر إلى تأسيس حلقة المشروع الديمقراطي المستقبلي العربي، تكون فضاء تفكير استراتيجي يعنى بصياغة البدائل وقائم على الشراكة بين المنظمات والخبرات العربية. وأدعو كل المنظمات العربية إلى تأسيس حلقات من هذا النوع على المستوى الوطني، حيادية، تكوم منبرا لمختلف القوى الديمقراطية، وتكون محاورها متقاطعة مع القضايا لتي أوضحناها أعلاه.
- ضخ جيل جديد من النشطاء داخل الحركة الديمقراطة تقوم قدراتهم على توازن بين الإلمام النظري، والالتزام القيمي والخبرة التقنية العالية.
أنا أدعو أيضا من هذا المنبر إلى تطوير برامج واسعة لخلق جيل جديد من الخبرات العربية عالية المستوى في مجال إدارة قضايا الانتقال الديمقراطي.
- التوصية الثالثة تتعلق بتنمية المعارف حول قضايا الانتقال الديمقراطي باعتماد منهجية تبادل للتجارب ونقل الخبرات
- تنشيط أنشطة الديبلوماسية الشعبية وتوظيف بعض مكونات العامل الخارجي لصالح النهوض الديمقراطي العربي
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام