مقدمة:
تأثرت السياسة العامة في مراحل تطورها بمختلف القفزات النوعية التي حققها علم السياسة، خاصة مع ذلك الجديد الذي أتت به الثورة السلوكية في حقل العلوم الإنسانية ،وكذلك الفكرة التي يراد التأسيس لها حول الدور الجديد للدولة وهو الذي باتت تمليه ظروف المرحلة الراهنة ،فبعد أن كان تدخل الدولة محورا بمجالات تحقيق الأمن و الدفاع عن السيادة الوطنية ،أصبح يتجاوزها إلى مسائل أوسع تدخل في نطاقها قضايا مثل البيئة ، الأسرة ...،وهو ما جعل برنامج الحكومة المتضمن السياسة العامة للدولة يتسع ليشمل مجالات كانت بعيدة كل البعد عن اهتمام الرجل السياسي .
لقد جعلت كل هذه المعطيات السياسة العامة تشهد دفعا جديدا في محتواها و فواعلها ،فقد أصبحت تناقش مواضيع متنوعة تصنع من طرف فواعل كانوا سابقا من جمهور السياسة العامة ،ولم يكن لهم أي يد في صناعتها أو تنفيذها ،وذلك خاصة أثناء المرحلة التقليدية أين كان التركيز كل التركيز منصبا على مؤسسات الدولة ،التشريعية ،القضائية ،التنفيذية وهي التي كانت تتولى وحدها مهمة صنع وتنفيذ السياسة العامة في المجال الضيق الضيق جدا ،إلا أن معطيات عدة شهدها القرن العشرين وخاصة فترة مابين الحربين العالميتين الأولى و الثانية متى ارتفعت الأصوات بضرورة إقحام الدولة في مختلف المجالات وهو ما جعل عملية صنع السياسة العامة على تلك الدرجة من التشعب و التعقيد نتيجة الأدوار المتعددة للدولة و الهادفة إلى تخطيط وتنظيم كافة جوانب الحياة في المجتمع و أصبحت السياسات العامة المتنوعة ،والمتعددة التي تبلور الإرادة المجتمعية وتحدد الأطر الفكرية ،و المناهج العملية لتوجهاتها ،و أساليب عمل المؤسسات الحكومية ،فأصبحنا نتحدث عن سياسة عامة ل: الصحة، التعليم ،الإسكان ،الاقتصاد القومي،الرعاية الاجتماعية ،البيئة ... ،و غيرها
مع كل هذه التطورات لاقت موضوعات السياسة العامة عناية خاصة في الدول الغربية ،وهو الأمر الذي يمكن أن نلحظه من خلال حيز البحث المخصص لها في الجامعات و المنظمات ،و الهيئات البحثية التي أسهمت في دراستها وتحليلها وسوف نحاول في هذا البحث أن نتطرق إلى أكثر المحطات الفاصلة في تطور السياسة العامة من خلال طرحنا الإشكالية التالية
كيف ساهمت الأطروحات الفكرية و الأحداث التي عرفها القرن العشرين في انتقال السياسة العامة من مرحلتها التقليدية ضيقة النطاق إلى المرحلة الحديثة التي ذهبت بالسياسة العامة بعيدا في محتواها وفواعلها ؟
كما يمكن أن ندرج تحت إطار هذه الإشكالية الرئيسية الإشكاليات الفرعية التالية
-ما هي السياسة العامة وما هي الأسباب الداعية إلى تعاظم الاهتمام بها ؟
- ماهو الجديد الذي أضافته فكرة توسيع دور الدولة على حقل السياسة العامة ؟
- إلى أي مدى ساهمت أطروحات المدرسة السلوكية في تطور دراسة السياسة العامة ؟
وسوف نعطي إجابات مؤقتة عن هذه الأسئلة من خلال الفرضيات التالية :
-تعبر السياسة العامة عن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع المشكلات الاجتماعية.
-أدى توسيع دور الدولة إلى تزايد اهتمام رجال السياسة والمفكرين بضرورة تحديد الطرق السليمة لصياغة سياسة عامة ناجحة.
-ساهمت أطروحات المدرسة السلوكية في تعدد موضوعات وفواعل السياسة العامة الأمر الذي أثرى محتواها بصورة كبيرة.
وفي محاولتنا للتحقق من صحة هذه الفرضيات سوف ندرس الموضوع وفق الخطة التالية :
مقدمة:
I- ماهية السياسة العامة .
I –1 - تعريف السياسة العامة.
I -2- أسباب الاهتمام بدراسة السياسة العامة.
-IIمراحل نشأة السياسة العامة
II - 1 - المرحلة التقليدية
II - 2 -مرحلة ما بين الحربين
II - 3 مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
II- 4 السياسية العامة في المرحلة ما بعد السلوكية
III- الأطروحات النظرية للسياسة العامة
1-III نظريات نشأة السياسة العامة
2-III السياسة العامة بين الطرح الانجلوساكسوني والاوروبي
الخاتمة
-ماهية السياسة العامة
I -1- تعريف السياسة العامة
يعتبر مجال السياسة العامة مجالا حديثا وهاما في علم السياسة، فهو أداة هامة لتقويم أداء النظام السياسي وفعاليته، إذ انه لا يكتفي بدراسة مضمون السياسة، وإنما يتطرق إلى كيفية صنعها وتكلفتها وبدائلها وكيفية تنفيذها والمطابقة بين أهدافها المعلنة والنتائج العملية للتطبيق ويدخل في ذلك تحليل الآثار المتوقعة من تنفيذ سياسة ما(1).
تظهر السياسة العامة للدولة في عدة أشكال ،إما في قرارات منفردة كالقرار المتعلق بتنظيم احد المرافق العامة أو قرار الميزانية وإما في قواعد قانونية أي نصوص عامة مجردة سواء صدرت من الهيئة التشريعية كالقوانين التي تصنع البرامج الصحية أو ترسم السياسة الزراعية أو السياسة التعليمية أو صدرت من الهيئة التنفيذية باستعمالها للسلطة اللائحية كلوائح الضبط و اللوائح التنظيمية ومع ذلك تظل السياسة العامة عملية سابقة على اتخاذ القرارات وهكذا يتضح مفهومها الحقيقي من زاويتين :
-زاوية ماهيتها على أنها مبادئ مرشدة
- زاوية طبيعتها التي ترتبط بالإدارة العامة وإدارة التنمية وخاصة في المجتمعات النامية
و أخيرا بعلم الاقتصاد باعتباره علم سلوكي مثال ذلك ماتدل عليه التجربة التاريخية للمجتمعات المتقدمة من أن عملية النمو الاقتصادي تقتضي توافر عامل هام هو إدارة التنمية أي حدوث تغيير جوهري للفكر السائد(2 )
وقد حاول بعض المفكرين إعطاء تعريفات للسياسة العامة اختلفت حسب الزاوية التي ينظر إليها كل منهم و تجدر الإشارة إلى أن هذه التعريفات صنفت عموما إلى ثلاث أنماط رئيسية:
أولا: السياسة العامة كمتغير تابع:أو كنتيجة لقيام النظام السياسي بممارسة نشاطاته من خلال السلطة التشريعية التي تنظم الحياة العامة في اطار الدولة، ويلاحظ أن هذا التعريف يؤكد على السياسة العامة في حد ذاتها، وبالتالي ينصب محور التركيز على السبل المتاحة لتحسين المحتوى حتى يمكن صناعة قرارات أفضل، ويعكس هذا المفهوم عموما رأي أصحاب المدرسة الكلاسيكية في اطار علم الإدارة العامة الذي يؤكد على الأخذ بمبدأ فصل السلطات الذي ينحصر إصدار القوانين والتشريعات وفقه في السلطة التشريعية، أما السلطة التنفيذية فان مهمتها تنحصر في عملية التنفيذ الحرفي والمنظم
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)وصال نجيب العزاوي :مبادئ السياسة العامة،ط1،دار اسامة للنشر و التوزيع ،الاردن ،عمان،2003،ص3
(2)محمد نصر مهنا:الادارة العامة وادارة الخصخصة ،ط1،المكتب الجامعي الحديث ،الاسكندية،مصر،2006،ص45.
للقانون،وقد أكد الرئيس الأمريكي السابق وودرو ولسون في مقالته التي نشرت عام 1887 على الحياد الوظيفي للجهاز التنفيذي أو السلطة التنفيذية أي كانت مسمياته
ثانيا: السياسة العامة كمتغير مستقل: حيث يركز هذا النوع من التعريفات على أهمية الدور الذي تلعبه السياسة العامة كعامل مؤثر في العديد من المجالات داخل وخارج اطار الدولة، فالسياسة العامة وفق هذا المنظور تؤثر على القطاعات المختلفة مثل: التعليم، الصحة، البيئة، التنمية والفقر والعلاقات الخارجية، إذن فمحور التركيز لم ينصب على السياسة العامة في حد ذاتها ولكنه تعدى ذلك إلى تحديد القطاعات والنشاطات المتأثرة بالسياسة العامة خلال مراحل تشكلها المختلفة.
ثالثا:السياسة العامة كعملية: تعتبر متغير تابعا ومستقلا في نفس الوقت وبالتالي يلاحظ أن هذا المفهوم يضفي سمة التعقيد والتداخل على المراحل المختلفة للسياسة العامة، ووفقا لهذا المنظور فإن السياسة العامة تعتبر عملية تتأثر بالبيئة المحيطة بها وتكون بالتالي نتيجة تفاعل العديد من العوامل في البيئة المحيطة من خلال نظام ما يعرف بالنتائج OUT COMESS ونظام التغذية العكسية THE FEED- BACK SYSTEM التي تؤثر بدورها في البيئة المحيطة بأبعادها وجوانبها المختلفة(1).
يعرف بسيوني إبراهيم حمادة السياسة العامة بأنها" ما هي إلا أفكار خاصة في البداية وعندما يشترك عدد كبير من الأفراد في هده الأفكار تصبح مقترحات،وعندما تتبنى السلطات الحكومية هده المقترحات تصبح سياسة عامة "
فكرة >اقتراح >سياسة عامة
وقد تكون السياسة العامة ايجابية في صياغتها مثلما تكون سلبية، فهي قد تأمر بالتصرف باتجاه معين وقد تنه عن القيام بتصرفات غير مرغوبة، أو قد يعد سكوتها أو عدم التزامها بالتصرف إزاء ظواهر معنية بمثابة توجه فالحكومة قد تتبنى مثلا سياسة عدم التدخل المسماة LASSEZ FAIR أو رفع اليد HANDSOFF في ميدان أو قطاع ما أو إزاء ظاهرة محددة بذاتها فهي في كل الأحوال تؤثر بمواقفها على السكان، أو على المعنيين بهده الأمور(2) .
هناك من التعاريف من أضفى على السياسة العامة الجانب التشريعي حيث أصبح يعتبر السياسة العامة على أنها (قرار أو مجموعة قرارات سياسية )وعرفت وفق هدا المنطق على أنها "مجموعة قرارات يتخذها فاعلون معروفون بهدف تحقيق غرض عام" وهنا تجدر الإشارة إلى الفاعلين معروفين بدلالة المؤسسات التي تكون مهمتها اتخاذ القرارات هده المسالة ترتبط بالأجهزة العليا في النظام السياسي التي تكون مهمتها الأساسية سن التشريعات واتخاذ القرارات كالسلطة التشريعية .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)مصطفى عبد الله خشيم ،نظرية السياسة العامة،2007،من الموقع:
WWW.HAWARIBOUMADIAN.1520.MAKTOOBBLOG.COM/1245026/ .
(2)وصال نجيب العزاوي ،مرجع سابق ،ص14
كما عرفت السياسة العامة من هذا المنظور بأنها:
"قرار دائم يتميز بثبات السلوك الذي يترتب عليه، كما انه يمثل وجهات نظر أولئك الذين اتخذوا القرار و الذين يلتزمون به "
و هذا يظهر في النظم الديمقراطية كون السياسة العامة ترتبط بعملية اتخاذ القرار فمن الضروري تحديد أبعاد العلاقة بين السياسة العامة و صنع القرار (فالقرار اختيار احد البدائل لمواجهة موقف معين...)و عملية الحكم تقتضي إيجاد العديد من القرارات... و لضمان الحد الأدنى من التنسيق( بين القرارات) عملت الدول على وضع نظام هرمي بمقتضاه تكون القرارات فردية تابعة لمجاميع قراريه أسمى وأكثر تجديدا تسمى السياسات ، فكان السياسة هي بمثابة مرشد للقرارات الخاصة بمشكلة أو ميدان معين .
أما من الناحية التنفيذية فعرفت السياسة العامة على أساس الأداء الحكومي و تنفيذ القرارات لذلك عرفت بأنها ( برنامج عمل هادف يوجه و يرشد المتعاملين مع مشكلة أو قضية تثير الاهتمام)
أيضا عرفت بأنها(خطط و برنامج أو أهداف عامة أو كل هذه معا يظهر منها اتجاه عمل الحكومة في فترة زمنية مستقبلية )بحيث يكون لها مبررات و هذا يعني بان السياسة العامة هي تعبير عن التوجه السلطوي أو القهري لموارد الدولة و المسؤول عن التوجيه الحكومي (1).
I-2- أسباب الاهتمام بدراسة السياسة العامة
سبب نشأة السياسة العامة ...... هو وجود مشكلة عامة
تعريف المشكلة ومستوياتها
-حاجات إنسانية حسب نطاقها
-مسببات عدم رضى
-حرمان - مشكلة اجتماعية مشكلة عامة
-ظلم يتطلب تعويض او علاج - مشكلة شخصية
تعتبر السياسة العامة
أهميتهما وأثرهما محدودان محاولة حكومية لحل
هذا المستوى
ــــــــــــــــــــ
(1)مها عبد اللطيف الحديثي ،النظام السياسي و السياسة العامة،من الموقع:
WWW.VB.ARABSGATE.COM/SHOUTHREAD.PHP
- نتيجة للأزمة الاقتصادية العامة في أواخر العشرينيات و بداية الثلاثينيات الميلادية.
- خلال الحرب العالمية الثانية استعانت الحكومة الأمريكية بعدد كبير من العلماء في بتخصصات مختلفة و ذلك بقصد دراسة سياسيات مقترحة أو منفذة و التوصية بشأنها.
- أسفرت جهود العلماء عن ظهور تطورات علمية ساعدت على نمو دراسة السياسية العامة.
- التطورات السابقة و التفاعل بين العلماء و نتائج البحوث أدى إلى إحداث تطورات فكرية ذات أهمية تطبيقية بالنسبة لنشاطات الحكومة مثل ابتكار طرق جديدة لإعداد الميزانية .
- قيام الحكومة الأمريكية بتمويل البحوث العلمية المتعلقة بدراسة السياسية العامة.
- ظهور قلاقل و اضطرابات اجتماعية أدت إلى تساؤلات حول قدرة الحكومة على علاج المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية .
-اضطرابات طلبة الجامعات و هجومهم على مؤسسات الدولة و المجتمع بصفة عامة و على الجامعات و الأساتذة بصفة خاصة و من أوجه النقد التي وجهها الطلبة للدراسات الجامعية و الأساتذة :
• أنه لا توجد علاقة بين القرارات العلمية التي تدرس في الجامعات و بين الواقع.
• أن أساتذة الجامعات بتعاقدهم مع الحكومة للقيام ببحوث علمية ساهموا في ابتكار أسلحة دمار شامل و أهملوا البحث عن حلول للمشاكل الاجتماعية و الاقتصادية.(1)
نتيجة لهذه الاسباب وغيرها تشكلت متطلبات جعلت السياسة العامة ضرورة لتنظيم حياة الجماعات البشرية وضمان المصلحة العامة ومن هنا أصبحت أهمية دراسة السياسة العامة ضرورة ملحة تقتضيها اعتبارات علمية، مهنية (إدارية) وسياسية وهذا ما أشار إليه توماس داي في كتابه UNDER STANDING PUBIC POLICY بالقول أن هناك ثلاث أسباب لدراسة السياسة العامة وهي :
1- أسباب علمية بحتة: وهذه تتيح فهم أسباب ونتائج القرارات السياسية لتعميق المعرفة بالمجتمع والمجتمعات الأخرى فدراستها باعتبارها متغير تابع تتيح البحث في القوى البينية وخصائص النظام السياسي ودورها في صياغة السياسة العامة، كما أن دراستها باعتبارها متغير مستقل تدفع إلى البحث في تأثير السياسة العامة على البيئة والنظام السياسي وكلها تؤدي إلى فهم أفضل للروابط بين البيئة والعمليات السياسية والسياسة العامة.
2- أسباب مهنية: بمعنى أن دراسة السياسة العامة توفر للباحث السياسي إمكانية توظيف معارفه في
ـــــــــــــــــــــــ
(1)سياسة عامة وصناعة قرار ،من الموقع:
WWW.KALHARBY.KAIR.EDU.SA
حل المشكلات العلمية إذ يغلب أن تخلص هذه الدراسات إلى توصيات بشأن ماهية السياسة الملائمة لتحقيق الأهداف المبتغاة.
3- أسباب سياسية: وهنا ينصرف هدف الدراسة على التأكيد من أن الدول تتبنى الأفضل من السياسات لتحقيق الأهداف العامة فكثيرا ما يتردد من أن علماء السياسة ملزمون بتطوير السياسة العامة وإثراء النقاش السياسي(1).
وقد أصبحنا نشهد اهتماما خاصا لدى مراكز صنع القرار بان تكون قراراتها معبرا عنها بسياسة عامة وهذا ماتعلمته الحكومات من تجاربها فنجد مثلا التدخل الأمريكي في جنوب أسيا خلال الستينات والسبعينات أودى بحياة خمسة واربعين ألف جندي أمريكي وجرح الآلاف ، وعشرات المليارات من الدولارات أنفقت في هذه الحرب التي دارت رحاها في الهند الصينية، وقد نظمت المظاهرات واضطر العديد من الشباب الأمريكي إلى الهجرة إلى كندا أو دخول السجون بسبب رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية والمشاركة في الحرب، كما تزايدت النقمة والكراهية للحكومة من جانب مواطنيها وفقد أغلبيتهم ثقتهم بها
وليست الحرب فقط هي التي تتطلب وجود سياسة عامة بل ابسط العوائق التنظيمية التي يواجهها الانسان في حياته اليومية، فابن المدينة الأمريكي الذي يسوق سيارته في الطريق السريع يضطر لقضاء ساعات من الانتظار خلال أوقات الازدحام مسجونا في سيارته هو الأخر يعاني من تأثير السياسة العامة المتنوعة التي ركزت على الطرق السريعة، وساعدت على إبقاء أسعار الوقود منخفضة، وأهملت النظام المروري ونظام النقل العام، وساعدت على توسع المدن وانتشارها في حين أن سياسيات عامة أخرى بديلة للنقل يمكن أن تحقق نتائج أفضل لو تمت مناقشتها، وباختصار ان نظام الطرق الحالي المعوق للاتصالات ليس طبيعيا وهذه المشاكل النجمة عنه ليست عفوية بل نجمت عن السياسات العامة التي اتخذت بالتعاقب(2).
نتيجة لكل ذلك فقد أصبحت السياسة العامة اليوم ضرورية في كافة أوجه الحياة الخاصة والعامة للمواطنين، حيث يلاحظ أن الدولة تشرع القوانين وتصدر القرارات المختلفة لتنظيم العلاقة بين المواطنين والدولة أو بين الدولة وبقية أطراف النظام العالمي ككل، وعليه نسمع أن الأدبيات تتحدث عن سياسة عامة محلية ،دولية أو خارجية، سياسة عامة للمرأة ، للبيئة، وسياسة عامة نقدية وأخرى ضريبية وهكذا.
إن ارتباط السياسة العامة بالحياة اليومية للمواطنين يعتبر من المواضيع الهامة التي تستحوذ باهتمامات
ـــــــــــــــــــ
(1)جيمس اندرسون:صنع السياسة العامة،تر:عامر الكبيسي ،ط 3 ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ،الأردن، عمان ،2007،ص13
(2)دندن عبد الغني، السياسة العامة بين النظرية و الواقع العملي ،2009، من الموقع :
WWW.AHEWAR.QRG/DEBAT/SHOW.ART.ASP?AID=165951
الباحثين والسياسيين ومؤسسات البحث العلمي بمختلف اتجاهاتها الفكرية بالرغم من حداثة حقل السياسة العامة في مجال علم السياسة على وجه الخصوص، وفي مجال العلوم الاجتماعية على وجه العموم ، إلا أن الأدبيات تشير بوضوح إلى تنامي هذا المجال من مجالات المعرفة بشكل ملحوظ خلال العقود الأربعة الماضية لا سيما في الدول المتقدمة حيث يلعب محللو السياسة العامة أدوار مهمة في المراحل المختلفة للسياسة العامة(1).
وعلى هذا يمكن أن نجمل أسباب الاهتمام بالسياسة العامة فيما يلي :
-أسباب تتعلق بمدى نجاح السياسية العامة في تحقيق الأهداف و من بينهما الحاجة إلى فهم:
1 -كيفية رسم السياسية العامة ة اتخاذ القرارات الحكومية المتعلقة بها.
2- أسباب فشل بعض السياسيات في تحقيق أهدافها .
- أسباب مرجعها أن دراسة السياسية العامة أسلوب علمي منظم للكشف عما إذا كان فهمنا للمشاكل فهم سليم أم لا.
-أسباب مرجعها الموازنة العامة للدولة و تكلفة تنفيذ السياسية العامة.
- أسباب تتعلق بوظائف ذات صلة برسم و تحليل و تقييم السياسية العامة دعت إلى زيادة الاهتمام بهده الدراسات.
لقد ترتب على الاهتمام بدراسة السياسية العامة كحقل علمي :
1-تطور اهتمامات علم السياسية تطورا جديدا هاما حيث تطور علم السياسية العامة من الشكل التقليدي الكلاسيكي و أصبح علم السياسية الحديث السلوكي.
2- التركيز على دراسة الإدارة الحكومية بقصد رفع مستوى كفايتها الإنتاجية و الاقتصاد في نفقاتها المالية و الاهتمام بعناصر العملية الإدارية .
3-نمو غير عادي في مظاهر اهتمام الجامعات و أعضاء هيئة التدريس بهذا الحقل الجديد و الدليل على ذلك ( الكتب المقالات, الأبحاث, المؤتمرات حول مواضيع السياسة العامة و صناعة القرار(2).
إن تعقد ظروف الحياة البشرية وتداخل المصالح والعلاقات بين المجتمعات و الدول ومن ثمة تضارب هذه المصالح ،بات لزاما على البشر أن يعدوا التصورات ويضعوا الخطط و البرامج لمواجهة مايمكن أن يواجهوا من مصاعب ،ولا شك أن هذا التطور نشا قبل نشوء الدول القومية ولو بأشكال مختلفة ومتواضعة ،إلا أن نشوء الدول القومية أعطى لموضوع السياسات العامة بعدا إضافيا ،تجلى بحيوية و أهمية هذا الجانب باعتباره هدفا لحماية مصالح المجتمع ،و الأفراد الذين أنابوا الدولة في تأمينها والسهر على استمرارها،ومن هنا كانت السياسات العامة في الدول تمثل احدى مظاهر نجاح الدولة او
ــــــــــــــــــــــ
(1) مصطفى عبد الله خشيم ،نظرية السياسة العامة: مرجع سابق.
(2) مها عبد اللطيف الحديثي ،النظام السياسي و السياسة العامة، مرجع سابق.
فشلها في تامين مبررات وجودها بحسب المفاهيم التي ارتكزت عليها الكثير من الافكار والمعتقدات التي اسست لسياسة الدولة الراعية ،الدولة الام في احتضان مواطنيها و تامين المسائل الحيوية لبقائهم وكذلك وسائل رفاههم (1)
ــــــــــــــــــــــ
(1)خليل حسين ،السياسات العامة في الدول النامية ،ط1،دار المنهل اللبناني ، بيروت ،لبنان ،2007 ،ص6
-IIمراحل نشأة السياسة العامة:
في نهاية الستينات وبداية السبعينات ظهرت الدعوة إلى ضرورة التركيز على تحليل مخرجات النظام السياسي خاصة السياسة العامة ولقد ساعد على هذا التطور تفاقم المشكلات الاجتماعية بين السود و البيض و التورط الأمريكي في حرب فيتنام ، حيث ظهرت الحاجة داخل مؤسسات الحكومة الأمريكية إلى تحليل هذه المشكلات ومحاولة صياغة السياسات التي تعالجها،ومنذ ذلك الحين وعلى مدار عشرين عاما حدث الكثير من التطوير في منهجية البحث المرتبطة بالسياسات العامة كحقل علمي له ملامحه المستقلة وكأسلوب للتحليل يستخدم بواسطة العلوم الاجتماعية الأخرى وكنقطة التقاء بين العديد من العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد العلوم السياسية ،الاجتماع ،الإدارة،وغيرها .(1)
لقد كان من نتائج المجهود الفكري لأعوام الخمسينات من القرن العشرين انبعاث وبروز مصطلح علم السياسة العامة بطابعيه الفكري والتجريبي الذي تبلور بفضل الجهود الفكرية للعالم الامريكي هارولد لاسويل الذي قدم من خلال كتابه السياسة من يحصل على ماذا، متى وكيف أساسا للعمليات التبادلية وتوزيع القيم والمنافع المتضمنة في رسم السياسات العامة وتنفيذ عملياتها.
لقد ارتبط مفهوم السياسة العامة وما يختص بعملية تحليلها ضمن هذا التحول الذي طرحه لاسويل إلى حد ما وواضح بعلم السياسية و حصرا بما يختص بنظام الحكم في أمريكا، كما ارتبط ذلك المفهوم أيضا بظهور المدرسة السلوكية بداية أعوام الستينيات وعندما تزايد الاهتمام بدراسة منهج تحليل النظم الذي تحول من تسليط الضوء فقط على الدولة إلى تسليطه على الأبعاد المتعددة التي تشكل حقيقة اجتماعية ونتيجة لهذا التحول أصبحت الجماعات والقوى الاجتماعية هي ركيزة البحث والاهتمام والتحليل وأصبح مفهوم السلوك هو الرمز المتحكم في دراسة علم السياسة حيث حل مفهوم النظام محل مفهوم الدولة وتمكنت المدرسة السلوكية من خلال المفــاهيم التي اعتمدتــــــها مثل: السلوك، الجماعات، العمليات، النظم، وغير ذلك من احلال الحركة والقدرات التحليلية في البحث المعني بشؤون السياسة العامة مما أدى إلى إيجاد مفاهيم وآليات تحليل مناسبة لدراسة الظواهر والقضايا والمشكلات المطروحة أمام المجتمع ، فقد أصبحت دراسة الحقوق السياسية دراسة تعني بالسلوك الانتخابي وتحولت مفاهيم المصالح وقد تم احتوائها ضمن مفهوم جماعات المصالح وغدا تعديل أو تبديل القانون يسمى بالعملية القضائية، وما يختص بالدولة يطلق عليه (مدخلات ومخرجات النظام السياسي) وهذا كله استدعى إيجاد سبل مناسبة في أدوات البحث العلمي للموضوعات
ـــــــــــــــــــــــ
(1)سلوى شعراوي جمعة،تحليل السياسة العامة في الوطن العربي ،مركز دراسات و استشارات الادارة العامة ، القاهرة 2004،ص23.
والتحليلات السياسية العامة فتم الاعتماد على الجوانب الكمية خلال قياس الرأي العام، وخلال إجراء المسوح وتفعيل الاستبيان وإجراء التجريب في ضوء المناهج الإحصائية الصحيحة.
II-1 المرحلة التقليدية
يلاحظ على الجهد التقليدي إظهاره الاهتمام المنحصر بالسياسات التي تنتجها الحكومات والإشارة إلى القوى التي تسهم في بلورة السياسات وتأثيرها على المجتمعات من خلال التطرق إلى البناء المؤسسي، والتركيز على التبريرات الفلسفية للحكومة، ودراسة الترتيبات الهيكلية لها، مثل الفدرالية، فصل السلطات،المرجع القانوني، صلاحيات الهياكل الرسمية وواجباتها،وما يختص به البرلمان ،الرئيس والمحاكم، العلاقات الحكومية ،وأعمال السلطات الثلاث ( التشريعية، التنفيذية، القضائية )، وبالتالي اقتصرت هذه الجهود التقليدية على السياسة ذاتها، فبقيت وصفية ظاهرية لم تغص أو تتعمق في تناول المؤسسات والقطاعات الحكومية غوصا تحليليا، كما لم تعمد إلى فهم وتحليل السلوك السياسي ولا التصرفات ولا العمليات المصاحبة والملازمة لصنع السياسة، فأغفلت ترتيب العلاقات الهامة والاتصالات القائمة بين المؤسسات، وترتب على ذلك كله إبقاء محتوى السياسات العامة بعيدا عن البحث والتناول، وأن الجهد الوصفي لها بقي غامضا وسطحيا(1)
لقد كان الاهتمام الرئيسي منصبا على التكوين المؤسسي للدولة وتحليل المبررات الفلسفية والسياسية لسلطات الحكومة نتيجة لهذا التوجه الرئيسي، فقد ركزت دراسات وأطروحات الفلاسفة والمفكرين السياسيين التقليديين على الإطار الدستوري للدولة، ومهام المؤسسات الدستورية الثلاث: التشريعية التنفيذية القضائية،(2)
و يمكن إرجاع سطحية الاهتمام بالسياسية العامية في هده الفترة إلى كون علم السياسية مازال في إطاره الفلسفي الهيكلي و لكن بعدما بدأ بتبلور و يغدوا فرعا من فروع العلوم الاجتماعية عقب استقلاله عن الفلسفة الأخلاقية فقد حظي بالدعم العلمي و المعرفي اللازم واعتبار أن السياسية صارت تمثل جزءا لا يتجزأ من النشاط الاجتماعي و النفسي للمجتمع و للظاهرة الاجتماعية بعدما كانت
ــــــــــــــــــــــ
(1)فهمي خليفة الفهداوي ،السياسة العامة منظور كلي في البنية و التحليل ،ط1،دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة ،عمان ،الاردن ،2007.ص27
(2)حسن ابشر الطيب:الدولة العصرية دولة مؤسسات،الدار الثقافية للنشر و التوزيع ، القاهرة ،2000،ص56
السياسية تعتبر وجها للقانون و للعلاقة المتفاعلة بين المؤسسات الرسمية في ظل الأطر القانونية ,كما و أن الظواهر الاجتماعية و السلوكيات التي كانت سابقا بعيدة عن تدخل السياسية مثل : الأوبئة ,الكوارث,الحروب ,الفيضانات كنتائج للإرادة الالاهية حسب الاعتقادات المجتمعية، التربية ، وضعية المرأة تمثلان قضايا خاصة لا يسمح بالتدخل في نطاقها ... كلها انتقلت من حالتها التي تميزت بها (السياسية ضيقة النطاق) للقرن التاسع عشر إلى الحالة الجديدة (السياسية في كل مكان)للقرن العشرين وفق الآلية التي من خلالها يجد أمر غير سياسي ذاته واقعا ضمن فئة الأمور و القضايا السياسية(1).
II -2 مرحلة ما بين الحربين
عرف خلالها مفهوم السياسة العامة تطورا مرحليا جراء شيوع انتاجات وتجارب المدرسة السلوكية وبروز التوجه السلوكي لعلم السياسة الحديث فانتصرت النظرة المتأملة في دراسات وأطروحات الفكر السياسي والاجتماعي في هذه الحقبة واصبحت تشير إلى انتقال الاهتمام من وصف المؤسسات الدستورية وما يتصل بكل منها من صلاحيات إلى العناية والتركيز بما يتم في هذه المؤسسات من أفعال وعمليات وأنماط للسلوك الذي صب اهتمامه
أولا: على السلوكيات المصاحبة لأعمال الحكومة وتحليلها، ودراسة القواعد النفسية والاجتماعية لسلوك الأفراد والجماعات، ودراسة محددات التصويت في الانتخابات والنشاطات السياسية الأخرى، ووظائف الجماعات المصلحية والأحزاب السياسية وعمليات التوزيع المختلفة والسلوك التصارعي بين السلطة التشريعية، التنفيذية والقضائية، وقد اعتمد هذا المدخل على آلية واضحة لوصف العمليات السياسية العامة وشرح الأسباب والنتائج لأنشطة الحكومة، والتركيز على وصف واضح لمضمون السياسة العامة من خلال تحليل اثر القوى السياسية ،الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تقويم نتائج السياسات العامة على المجتمع(2).
لقد ساعد هذا التطور الحاصل في زيادة تعميق فهمنا لكيفية تشكيل ووضع السياسات العامة وما يتصل بذلك من توازن بين الجماعات المصلحية وبين توجهات هادفة لبلورة الإرادة المجتمعية، غير أن العناية بمضمون أو محتوى السياسة العامة قد ظلت في هذه الحقبة موضوعا عارضا، لا يجد من المحللين السياسيين إلا اهتمام جزئي محدودا.
ــــــــــــــــــــ
(1)نشاة وتطور السياسة العامة ،من الموقع :
www.forum.bdr130.net/vb/t722435.rtml.
(2)فهمي خليفة الفهداوي،مرجع سابق.ص28
III -3 مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
تعاظم الاهتمام بموضوع السياسة العامة بعد الحرب العالمية الثانية حين جرى التركيز على مفهــوم السياسة العامة وكيفية بلورتها والتبصر في أهدافها ومصيرها وأساليب تنفيذها ضمن إطار تحليلــي بحسب الأولويات والإمكانيات المتوفرة، بفعل تنامي الأصوات المنادية بضرورة تدخل الدولة كمحرك للنشاط الاقتصادي، وإعادة بناء الاقتصاد القومي وتـوجيه الموارد لسد حاجيات عموم المواطنين، ولأجل استيعاب النمو الاقتصادي المتزايد في الخدمات المطلوبة وضرورة توفيرها وتحقيقيها كالتعليم، الصحة، المواصلات، وإقامة الجسور وتوفير فرص العمل وتنظيم التجارة وإقامة الصناعات وتأميم المشروعات والمنتجات وغير دلك مما يتعدى حدود القطاع الخاص وقدراته الخدمية، ويستدعي بالمقابل نهوض الدولة بمؤسساتها الحكومية لعرض القيام بذلك والاضطلاع به في اطار السياسة العامة وكانت الضرورات تشكل مطلبا هاما بالنسبة للدول النامية التي حظيت بالاستقلال الوطني والسياسي من الحكم الأجنبي، وسعيها في مباشرة بنائها الاقتصادي التنموي وتحسين أوضاعها المتردية من خلال إشرافها على وضع وتنفيذ العديد من السياسات العامة الشاملة في المجتمع
هذه الأسباب هي التي جعلت السياسة العامة ذات أهمية متقدمة في الحياة المجتمعية وتوصف بانها المحور الفاعل قي دراسات علم السياسة وأبحاثه وتوجهاته (1).
وقد كانت هذه الدعوة اعتمادا على العديد من الأسباب الموضوعية
أ- لقد اقتضت ظروف الحرب العالمية الثانية توافر موارد ونفقات عالية استجوبت تدخل الدولة لتخطيط وتنظيم وتوجيه كل الإمكانات لسد حاجات الحرب وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى جابهت الدولة مشاكل إعادة بناء الاقتصاد القومي الأمر الذي اقتضى تدخل الحكومة كأداة حركية للدولة كموجه ومنظم للنشاط الاقتصادي (2) كما رأينا إقرار هذا التدخل خلال الفترة مابين الحربين العالميتين حيث دفعت ظروف الأزمة الاقتصادية الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى إحداث ثورته الإدارية المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية باسم new deal the والتي بمقتضاها تدخلت الدولة في كثير من ميادين النشاط التي لم يكن من تقاليدها اكتنافها ورغم المقاومة التي لقيتها هذه السياسة من جانب المجتمع الأمريكي في بادئ الأمر فقد أدت النتائج التي حققتها إلى الاعتراف بأهمية دور الدولة والى تغيير مفهوم سياسة الاقتصاد الحر التقليدية في الأذهان وأدى مجيء الحرب العالمية الثانية إلى تطبيقات جديدة وناجحة في
ـــــــــــــــــــــ
(1)فهمي خليفة الفهداوي ،مرجع سابق،ص29
(2)حسن ابشر الطيب ، مرجع سابق ،ص57
مجال تدخل الدولة وتنظيم طرق هذا التدخل ،كما ساهم في استقرار هذه السياسة و انتشارها في بلاد العالم(1)
ب- إن فلسفة النظام الاقتصادي الحر التي نجحت خلال القرن التاسع عشر نجاحا كبيرا قد بدأت تفرز بعض السلبيات كالاحتكار وما يقود إليه من السيطرة على السوق واستغلال المستهلك وتوجيه الموارد الاقتصادية لإشباع حاجات القادرين على حساب الفقراء،وغيرهما إن هده السلبيات وما يماثلها قد دفعت بعض الحكومات إلى التدخل في النشاطات الاقتصادية بوضع التشريعات الهادفة لتعديل الهيكل الاقتصادي وإزالة مسببات السلبيات أو التخفيف من حدتها دون أن يكون هناك توجه لتحول جذري من سياسة الحرية الاقتصادية إلى سياسات أخرى.
ت- النمو المتزايد في الخدمات العامة كالتعليم، الصحة ،المواصلات ومشروعات المنافع العامة التي عادة لا يقبل عليها القطاع الخاص كمشروعات الطرق البرية ،إنشاء الجسور ،إقامة الحدائق وكلها أعمال تتم في اطار سياسات عامة تقوم الحكومة بالأدوار الرئيسية في تنفيذها، يضاف على ذلك أدوار الدولة في توجيه الاقتصاد القومي بسياساتها الهادفة لتوفير فرص العمل للمواطنين والتحكم في الأسعار والأجور وتنظيم الأعمال المصرفية والتجارة الخارجية وما يماثل هذه الأدوار، أو قيامها بتأميم بعض المنتجات أو الصناعات الإستراتيجية كما حدث في انجلترا مثلا حيث تم تأميم السكك الحديدية ومناجم الفحم والكهرباء الأمر الذي قاد إلى تعاظم الأدوار التي تقوم بها الحكومة في توجيه وإدارة النشاط الاقتصادي
ث- لقد حصلت العديد من الدول النامية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على استقلالها السياسي من الحكم الأجنبي وقد كان من الطبيعي أن تشرع هذه الدول النامية المستقلة في إعداد وتنفيذ سياسات عامة هادفة لتجاوز الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المردية ، ولتحقيق بناء دولة عصرية مستقلة وتعظيم الإفادة من كل الموارد والإمكانات المتاحة لإرساء البنيات السياسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية، إن نهوض الدول النامية المستقلة بكل هذه الأدوار استوجب بالضرورة تدخلها المباشر في مختلف شؤون المجتمع وإشرافها على وضع وتنفيذ العديد من السياسات العامة في مختلف أوجه الحياة.(2) وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن قيام عدد كبير من الدول في آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية قد فتح أبعادا جديدة في رسم السياسات العامة الإنمائية لهذه
ــــــــــــــــــ
(1)فايز حسين ، سيكولوجيا الادارة العامة ،ط1،دار اسامة للنشر و التوزيع ،عمان ، الاردن،2008،ص16.
(2)حسن ابشر الطيب ،مرجع سابق،ص ص57،58
الدول ،غير إن خبراء الإدارة العامة قد تركزت دراساتهم على المجتمعات أكثر منها دراسات عن دول وقد زعم الكتاب عموما الذين طوروا هذا النوع من المجال العمومي منذ أوائل الخمسينات من القرن العشرين، إن رسم السياسة العامة الإنمائية –الاقتصادية هي ثقافية بالدرجة الأولى على أساس ماورثوه من الغرب عبر القرنين الماضيين ومن خلال هذه المؤشرات وكون هذا الاختلاف في التوجهات التنموية يرجع إلى اختلاف الجذور و الخلفيات الثقافية دفعهم هذا إلى توسيع مجالات دراسات السياسة العامة التنموية كي تأخذ في الاعتبار المظاهر التاريخية ،الثقافية للدول النامية (1)
ج- إن تبني بعض الدول لسياسات تنموية طموحة قد استوجب استثمارات كبيرة وعلما بعجز القطاع الخاص في هذه الدول عن الوفاء بمتطلبات هذه الاستثمارات فلم يكن هناك من حل غير تصدي الحكومة للقيام بهذا الدور بحكم قدرتها على توفير الموارد اللازمة للاستثمارات الكبيرة من الموارد المحلية أو العون الخارجي وقدرتها في التخطيط والتنظيم والسيطرة على العقبات السياسية ،الاقتصادية ،الاجتماعية المعوقة لعمليات التنمية والتحديث(2) .
ح- أما خلال مرحلة التسعينات وما بعدها وانتقالا الى متطلبات القرن الواحد والعشرون حيث حصلت تبدلات في دور الدولة وارتفاع مستويات التفاعل بين مؤسسات ومنظمات القطاعين العام والخاص فضلا عن تزايد وتعاظم الأدوار للشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية وكذلك المنظمات غير الحكومية الدولية في صياغة أوليات السياسة العامة وتحديد مساراتها وقد ساعد على تبلور هذا الدور التغير في مفهوم السيادة والتسارع في الانجازات المعلوماتية وفي ثورة الاتصالات التي منحت للمنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظمات حقوق الإنسان القدرة السريعة على التدخل في السياسات العامة الداخلية للدول ومن ثم التأثير في مضامين هذه السياسات العامة وعن دور ما يسمى القطاع الثالث( المنظمات غير الحكومية) في صنع السياسة العامة وهذا كله قد أسهم في بلورة الاتجاهات الحديثة التي ترى أن السياسة العامة ماهي إلا محصلة متجمعة للتفاعلات الرسمية وغير الرسمية بين عدد من المؤثرين والفاعلين على المستويين المحلي والمركزي، والسياسة العامة في ضوء ذلك تعبير عن إرادة الفاعلين والمؤثرين الذين هم عادة ما يكونون أعضاء في شبكة منتظمة صارت تعرف اليوم باسم شبكة السياسة(3).
ــــــــــــــــــــ
(1) محمد نصر مهنا، مرجع سابق ،ص45.
(2)حسن ابشر الطيب ،مرجع سابق،ص59
(3) فهمي خليفة الفهداوي، مرجع سابق ،ص ص 30 31.
II-4 السياسية العامة في المرحلة ما بعد السلوكية :
تعبر عنها نظرية مراحل السياسية العامة التي تعتبر من احدث نظريات السياسية العامة المابعدية و بالتالي فهي قد استفادت من الأطر النظرية الكلاسيكية و السلوكية السابقة لوجودها، فلقد لاحظت رادين أن مسار السياسية العامة قد تغير خلال عقد التسعينات مقارنة بالستينات من حيث:
- توسيع قاعدة المشاركة في دائرة السياسية العامة حيث أنها لم تعد مقتصرة على عدد معين من محللي السياسية العامة.
- زيادة عدد القضايا و تنوعها, نظرا لتوسع مجالات الاهتمام بالنسبة لصانعي القرار.
- عدم الاقتصار على الجانب الوصفي للسياسية العامة , حيث أن الحاجة أصبحت ماسة للتوفيق بين البعدين الوصفي و التحليلي للسياسية العامة .
كما أكدت رادين على وجود إطار آخر للسياسية العامة تعتبر أكثر انفتاحا أطلقت عليه الباراديم
و الذي من ابرز خصائصه:
• وجود إجماع على قيم مشتركة معينة بين محللي السياسية العامة .
• تنوع الاستشارات و الخيارات المتاحة لصانعي القرار من قبل محللي السياسية العامة .
• تعدد الأطراف الفاعلة في عملية السياسية العامة , و عدم اقتصارها على نخبة محدودة إلى جانب وجود نظام اتصالات و تغذية عكسية فعالة.
و يلاحظ عموما أن حقل السياسية العامة اليوم يواجه تحديات مختلفة لم تكن موجودة من قبل نتيجة لتطور و تعقد عالمنا المعاصر على المستويين النظري و العملي، فبينما انصب محور اهتمام محللي السياسية العامة قبل الستينات على الأبعاد المنهجية و الإجرائية للسياسية العامة ، يلاحظ أن جل الاهتمام في إطار نظرية دائرة السياسية العامة قد انصب على الجوانب الجوهرية و العملية للسياسية العامة مما يجعل الأمور أكثر تعقيدا من حيث الآتي:
• من يصنع السياسية العامة .
• ضرورة و أهمية توسيع قاعدة المشاركة في عملية السياسية العامة حتى يمكن إضفاء سمة التفكير الاستراتيجي على صانعي القرار.
• هل هناك نظرية شاملة للسياسية العامة (1)
ــــــــــــــــــــــ
(1)نظريات السياسة العامة ،مصطفى عبد الله خشيم، من الموقع :
WWW.ETUDIANTSSETIF3ARABIYA.NET.MONTADA.F23/TOPIC.
تأثرت السياسة العامة في مراحل تطورها بمختلف القفزات النوعية التي حققها علم السياسة، خاصة مع ذلك الجديد الذي أتت به الثورة السلوكية في حقل العلوم الإنسانية ،وكذلك الفكرة التي يراد التأسيس لها حول الدور الجديد للدولة وهو الذي باتت تمليه ظروف المرحلة الراهنة ،فبعد أن كان تدخل الدولة محورا بمجالات تحقيق الأمن و الدفاع عن السيادة الوطنية ،أصبح يتجاوزها إلى مسائل أوسع تدخل في نطاقها قضايا مثل البيئة ، الأسرة ...،وهو ما جعل برنامج الحكومة المتضمن السياسة العامة للدولة يتسع ليشمل مجالات كانت بعيدة كل البعد عن اهتمام الرجل السياسي .
لقد جعلت كل هذه المعطيات السياسة العامة تشهد دفعا جديدا في محتواها و فواعلها ،فقد أصبحت تناقش مواضيع متنوعة تصنع من طرف فواعل كانوا سابقا من جمهور السياسة العامة ،ولم يكن لهم أي يد في صناعتها أو تنفيذها ،وذلك خاصة أثناء المرحلة التقليدية أين كان التركيز كل التركيز منصبا على مؤسسات الدولة ،التشريعية ،القضائية ،التنفيذية وهي التي كانت تتولى وحدها مهمة صنع وتنفيذ السياسة العامة في المجال الضيق الضيق جدا ،إلا أن معطيات عدة شهدها القرن العشرين وخاصة فترة مابين الحربين العالميتين الأولى و الثانية متى ارتفعت الأصوات بضرورة إقحام الدولة في مختلف المجالات وهو ما جعل عملية صنع السياسة العامة على تلك الدرجة من التشعب و التعقيد نتيجة الأدوار المتعددة للدولة و الهادفة إلى تخطيط وتنظيم كافة جوانب الحياة في المجتمع و أصبحت السياسات العامة المتنوعة ،والمتعددة التي تبلور الإرادة المجتمعية وتحدد الأطر الفكرية ،و المناهج العملية لتوجهاتها ،و أساليب عمل المؤسسات الحكومية ،فأصبحنا نتحدث عن سياسة عامة ل: الصحة، التعليم ،الإسكان ،الاقتصاد القومي،الرعاية الاجتماعية ،البيئة ... ،و غيرها
مع كل هذه التطورات لاقت موضوعات السياسة العامة عناية خاصة في الدول الغربية ،وهو الأمر الذي يمكن أن نلحظه من خلال حيز البحث المخصص لها في الجامعات و المنظمات ،و الهيئات البحثية التي أسهمت في دراستها وتحليلها وسوف نحاول في هذا البحث أن نتطرق إلى أكثر المحطات الفاصلة في تطور السياسة العامة من خلال طرحنا الإشكالية التالية
كيف ساهمت الأطروحات الفكرية و الأحداث التي عرفها القرن العشرين في انتقال السياسة العامة من مرحلتها التقليدية ضيقة النطاق إلى المرحلة الحديثة التي ذهبت بالسياسة العامة بعيدا في محتواها وفواعلها ؟
كما يمكن أن ندرج تحت إطار هذه الإشكالية الرئيسية الإشكاليات الفرعية التالية
-ما هي السياسة العامة وما هي الأسباب الداعية إلى تعاظم الاهتمام بها ؟
- ماهو الجديد الذي أضافته فكرة توسيع دور الدولة على حقل السياسة العامة ؟
- إلى أي مدى ساهمت أطروحات المدرسة السلوكية في تطور دراسة السياسة العامة ؟
وسوف نعطي إجابات مؤقتة عن هذه الأسئلة من خلال الفرضيات التالية :
-تعبر السياسة العامة عن الطريقة التي تتعامل بها الحكومة مع المشكلات الاجتماعية.
-أدى توسيع دور الدولة إلى تزايد اهتمام رجال السياسة والمفكرين بضرورة تحديد الطرق السليمة لصياغة سياسة عامة ناجحة.
-ساهمت أطروحات المدرسة السلوكية في تعدد موضوعات وفواعل السياسة العامة الأمر الذي أثرى محتواها بصورة كبيرة.
وفي محاولتنا للتحقق من صحة هذه الفرضيات سوف ندرس الموضوع وفق الخطة التالية :
مقدمة:
I- ماهية السياسة العامة .
I –1 - تعريف السياسة العامة.
I -2- أسباب الاهتمام بدراسة السياسة العامة.
-IIمراحل نشأة السياسة العامة
II - 1 - المرحلة التقليدية
II - 2 -مرحلة ما بين الحربين
II - 3 مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
II- 4 السياسية العامة في المرحلة ما بعد السلوكية
III- الأطروحات النظرية للسياسة العامة
1-III نظريات نشأة السياسة العامة
2-III السياسة العامة بين الطرح الانجلوساكسوني والاوروبي
الخاتمة
-ماهية السياسة العامة
I -1- تعريف السياسة العامة
يعتبر مجال السياسة العامة مجالا حديثا وهاما في علم السياسة، فهو أداة هامة لتقويم أداء النظام السياسي وفعاليته، إذ انه لا يكتفي بدراسة مضمون السياسة، وإنما يتطرق إلى كيفية صنعها وتكلفتها وبدائلها وكيفية تنفيذها والمطابقة بين أهدافها المعلنة والنتائج العملية للتطبيق ويدخل في ذلك تحليل الآثار المتوقعة من تنفيذ سياسة ما(1).
تظهر السياسة العامة للدولة في عدة أشكال ،إما في قرارات منفردة كالقرار المتعلق بتنظيم احد المرافق العامة أو قرار الميزانية وإما في قواعد قانونية أي نصوص عامة مجردة سواء صدرت من الهيئة التشريعية كالقوانين التي تصنع البرامج الصحية أو ترسم السياسة الزراعية أو السياسة التعليمية أو صدرت من الهيئة التنفيذية باستعمالها للسلطة اللائحية كلوائح الضبط و اللوائح التنظيمية ومع ذلك تظل السياسة العامة عملية سابقة على اتخاذ القرارات وهكذا يتضح مفهومها الحقيقي من زاويتين :
-زاوية ماهيتها على أنها مبادئ مرشدة
- زاوية طبيعتها التي ترتبط بالإدارة العامة وإدارة التنمية وخاصة في المجتمعات النامية
و أخيرا بعلم الاقتصاد باعتباره علم سلوكي مثال ذلك ماتدل عليه التجربة التاريخية للمجتمعات المتقدمة من أن عملية النمو الاقتصادي تقتضي توافر عامل هام هو إدارة التنمية أي حدوث تغيير جوهري للفكر السائد(2 )
وقد حاول بعض المفكرين إعطاء تعريفات للسياسة العامة اختلفت حسب الزاوية التي ينظر إليها كل منهم و تجدر الإشارة إلى أن هذه التعريفات صنفت عموما إلى ثلاث أنماط رئيسية:
أولا: السياسة العامة كمتغير تابع:أو كنتيجة لقيام النظام السياسي بممارسة نشاطاته من خلال السلطة التشريعية التي تنظم الحياة العامة في اطار الدولة، ويلاحظ أن هذا التعريف يؤكد على السياسة العامة في حد ذاتها، وبالتالي ينصب محور التركيز على السبل المتاحة لتحسين المحتوى حتى يمكن صناعة قرارات أفضل، ويعكس هذا المفهوم عموما رأي أصحاب المدرسة الكلاسيكية في اطار علم الإدارة العامة الذي يؤكد على الأخذ بمبدأ فصل السلطات الذي ينحصر إصدار القوانين والتشريعات وفقه في السلطة التشريعية، أما السلطة التنفيذية فان مهمتها تنحصر في عملية التنفيذ الحرفي والمنظم
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)وصال نجيب العزاوي :مبادئ السياسة العامة،ط1،دار اسامة للنشر و التوزيع ،الاردن ،عمان،2003،ص3
(2)محمد نصر مهنا:الادارة العامة وادارة الخصخصة ،ط1،المكتب الجامعي الحديث ،الاسكندية،مصر،2006،ص45.
للقانون،وقد أكد الرئيس الأمريكي السابق وودرو ولسون في مقالته التي نشرت عام 1887 على الحياد الوظيفي للجهاز التنفيذي أو السلطة التنفيذية أي كانت مسمياته
ثانيا: السياسة العامة كمتغير مستقل: حيث يركز هذا النوع من التعريفات على أهمية الدور الذي تلعبه السياسة العامة كعامل مؤثر في العديد من المجالات داخل وخارج اطار الدولة، فالسياسة العامة وفق هذا المنظور تؤثر على القطاعات المختلفة مثل: التعليم، الصحة، البيئة، التنمية والفقر والعلاقات الخارجية، إذن فمحور التركيز لم ينصب على السياسة العامة في حد ذاتها ولكنه تعدى ذلك إلى تحديد القطاعات والنشاطات المتأثرة بالسياسة العامة خلال مراحل تشكلها المختلفة.
ثالثا:السياسة العامة كعملية: تعتبر متغير تابعا ومستقلا في نفس الوقت وبالتالي يلاحظ أن هذا المفهوم يضفي سمة التعقيد والتداخل على المراحل المختلفة للسياسة العامة، ووفقا لهذا المنظور فإن السياسة العامة تعتبر عملية تتأثر بالبيئة المحيطة بها وتكون بالتالي نتيجة تفاعل العديد من العوامل في البيئة المحيطة من خلال نظام ما يعرف بالنتائج OUT COMESS ونظام التغذية العكسية THE FEED- BACK SYSTEM التي تؤثر بدورها في البيئة المحيطة بأبعادها وجوانبها المختلفة(1).
يعرف بسيوني إبراهيم حمادة السياسة العامة بأنها" ما هي إلا أفكار خاصة في البداية وعندما يشترك عدد كبير من الأفراد في هده الأفكار تصبح مقترحات،وعندما تتبنى السلطات الحكومية هده المقترحات تصبح سياسة عامة "
فكرة >اقتراح >سياسة عامة
وقد تكون السياسة العامة ايجابية في صياغتها مثلما تكون سلبية، فهي قد تأمر بالتصرف باتجاه معين وقد تنه عن القيام بتصرفات غير مرغوبة، أو قد يعد سكوتها أو عدم التزامها بالتصرف إزاء ظواهر معنية بمثابة توجه فالحكومة قد تتبنى مثلا سياسة عدم التدخل المسماة LASSEZ FAIR أو رفع اليد HANDSOFF في ميدان أو قطاع ما أو إزاء ظاهرة محددة بذاتها فهي في كل الأحوال تؤثر بمواقفها على السكان، أو على المعنيين بهده الأمور(2) .
هناك من التعاريف من أضفى على السياسة العامة الجانب التشريعي حيث أصبح يعتبر السياسة العامة على أنها (قرار أو مجموعة قرارات سياسية )وعرفت وفق هدا المنطق على أنها "مجموعة قرارات يتخذها فاعلون معروفون بهدف تحقيق غرض عام" وهنا تجدر الإشارة إلى الفاعلين معروفين بدلالة المؤسسات التي تكون مهمتها اتخاذ القرارات هده المسالة ترتبط بالأجهزة العليا في النظام السياسي التي تكون مهمتها الأساسية سن التشريعات واتخاذ القرارات كالسلطة التشريعية .
ـــــــــــــــــــــــــــ
(1)مصطفى عبد الله خشيم ،نظرية السياسة العامة،2007،من الموقع:
WWW.HAWARIBOUMADIAN.1520.MAKTOOBBLOG.COM/1245026/ .
(2)وصال نجيب العزاوي ،مرجع سابق ،ص14
كما عرفت السياسة العامة من هذا المنظور بأنها:
"قرار دائم يتميز بثبات السلوك الذي يترتب عليه، كما انه يمثل وجهات نظر أولئك الذين اتخذوا القرار و الذين يلتزمون به "
و هذا يظهر في النظم الديمقراطية كون السياسة العامة ترتبط بعملية اتخاذ القرار فمن الضروري تحديد أبعاد العلاقة بين السياسة العامة و صنع القرار (فالقرار اختيار احد البدائل لمواجهة موقف معين...)و عملية الحكم تقتضي إيجاد العديد من القرارات... و لضمان الحد الأدنى من التنسيق( بين القرارات) عملت الدول على وضع نظام هرمي بمقتضاه تكون القرارات فردية تابعة لمجاميع قراريه أسمى وأكثر تجديدا تسمى السياسات ، فكان السياسة هي بمثابة مرشد للقرارات الخاصة بمشكلة أو ميدان معين .
أما من الناحية التنفيذية فعرفت السياسة العامة على أساس الأداء الحكومي و تنفيذ القرارات لذلك عرفت بأنها ( برنامج عمل هادف يوجه و يرشد المتعاملين مع مشكلة أو قضية تثير الاهتمام)
أيضا عرفت بأنها(خطط و برنامج أو أهداف عامة أو كل هذه معا يظهر منها اتجاه عمل الحكومة في فترة زمنية مستقبلية )بحيث يكون لها مبررات و هذا يعني بان السياسة العامة هي تعبير عن التوجه السلطوي أو القهري لموارد الدولة و المسؤول عن التوجيه الحكومي (1).
I-2- أسباب الاهتمام بدراسة السياسة العامة
سبب نشأة السياسة العامة ...... هو وجود مشكلة عامة
تعريف المشكلة ومستوياتها
-حاجات إنسانية حسب نطاقها
-مسببات عدم رضى
-حرمان - مشكلة اجتماعية مشكلة عامة
-ظلم يتطلب تعويض او علاج - مشكلة شخصية
تعتبر السياسة العامة
أهميتهما وأثرهما محدودان محاولة حكومية لحل
هذا المستوى
ــــــــــــــــــــ
(1)مها عبد اللطيف الحديثي ،النظام السياسي و السياسة العامة،من الموقع:
WWW.VB.ARABSGATE.COM/SHOUTHREAD.PHP
- نتيجة للأزمة الاقتصادية العامة في أواخر العشرينيات و بداية الثلاثينيات الميلادية.
- خلال الحرب العالمية الثانية استعانت الحكومة الأمريكية بعدد كبير من العلماء في بتخصصات مختلفة و ذلك بقصد دراسة سياسيات مقترحة أو منفذة و التوصية بشأنها.
- أسفرت جهود العلماء عن ظهور تطورات علمية ساعدت على نمو دراسة السياسية العامة.
- التطورات السابقة و التفاعل بين العلماء و نتائج البحوث أدى إلى إحداث تطورات فكرية ذات أهمية تطبيقية بالنسبة لنشاطات الحكومة مثل ابتكار طرق جديدة لإعداد الميزانية .
- قيام الحكومة الأمريكية بتمويل البحوث العلمية المتعلقة بدراسة السياسية العامة.
- ظهور قلاقل و اضطرابات اجتماعية أدت إلى تساؤلات حول قدرة الحكومة على علاج المشاكل الاجتماعية و الاقتصادية .
-اضطرابات طلبة الجامعات و هجومهم على مؤسسات الدولة و المجتمع بصفة عامة و على الجامعات و الأساتذة بصفة خاصة و من أوجه النقد التي وجهها الطلبة للدراسات الجامعية و الأساتذة :
• أنه لا توجد علاقة بين القرارات العلمية التي تدرس في الجامعات و بين الواقع.
• أن أساتذة الجامعات بتعاقدهم مع الحكومة للقيام ببحوث علمية ساهموا في ابتكار أسلحة دمار شامل و أهملوا البحث عن حلول للمشاكل الاجتماعية و الاقتصادية.(1)
نتيجة لهذه الاسباب وغيرها تشكلت متطلبات جعلت السياسة العامة ضرورة لتنظيم حياة الجماعات البشرية وضمان المصلحة العامة ومن هنا أصبحت أهمية دراسة السياسة العامة ضرورة ملحة تقتضيها اعتبارات علمية، مهنية (إدارية) وسياسية وهذا ما أشار إليه توماس داي في كتابه UNDER STANDING PUBIC POLICY بالقول أن هناك ثلاث أسباب لدراسة السياسة العامة وهي :
1- أسباب علمية بحتة: وهذه تتيح فهم أسباب ونتائج القرارات السياسية لتعميق المعرفة بالمجتمع والمجتمعات الأخرى فدراستها باعتبارها متغير تابع تتيح البحث في القوى البينية وخصائص النظام السياسي ودورها في صياغة السياسة العامة، كما أن دراستها باعتبارها متغير مستقل تدفع إلى البحث في تأثير السياسة العامة على البيئة والنظام السياسي وكلها تؤدي إلى فهم أفضل للروابط بين البيئة والعمليات السياسية والسياسة العامة.
2- أسباب مهنية: بمعنى أن دراسة السياسة العامة توفر للباحث السياسي إمكانية توظيف معارفه في
ـــــــــــــــــــــــ
(1)سياسة عامة وصناعة قرار ،من الموقع:
WWW.KALHARBY.KAIR.EDU.SA
حل المشكلات العلمية إذ يغلب أن تخلص هذه الدراسات إلى توصيات بشأن ماهية السياسة الملائمة لتحقيق الأهداف المبتغاة.
3- أسباب سياسية: وهنا ينصرف هدف الدراسة على التأكيد من أن الدول تتبنى الأفضل من السياسات لتحقيق الأهداف العامة فكثيرا ما يتردد من أن علماء السياسة ملزمون بتطوير السياسة العامة وإثراء النقاش السياسي(1).
وقد أصبحنا نشهد اهتماما خاصا لدى مراكز صنع القرار بان تكون قراراتها معبرا عنها بسياسة عامة وهذا ماتعلمته الحكومات من تجاربها فنجد مثلا التدخل الأمريكي في جنوب أسيا خلال الستينات والسبعينات أودى بحياة خمسة واربعين ألف جندي أمريكي وجرح الآلاف ، وعشرات المليارات من الدولارات أنفقت في هذه الحرب التي دارت رحاها في الهند الصينية، وقد نظمت المظاهرات واضطر العديد من الشباب الأمريكي إلى الهجرة إلى كندا أو دخول السجون بسبب رفضهم الالتحاق بالخدمة العسكرية والمشاركة في الحرب، كما تزايدت النقمة والكراهية للحكومة من جانب مواطنيها وفقد أغلبيتهم ثقتهم بها
وليست الحرب فقط هي التي تتطلب وجود سياسة عامة بل ابسط العوائق التنظيمية التي يواجهها الانسان في حياته اليومية، فابن المدينة الأمريكي الذي يسوق سيارته في الطريق السريع يضطر لقضاء ساعات من الانتظار خلال أوقات الازدحام مسجونا في سيارته هو الأخر يعاني من تأثير السياسة العامة المتنوعة التي ركزت على الطرق السريعة، وساعدت على إبقاء أسعار الوقود منخفضة، وأهملت النظام المروري ونظام النقل العام، وساعدت على توسع المدن وانتشارها في حين أن سياسيات عامة أخرى بديلة للنقل يمكن أن تحقق نتائج أفضل لو تمت مناقشتها، وباختصار ان نظام الطرق الحالي المعوق للاتصالات ليس طبيعيا وهذه المشاكل النجمة عنه ليست عفوية بل نجمت عن السياسات العامة التي اتخذت بالتعاقب(2).
نتيجة لكل ذلك فقد أصبحت السياسة العامة اليوم ضرورية في كافة أوجه الحياة الخاصة والعامة للمواطنين، حيث يلاحظ أن الدولة تشرع القوانين وتصدر القرارات المختلفة لتنظيم العلاقة بين المواطنين والدولة أو بين الدولة وبقية أطراف النظام العالمي ككل، وعليه نسمع أن الأدبيات تتحدث عن سياسة عامة محلية ،دولية أو خارجية، سياسة عامة للمرأة ، للبيئة، وسياسة عامة نقدية وأخرى ضريبية وهكذا.
إن ارتباط السياسة العامة بالحياة اليومية للمواطنين يعتبر من المواضيع الهامة التي تستحوذ باهتمامات
ـــــــــــــــــــ
(1)جيمس اندرسون:صنع السياسة العامة،تر:عامر الكبيسي ،ط 3 ،دار المسيرة للنشر والتوزيع والطباعة ،الأردن، عمان ،2007،ص13
(2)دندن عبد الغني، السياسة العامة بين النظرية و الواقع العملي ،2009، من الموقع :
WWW.AHEWAR.QRG/DEBAT/SHOW.ART.ASP?AID=165951
الباحثين والسياسيين ومؤسسات البحث العلمي بمختلف اتجاهاتها الفكرية بالرغم من حداثة حقل السياسة العامة في مجال علم السياسة على وجه الخصوص، وفي مجال العلوم الاجتماعية على وجه العموم ، إلا أن الأدبيات تشير بوضوح إلى تنامي هذا المجال من مجالات المعرفة بشكل ملحوظ خلال العقود الأربعة الماضية لا سيما في الدول المتقدمة حيث يلعب محللو السياسة العامة أدوار مهمة في المراحل المختلفة للسياسة العامة(1).
وعلى هذا يمكن أن نجمل أسباب الاهتمام بالسياسة العامة فيما يلي :
-أسباب تتعلق بمدى نجاح السياسية العامة في تحقيق الأهداف و من بينهما الحاجة إلى فهم:
1 -كيفية رسم السياسية العامة ة اتخاذ القرارات الحكومية المتعلقة بها.
2- أسباب فشل بعض السياسيات في تحقيق أهدافها .
- أسباب مرجعها أن دراسة السياسية العامة أسلوب علمي منظم للكشف عما إذا كان فهمنا للمشاكل فهم سليم أم لا.
-أسباب مرجعها الموازنة العامة للدولة و تكلفة تنفيذ السياسية العامة.
- أسباب تتعلق بوظائف ذات صلة برسم و تحليل و تقييم السياسية العامة دعت إلى زيادة الاهتمام بهده الدراسات.
لقد ترتب على الاهتمام بدراسة السياسية العامة كحقل علمي :
1-تطور اهتمامات علم السياسية تطورا جديدا هاما حيث تطور علم السياسية العامة من الشكل التقليدي الكلاسيكي و أصبح علم السياسية الحديث السلوكي.
2- التركيز على دراسة الإدارة الحكومية بقصد رفع مستوى كفايتها الإنتاجية و الاقتصاد في نفقاتها المالية و الاهتمام بعناصر العملية الإدارية .
3-نمو غير عادي في مظاهر اهتمام الجامعات و أعضاء هيئة التدريس بهذا الحقل الجديد و الدليل على ذلك ( الكتب المقالات, الأبحاث, المؤتمرات حول مواضيع السياسة العامة و صناعة القرار(2).
إن تعقد ظروف الحياة البشرية وتداخل المصالح والعلاقات بين المجتمعات و الدول ومن ثمة تضارب هذه المصالح ،بات لزاما على البشر أن يعدوا التصورات ويضعوا الخطط و البرامج لمواجهة مايمكن أن يواجهوا من مصاعب ،ولا شك أن هذا التطور نشا قبل نشوء الدول القومية ولو بأشكال مختلفة ومتواضعة ،إلا أن نشوء الدول القومية أعطى لموضوع السياسات العامة بعدا إضافيا ،تجلى بحيوية و أهمية هذا الجانب باعتباره هدفا لحماية مصالح المجتمع ،و الأفراد الذين أنابوا الدولة في تأمينها والسهر على استمرارها،ومن هنا كانت السياسات العامة في الدول تمثل احدى مظاهر نجاح الدولة او
ــــــــــــــــــــــ
(1) مصطفى عبد الله خشيم ،نظرية السياسة العامة: مرجع سابق.
(2) مها عبد اللطيف الحديثي ،النظام السياسي و السياسة العامة، مرجع سابق.
فشلها في تامين مبررات وجودها بحسب المفاهيم التي ارتكزت عليها الكثير من الافكار والمعتقدات التي اسست لسياسة الدولة الراعية ،الدولة الام في احتضان مواطنيها و تامين المسائل الحيوية لبقائهم وكذلك وسائل رفاههم (1)
ــــــــــــــــــــــ
(1)خليل حسين ،السياسات العامة في الدول النامية ،ط1،دار المنهل اللبناني ، بيروت ،لبنان ،2007 ،ص6
-IIمراحل نشأة السياسة العامة:
في نهاية الستينات وبداية السبعينات ظهرت الدعوة إلى ضرورة التركيز على تحليل مخرجات النظام السياسي خاصة السياسة العامة ولقد ساعد على هذا التطور تفاقم المشكلات الاجتماعية بين السود و البيض و التورط الأمريكي في حرب فيتنام ، حيث ظهرت الحاجة داخل مؤسسات الحكومة الأمريكية إلى تحليل هذه المشكلات ومحاولة صياغة السياسات التي تعالجها،ومنذ ذلك الحين وعلى مدار عشرين عاما حدث الكثير من التطوير في منهجية البحث المرتبطة بالسياسات العامة كحقل علمي له ملامحه المستقلة وكأسلوب للتحليل يستخدم بواسطة العلوم الاجتماعية الأخرى وكنقطة التقاء بين العديد من العلوم الاجتماعية مثل الاقتصاد العلوم السياسية ،الاجتماع ،الإدارة،وغيرها .(1)
لقد كان من نتائج المجهود الفكري لأعوام الخمسينات من القرن العشرين انبعاث وبروز مصطلح علم السياسة العامة بطابعيه الفكري والتجريبي الذي تبلور بفضل الجهود الفكرية للعالم الامريكي هارولد لاسويل الذي قدم من خلال كتابه السياسة من يحصل على ماذا، متى وكيف أساسا للعمليات التبادلية وتوزيع القيم والمنافع المتضمنة في رسم السياسات العامة وتنفيذ عملياتها.
لقد ارتبط مفهوم السياسة العامة وما يختص بعملية تحليلها ضمن هذا التحول الذي طرحه لاسويل إلى حد ما وواضح بعلم السياسية و حصرا بما يختص بنظام الحكم في أمريكا، كما ارتبط ذلك المفهوم أيضا بظهور المدرسة السلوكية بداية أعوام الستينيات وعندما تزايد الاهتمام بدراسة منهج تحليل النظم الذي تحول من تسليط الضوء فقط على الدولة إلى تسليطه على الأبعاد المتعددة التي تشكل حقيقة اجتماعية ونتيجة لهذا التحول أصبحت الجماعات والقوى الاجتماعية هي ركيزة البحث والاهتمام والتحليل وأصبح مفهوم السلوك هو الرمز المتحكم في دراسة علم السياسة حيث حل مفهوم النظام محل مفهوم الدولة وتمكنت المدرسة السلوكية من خلال المفــاهيم التي اعتمدتــــــها مثل: السلوك، الجماعات، العمليات، النظم، وغير ذلك من احلال الحركة والقدرات التحليلية في البحث المعني بشؤون السياسة العامة مما أدى إلى إيجاد مفاهيم وآليات تحليل مناسبة لدراسة الظواهر والقضايا والمشكلات المطروحة أمام المجتمع ، فقد أصبحت دراسة الحقوق السياسية دراسة تعني بالسلوك الانتخابي وتحولت مفاهيم المصالح وقد تم احتوائها ضمن مفهوم جماعات المصالح وغدا تعديل أو تبديل القانون يسمى بالعملية القضائية، وما يختص بالدولة يطلق عليه (مدخلات ومخرجات النظام السياسي) وهذا كله استدعى إيجاد سبل مناسبة في أدوات البحث العلمي للموضوعات
ـــــــــــــــــــــــ
(1)سلوى شعراوي جمعة،تحليل السياسة العامة في الوطن العربي ،مركز دراسات و استشارات الادارة العامة ، القاهرة 2004،ص23.
والتحليلات السياسية العامة فتم الاعتماد على الجوانب الكمية خلال قياس الرأي العام، وخلال إجراء المسوح وتفعيل الاستبيان وإجراء التجريب في ضوء المناهج الإحصائية الصحيحة.
II-1 المرحلة التقليدية
يلاحظ على الجهد التقليدي إظهاره الاهتمام المنحصر بالسياسات التي تنتجها الحكومات والإشارة إلى القوى التي تسهم في بلورة السياسات وتأثيرها على المجتمعات من خلال التطرق إلى البناء المؤسسي، والتركيز على التبريرات الفلسفية للحكومة، ودراسة الترتيبات الهيكلية لها، مثل الفدرالية، فصل السلطات،المرجع القانوني، صلاحيات الهياكل الرسمية وواجباتها،وما يختص به البرلمان ،الرئيس والمحاكم، العلاقات الحكومية ،وأعمال السلطات الثلاث ( التشريعية، التنفيذية، القضائية )، وبالتالي اقتصرت هذه الجهود التقليدية على السياسة ذاتها، فبقيت وصفية ظاهرية لم تغص أو تتعمق في تناول المؤسسات والقطاعات الحكومية غوصا تحليليا، كما لم تعمد إلى فهم وتحليل السلوك السياسي ولا التصرفات ولا العمليات المصاحبة والملازمة لصنع السياسة، فأغفلت ترتيب العلاقات الهامة والاتصالات القائمة بين المؤسسات، وترتب على ذلك كله إبقاء محتوى السياسات العامة بعيدا عن البحث والتناول، وأن الجهد الوصفي لها بقي غامضا وسطحيا(1)
لقد كان الاهتمام الرئيسي منصبا على التكوين المؤسسي للدولة وتحليل المبررات الفلسفية والسياسية لسلطات الحكومة نتيجة لهذا التوجه الرئيسي، فقد ركزت دراسات وأطروحات الفلاسفة والمفكرين السياسيين التقليديين على الإطار الدستوري للدولة، ومهام المؤسسات الدستورية الثلاث: التشريعية التنفيذية القضائية،(2)
و يمكن إرجاع سطحية الاهتمام بالسياسية العامية في هده الفترة إلى كون علم السياسية مازال في إطاره الفلسفي الهيكلي و لكن بعدما بدأ بتبلور و يغدوا فرعا من فروع العلوم الاجتماعية عقب استقلاله عن الفلسفة الأخلاقية فقد حظي بالدعم العلمي و المعرفي اللازم واعتبار أن السياسية صارت تمثل جزءا لا يتجزأ من النشاط الاجتماعي و النفسي للمجتمع و للظاهرة الاجتماعية بعدما كانت
ــــــــــــــــــــــ
(1)فهمي خليفة الفهداوي ،السياسة العامة منظور كلي في البنية و التحليل ،ط1،دار المسيرة للنشر و التوزيع و الطباعة ،عمان ،الاردن ،2007.ص27
(2)حسن ابشر الطيب:الدولة العصرية دولة مؤسسات،الدار الثقافية للنشر و التوزيع ، القاهرة ،2000،ص56
السياسية تعتبر وجها للقانون و للعلاقة المتفاعلة بين المؤسسات الرسمية في ظل الأطر القانونية ,كما و أن الظواهر الاجتماعية و السلوكيات التي كانت سابقا بعيدة عن تدخل السياسية مثل : الأوبئة ,الكوارث,الحروب ,الفيضانات كنتائج للإرادة الالاهية حسب الاعتقادات المجتمعية، التربية ، وضعية المرأة تمثلان قضايا خاصة لا يسمح بالتدخل في نطاقها ... كلها انتقلت من حالتها التي تميزت بها (السياسية ضيقة النطاق) للقرن التاسع عشر إلى الحالة الجديدة (السياسية في كل مكان)للقرن العشرين وفق الآلية التي من خلالها يجد أمر غير سياسي ذاته واقعا ضمن فئة الأمور و القضايا السياسية(1).
II -2 مرحلة ما بين الحربين
عرف خلالها مفهوم السياسة العامة تطورا مرحليا جراء شيوع انتاجات وتجارب المدرسة السلوكية وبروز التوجه السلوكي لعلم السياسة الحديث فانتصرت النظرة المتأملة في دراسات وأطروحات الفكر السياسي والاجتماعي في هذه الحقبة واصبحت تشير إلى انتقال الاهتمام من وصف المؤسسات الدستورية وما يتصل بكل منها من صلاحيات إلى العناية والتركيز بما يتم في هذه المؤسسات من أفعال وعمليات وأنماط للسلوك الذي صب اهتمامه
أولا: على السلوكيات المصاحبة لأعمال الحكومة وتحليلها، ودراسة القواعد النفسية والاجتماعية لسلوك الأفراد والجماعات، ودراسة محددات التصويت في الانتخابات والنشاطات السياسية الأخرى، ووظائف الجماعات المصلحية والأحزاب السياسية وعمليات التوزيع المختلفة والسلوك التصارعي بين السلطة التشريعية، التنفيذية والقضائية، وقد اعتمد هذا المدخل على آلية واضحة لوصف العمليات السياسية العامة وشرح الأسباب والنتائج لأنشطة الحكومة، والتركيز على وصف واضح لمضمون السياسة العامة من خلال تحليل اثر القوى السياسية ،الاقتصادية والاجتماعية، فضلا عن تقويم نتائج السياسات العامة على المجتمع(2).
لقد ساعد هذا التطور الحاصل في زيادة تعميق فهمنا لكيفية تشكيل ووضع السياسات العامة وما يتصل بذلك من توازن بين الجماعات المصلحية وبين توجهات هادفة لبلورة الإرادة المجتمعية، غير أن العناية بمضمون أو محتوى السياسة العامة قد ظلت في هذه الحقبة موضوعا عارضا، لا يجد من المحللين السياسيين إلا اهتمام جزئي محدودا.
ــــــــــــــــــــ
(1)نشاة وتطور السياسة العامة ،من الموقع :
www.forum.bdr130.net/vb/t722435.rtml.
(2)فهمي خليفة الفهداوي،مرجع سابق.ص28
III -3 مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية
تعاظم الاهتمام بموضوع السياسة العامة بعد الحرب العالمية الثانية حين جرى التركيز على مفهــوم السياسة العامة وكيفية بلورتها والتبصر في أهدافها ومصيرها وأساليب تنفيذها ضمن إطار تحليلــي بحسب الأولويات والإمكانيات المتوفرة، بفعل تنامي الأصوات المنادية بضرورة تدخل الدولة كمحرك للنشاط الاقتصادي، وإعادة بناء الاقتصاد القومي وتـوجيه الموارد لسد حاجيات عموم المواطنين، ولأجل استيعاب النمو الاقتصادي المتزايد في الخدمات المطلوبة وضرورة توفيرها وتحقيقيها كالتعليم، الصحة، المواصلات، وإقامة الجسور وتوفير فرص العمل وتنظيم التجارة وإقامة الصناعات وتأميم المشروعات والمنتجات وغير دلك مما يتعدى حدود القطاع الخاص وقدراته الخدمية، ويستدعي بالمقابل نهوض الدولة بمؤسساتها الحكومية لعرض القيام بذلك والاضطلاع به في اطار السياسة العامة وكانت الضرورات تشكل مطلبا هاما بالنسبة للدول النامية التي حظيت بالاستقلال الوطني والسياسي من الحكم الأجنبي، وسعيها في مباشرة بنائها الاقتصادي التنموي وتحسين أوضاعها المتردية من خلال إشرافها على وضع وتنفيذ العديد من السياسات العامة الشاملة في المجتمع
هذه الأسباب هي التي جعلت السياسة العامة ذات أهمية متقدمة في الحياة المجتمعية وتوصف بانها المحور الفاعل قي دراسات علم السياسة وأبحاثه وتوجهاته (1).
وقد كانت هذه الدعوة اعتمادا على العديد من الأسباب الموضوعية
أ- لقد اقتضت ظروف الحرب العالمية الثانية توافر موارد ونفقات عالية استجوبت تدخل الدولة لتخطيط وتنظيم وتوجيه كل الإمكانات لسد حاجات الحرب وما إن وضعت الحرب أوزارها حتى جابهت الدولة مشاكل إعادة بناء الاقتصاد القومي الأمر الذي اقتضى تدخل الحكومة كأداة حركية للدولة كموجه ومنظم للنشاط الاقتصادي (2) كما رأينا إقرار هذا التدخل خلال الفترة مابين الحربين العالميتين حيث دفعت ظروف الأزمة الاقتصادية الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت إلى إحداث ثورته الإدارية المعروفة في الولايات المتحدة الأمريكية باسم new deal the والتي بمقتضاها تدخلت الدولة في كثير من ميادين النشاط التي لم يكن من تقاليدها اكتنافها ورغم المقاومة التي لقيتها هذه السياسة من جانب المجتمع الأمريكي في بادئ الأمر فقد أدت النتائج التي حققتها إلى الاعتراف بأهمية دور الدولة والى تغيير مفهوم سياسة الاقتصاد الحر التقليدية في الأذهان وأدى مجيء الحرب العالمية الثانية إلى تطبيقات جديدة وناجحة في
ـــــــــــــــــــــ
(1)فهمي خليفة الفهداوي ،مرجع سابق،ص29
(2)حسن ابشر الطيب ، مرجع سابق ،ص57
مجال تدخل الدولة وتنظيم طرق هذا التدخل ،كما ساهم في استقرار هذه السياسة و انتشارها في بلاد العالم(1)
ب- إن فلسفة النظام الاقتصادي الحر التي نجحت خلال القرن التاسع عشر نجاحا كبيرا قد بدأت تفرز بعض السلبيات كالاحتكار وما يقود إليه من السيطرة على السوق واستغلال المستهلك وتوجيه الموارد الاقتصادية لإشباع حاجات القادرين على حساب الفقراء،وغيرهما إن هده السلبيات وما يماثلها قد دفعت بعض الحكومات إلى التدخل في النشاطات الاقتصادية بوضع التشريعات الهادفة لتعديل الهيكل الاقتصادي وإزالة مسببات السلبيات أو التخفيف من حدتها دون أن يكون هناك توجه لتحول جذري من سياسة الحرية الاقتصادية إلى سياسات أخرى.
ت- النمو المتزايد في الخدمات العامة كالتعليم، الصحة ،المواصلات ومشروعات المنافع العامة التي عادة لا يقبل عليها القطاع الخاص كمشروعات الطرق البرية ،إنشاء الجسور ،إقامة الحدائق وكلها أعمال تتم في اطار سياسات عامة تقوم الحكومة بالأدوار الرئيسية في تنفيذها، يضاف على ذلك أدوار الدولة في توجيه الاقتصاد القومي بسياساتها الهادفة لتوفير فرص العمل للمواطنين والتحكم في الأسعار والأجور وتنظيم الأعمال المصرفية والتجارة الخارجية وما يماثل هذه الأدوار، أو قيامها بتأميم بعض المنتجات أو الصناعات الإستراتيجية كما حدث في انجلترا مثلا حيث تم تأميم السكك الحديدية ومناجم الفحم والكهرباء الأمر الذي قاد إلى تعاظم الأدوار التي تقوم بها الحكومة في توجيه وإدارة النشاط الاقتصادي
ث- لقد حصلت العديد من الدول النامية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية على استقلالها السياسي من الحكم الأجنبي وقد كان من الطبيعي أن تشرع هذه الدول النامية المستقلة في إعداد وتنفيذ سياسات عامة هادفة لتجاوز الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المردية ، ولتحقيق بناء دولة عصرية مستقلة وتعظيم الإفادة من كل الموارد والإمكانات المتاحة لإرساء البنيات السياسية للتنمية الاقتصادية الاجتماعية الثقافية، إن نهوض الدول النامية المستقلة بكل هذه الأدوار استوجب بالضرورة تدخلها المباشر في مختلف شؤون المجتمع وإشرافها على وضع وتنفيذ العديد من السياسات العامة في مختلف أوجه الحياة.(2) وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن قيام عدد كبير من الدول في آسيا و إفريقيا و أمريكا اللاتينية قد فتح أبعادا جديدة في رسم السياسات العامة الإنمائية لهذه
ــــــــــــــــــ
(1)فايز حسين ، سيكولوجيا الادارة العامة ،ط1،دار اسامة للنشر و التوزيع ،عمان ، الاردن،2008،ص16.
(2)حسن ابشر الطيب ،مرجع سابق،ص ص57،58
الدول ،غير إن خبراء الإدارة العامة قد تركزت دراساتهم على المجتمعات أكثر منها دراسات عن دول وقد زعم الكتاب عموما الذين طوروا هذا النوع من المجال العمومي منذ أوائل الخمسينات من القرن العشرين، إن رسم السياسة العامة الإنمائية –الاقتصادية هي ثقافية بالدرجة الأولى على أساس ماورثوه من الغرب عبر القرنين الماضيين ومن خلال هذه المؤشرات وكون هذا الاختلاف في التوجهات التنموية يرجع إلى اختلاف الجذور و الخلفيات الثقافية دفعهم هذا إلى توسيع مجالات دراسات السياسة العامة التنموية كي تأخذ في الاعتبار المظاهر التاريخية ،الثقافية للدول النامية (1)
ج- إن تبني بعض الدول لسياسات تنموية طموحة قد استوجب استثمارات كبيرة وعلما بعجز القطاع الخاص في هذه الدول عن الوفاء بمتطلبات هذه الاستثمارات فلم يكن هناك من حل غير تصدي الحكومة للقيام بهذا الدور بحكم قدرتها على توفير الموارد اللازمة للاستثمارات الكبيرة من الموارد المحلية أو العون الخارجي وقدرتها في التخطيط والتنظيم والسيطرة على العقبات السياسية ،الاقتصادية ،الاجتماعية المعوقة لعمليات التنمية والتحديث(2) .
ح- أما خلال مرحلة التسعينات وما بعدها وانتقالا الى متطلبات القرن الواحد والعشرون حيث حصلت تبدلات في دور الدولة وارتفاع مستويات التفاعل بين مؤسسات ومنظمات القطاعين العام والخاص فضلا عن تزايد وتعاظم الأدوار للشركات متعددة الجنسيات والمنظمات الدولية وكذلك المنظمات غير الحكومية الدولية في صياغة أوليات السياسة العامة وتحديد مساراتها وقد ساعد على تبلور هذا الدور التغير في مفهوم السيادة والتسارع في الانجازات المعلوماتية وفي ثورة الاتصالات التي منحت للمنظمات الدولية غير الحكومية مثل منظمات حقوق الإنسان القدرة السريعة على التدخل في السياسات العامة الداخلية للدول ومن ثم التأثير في مضامين هذه السياسات العامة وعن دور ما يسمى القطاع الثالث( المنظمات غير الحكومية) في صنع السياسة العامة وهذا كله قد أسهم في بلورة الاتجاهات الحديثة التي ترى أن السياسة العامة ماهي إلا محصلة متجمعة للتفاعلات الرسمية وغير الرسمية بين عدد من المؤثرين والفاعلين على المستويين المحلي والمركزي، والسياسة العامة في ضوء ذلك تعبير عن إرادة الفاعلين والمؤثرين الذين هم عادة ما يكونون أعضاء في شبكة منتظمة صارت تعرف اليوم باسم شبكة السياسة(3).
ــــــــــــــــــــ
(1) محمد نصر مهنا، مرجع سابق ،ص45.
(2)حسن ابشر الطيب ،مرجع سابق،ص59
(3) فهمي خليفة الفهداوي، مرجع سابق ،ص ص 30 31.
II-4 السياسية العامة في المرحلة ما بعد السلوكية :
تعبر عنها نظرية مراحل السياسية العامة التي تعتبر من احدث نظريات السياسية العامة المابعدية و بالتالي فهي قد استفادت من الأطر النظرية الكلاسيكية و السلوكية السابقة لوجودها، فلقد لاحظت رادين أن مسار السياسية العامة قد تغير خلال عقد التسعينات مقارنة بالستينات من حيث:
- توسيع قاعدة المشاركة في دائرة السياسية العامة حيث أنها لم تعد مقتصرة على عدد معين من محللي السياسية العامة.
- زيادة عدد القضايا و تنوعها, نظرا لتوسع مجالات الاهتمام بالنسبة لصانعي القرار.
- عدم الاقتصار على الجانب الوصفي للسياسية العامة , حيث أن الحاجة أصبحت ماسة للتوفيق بين البعدين الوصفي و التحليلي للسياسية العامة .
كما أكدت رادين على وجود إطار آخر للسياسية العامة تعتبر أكثر انفتاحا أطلقت عليه الباراديم
و الذي من ابرز خصائصه:
• وجود إجماع على قيم مشتركة معينة بين محللي السياسية العامة .
• تنوع الاستشارات و الخيارات المتاحة لصانعي القرار من قبل محللي السياسية العامة .
• تعدد الأطراف الفاعلة في عملية السياسية العامة , و عدم اقتصارها على نخبة محدودة إلى جانب وجود نظام اتصالات و تغذية عكسية فعالة.
و يلاحظ عموما أن حقل السياسية العامة اليوم يواجه تحديات مختلفة لم تكن موجودة من قبل نتيجة لتطور و تعقد عالمنا المعاصر على المستويين النظري و العملي، فبينما انصب محور اهتمام محللي السياسية العامة قبل الستينات على الأبعاد المنهجية و الإجرائية للسياسية العامة ، يلاحظ أن جل الاهتمام في إطار نظرية دائرة السياسية العامة قد انصب على الجوانب الجوهرية و العملية للسياسية العامة مما يجعل الأمور أكثر تعقيدا من حيث الآتي:
• من يصنع السياسية العامة .
• ضرورة و أهمية توسيع قاعدة المشاركة في عملية السياسية العامة حتى يمكن إضفاء سمة التفكير الاستراتيجي على صانعي القرار.
• هل هناك نظرية شاملة للسياسية العامة (1)
ــــــــــــــــــــــ
(1)نظريات السياسة العامة ،مصطفى عبد الله خشيم، من الموقع :
WWW.ETUDIANTSSETIF3ARABIYA.NET.MONTADA.F23/TOPIC.
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام