لقد ارتبط الأمن في المنظور التقليدي بكيفية استعمال الدولة لقوتها لإدارة الأخطار التي تتهدد وحدتها الترابية، واستقلالها، واستقرارها السياسي وذلك في مواجهة الدول الأخرى. وهكذا فإنه بهذه الصفة يكون الأمن مجرد مرادف للمصلحة الوطنية، وكيفية تعزيزها بالاعتماد على القوة في شقها العسكري. [1][1] ويعود ذلك إلى حقيقة أن الدراسات الأمنية تطورت في إطار المدرسة الواقعية التي كانت ظروف الحرب الباردة مواتية لها لاحتكار هذا الحقل المعرفي. [2][2]
وقبل التفصيل في جوانب تطور مفهوم الأمن، يجدر التطرق إلى التعريف الذي يرد عندWolfers Arnold للأمن، حيث يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني "غياب أية تهديدات تجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي فهي يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم". [3][3] وبإسقاطه على فترة الحرب الباردة، فإن هذه التهديدات انحصرت في المخاوف التي سادت الو.م.أ. وحلفائها تجاه المد الشيوعي والمخاطر التي كانت تهدد القيم اللبرالية. وبهذا فقد آلت إلى دراسات أوربية (أو غربية) التمركز من جهة، مما ساهم في إقصاء شريحة كبيرة من الإنسانية وبناء تصور عنصري للأمن. [4][4] ومن جهة أخرى، فقد غلب عليها الطابع التقني، بسبب ميلها إلى الجوانب العملية، وتنافس الباحثين على إصدار دراسات يمكن الاستناد إليها لصياغة سياسات فعالة لمواجهة الاتحاد السوفييتي. [5][5]
وأدى كل ذلك إلى تقرب الباحثين من دوائر صناعة القرار، مما أفقد هذا الحقل المعرفي الحياد الفكري الذي يعتبر ضروريا ليتحسس الباحث التهديدات الحقيقية للعالم المادي، إذ أن دخول دوائر صناعة القرار قيد إدراك الباحثين للتحديات الجديدة، [6][6] كالفقر المتفشي في دول الجنوب، والذي وبتزامنه مع ضعف البنيان المؤسساتي في هذه الدول، فقد أدى إلى بروز التصادم بين المجموعات الإثنية في إطار صراعها على الموارد. [7][7] ومن الواضح أن الإخفاق في إدراك هذا التحدي الجديد كان طبيعيا بالنظر إلى أن التخصص في الحرب الباردة كان إحدى العوامل التي ساهمت في إخفاق التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، مع ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بعدم تمتع التصور التقليدي بمرونة كافية تسمح له بإدراك مستجدات النظام الدولي ومن ثمة صياغة سياسات ملائمة للتحولات الجارية.
ومع ذلك فإنه لا يجب التغافل عن محاولة الدراسات النقدية تغطية نقائص هذا التصور، بحيث رفضت ربط الأمن بالحرب ودعت بدلا من ذلك إلى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابيـة، وقد تزعمـها Johan Galtung بدعوتـه إلى السلام الإيجابي Positive Peace وKenneth Boulding بمفهومه الخاص بالسلام المستقر Stable Peace. فالأمن الحقيقي حسب هؤلاء يجب ألا يقتصر على غياب الحرب (العنف المباشر) بل يجب أن يتضمن إضافة إلى ذلك القضاء أو على الأقل تقليص حدة العنف غير المباشر (العنف البنيوي في صورة تكريس تبعية دول الجنوب لدول الشمال عبر المؤسسات الدولية). [8][8]
وقد تدعمت وجهة النظر الداعية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن من خلال تقرير Egon Bahr المقدم للجنة Palme (1982) والذي عنونه "الأمن المشترك" Common Security. ويرى فيه أن التركيز على القوة في عالم يتميز بمستويات عالية من التسلح وتضبطه حركية الاعتماد المتبادل غير مؤسس، فسعي الدول منفردة لتعزيز أمنها، سوف يقلص في نهاية المطاف أمن الدول الأخرى. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التركيز على المخاطر العسكرية في التعامل مع المأزق الأمني غير واقعي، فهناك أشكال أخرى من المخاطر التي تتهدد الدول وهي ذات طبيعة اقتصادية، بيئية وحتى ثقافية، كما وقد يكون وراءها فاعلين آخرين غير الدولة كالمنظمات الإرهابية. [9][9]
وأدى ذلك إلى تبني مفهوم أوسع للأمن أخذ تسميات متعددة كالأمن المتكامل Comprehensive Security (بحيث يتضمن كل أشكال التهديد)، والشراكة الأمنية Security Partnership (بحيث يتم إشراك الدول غير الغربية)، والأمن المتبادل Mutual Security (إذ يتم التخلي نسبيا عن نزوع الدول منفردة إلى تعظيم أمنها على حساب الدول الأخرى)، Cooperative Security الأمن التعاوني (بحيث يتم تقاسم الأعباء الأمنية لاحتواء التهديدات). لكن ورغم تعدد هذه التسميات إلا أنها لا تتجاوز الحدود التقليدية للمفهوم، أين تلعب الدولة دورا حصريا. [10][10]
ومقابل هذه الاتجاهات التنقيحية ظهر الاتجاه ما بعد البنيوي Post-Structural الأكثر طعنا في الصياغة التقليدية. بحيث يدعو إلى إعادة النظر – ليس في وسائل التهديد ومصادرها فحسب – بل في وحدة التحليل أو الطرف المعني بالأمن. [11][11] مما يسمح بتزويد الطرف الثالث بتصور أمني ملائم وبإطار من الشرعية التي تتيح له التدخل خاصة لأغراض إنسانية. إذ أن الأمن من خلال هذا المنظور ما بعد الحداثي يجب ألا يقتصر على – أو يتحدد بـ- حماية الدولة وتعزيز رفاهها بل يفترض أن يهتم أيضا بحماية الفرد والمجموعة وتعزيز رفاههم. وواقعيا فإن مثل هذا التغير يستند إلى إيجاد حجج صلبة له، فالدولة طغت كمحور للأحداث وكوحدة للتحليل في عالم ما بعد وستفاليا، وقد قامت الحروب بالأساس للدفاع عن الدولة ضد عدو خارجي، وتكفل بالمهمة جنود محترفون تولوا مهمة الذود عن سيادة دولهم، وقاموا بذلك مراعين – نسبيا – قوانين وأعراف الحروب، حيث لا يتم التعرض للمدنيين في أغلب الحالات، أو على الأقل فإن استهدافهم لا يعتبر جوهريا في استراتيجية المعركة. [12][12]
وبالمقابل شهدنا في عالم ما بعد الحداثة، [13][13] وخاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، ظاهرة الدول العاجزة سواء كمصدر أو كمحصلة للنزاع بين المجموعات الإثنية، والتي تعمل في كل حالة على تغذية هذه الوضعية، ففي غضون ذلك يختفي تحكم الدولة بإقليمها وتنتفي مظاهر سيطرة الحكومة واحتكارها لاستخدام القوة ووسائل القهر والأهم من ذلك هو أن المجموعات المتناحرة تتبنى استراتيجية إشاعة الفوضى لتحقيق أهدافها. وهدفها بالتالي ليس الاستيلاء على السلطة لأن ذلك ليس في حدود إمكاناتها. إلا أن اعتمادها على استراتيجية إشاعة الفوضى جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد للمواجهة باستخدام الميليشيات شبه العسكرية، العصابات الإجرامية والأطفال، وهذا لسهولة تعبئة هذه الفئات والتحكم بها وحتى توريطها في أعمال إجرامية محظورة دوليا. [14][14]
وبناء على ذلك فإن الخاصية المميزة لحروب ما بعد الحرب الباردة تتمثل في اعتماد أسلوب الإرهاب بين المجموعات أو الأطراف المتصارعة وذلك عن طريق استهداف المدنيين، الإبادة الجماعية، والاغتصاب ... ويتم ذلك بالاعتماد على أسلحة خفيفة وحروب عصابات لا تراعى فيها القوانين والأعراف الدولية الخاصة بالحرب. [15][15]
ومما سبق يبدو التباين واضحا بين الحالتين، ويمكن بالتالي استشفاف صعوبة المقاربة للأمن بالمنظور الاستراتيجي التقليدي، فهناك غموض يكتنف طبيعة الفاعلين المعنيين بالأمن وينسحب الأمر كذلك على مدى ملاءمة البنى التقليدية للعلاقات بين الدول للقضايا الأمنية المستجدة في النظام الدولي. [16][16] ولم يعد بالإمكان الاعتماد على المأزق الأمني (حسب المفهوم الواقعي) الناجم عن سباق التسلح لتفسير التحديات الراهنة. وباختصار يقول Baldwin أن حقل الدراسات يبدو أنه كان مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من فترة الحرب الباردة بمفهوم ضيق للأمن الوطني واتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة. [17][17] والتي يمكن أن يرد ضمنها صيانة الاستقرار المجتمعي عن طريق منع اضطهاد مجموعة معينة.
فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه Barry Buzan بالمأزق الأمني المجتمعي. والذي قد ينعكس على مستوى التهديدات التي تستشفها هذه المجموعة تجاه تطورها في ظروف مقبولة دون مساس بلغتها، ثقافتها، دينها، عاداتها، وهويتها بشكل عام. [18][18]
لكن إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي، فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لاستنفاذ موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية. ولأن المدنيين والنساء والأطفال والشباب هم الذين يحملون بذور بقاء الآخر واستمراره، فإنهم يشكلون الهدف المفضل لأطراف النزاعات الإثنية. ويُكَّرَّس ذلك أكثر بانهيار احتكار الدول لاستعمال وسائل العنف أو الإقرار بالعلاقات الاجتماعية التي تدفع إلى إثارة النَّعرات الإثنية في المجتمع. ويصعب في وضعية كهذه الاحتفاظ بالنظرة التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة، فهو هنا كيان قائم بذاته وموضوع متميز للأمن. [19][19]
وفي حالات أخرى فإن الأمور تؤول إلى تعقيد أكثر عندما يتعلق الأمر بتطور نزاع مسلح بين حركة انفصالية وقوات حكومة لدولة ذات سيادة، وهنا بالذات تتزايد حساسية الأمن الدولي تجاه اللاّأمن المجتمعي. ولا شك أن تعاظم أهمية المجتمع والمجموعات المشكلة له يعود إلى بروز الدولة، أكثر من أي وقت مضى كوسيلة وليست غاية في حد ذاتها. ويظهر ذلك خاصة في نماذج الدول العاجزة Failed States، كالصومال، رواندا، أفغانستان، سيراليون...، إذ وبتحوله إلى صدام مسلح فإن المأزق الأمني المجتمعي يطرح تحديات حقيقية أمام السياسات الأمنية الوطنية والدولية ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها:
- وجود احتمالات للتصادم بين الدولة المعنية ودول الجوار بسبب تدفق اللاجئين أو لانقسام المجموعة الإثنية المضطهدة على أقاليم الدول المتجاورة (حالة الأكراد).
- تزامن التوتر مع وجود مشاكل حدودية لم يتم تسويتها، وهنا تلجأ بعض الدول إلى مساندة المجموعات الانفصالية وذلك لتصفية حساباتها مع الدولة المعنية أو لاستعمالها كورقة مساومة.
- وجود مخاطر ما يسمى بـ "فعل ماتروزكا" Matrozka effect والمقصود به تجزئة الدول إلى مجموع وحدات سياسية صغيرة ليس لها القدرة على البقاء والاستمرار إضافة إلى الخوف من العودة إلى زمن الغزو. [20][20]
- وفي وضع كهذا تصبح المجموعة الدولية مجبرة على التدخل للحؤول دون المساس بالأمن والاستقرار العالمي برمته (حالة البلقان وكشمير).
وبهذا الشكل فإن الأمن يرتبط بثلاثة مستويات، الأفراد، الدول، والنظام الدولي. بحيث أن الأمن على أي من هذه المستويات يعتبر ضروريا للأمن على المستويات الأخرى، وعلى حد تعبير Buzan فإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة. وبناء على هذه الطروحات يقترح Müller ثلاثة مستويات لدراسة الأمن يورد فيها الأطراف موضوع الدراسات الأمنية والقيم المهددة وهي العناصر التي ترد في تعريف Wolfers للأمن. [21][21]
الجدول 10 : المرجعيات الأنطولوجية للدراسات الأمنية
الكيان موضوع الأمن القيـم المهـددة
الدولة السيادة، والقوة
المجموعة الهوية
الأفراد البقاء والرفاه
ولأن هذه الدراسة تركز على المجموعات الإثنية، فإنه سيتم معالجة المستوى الثاني وذلك بتحديد الشكل الذي تتهدد فيه قيم هذه المجموعة بشكل يدفعها إلى التناحر.
ومن هنا فإن المصطلح الأمني المرجعي في إدارة النزاعات الإثنية يتمثل في الأمن المجتمعي وهنا يتعين تحديد موقف واضح إزاء مجموعة أسئلة تشمل المحاور التالية:
الأمن لمن؟ لصالح أية قيم؟ في مواجهة أي شكل من المخاطر؟ وما هي الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الأمن؟
يمكن استقاء إجابات مهمة لهذه التساؤلات من خلال تعريف Müller للمأزق المجتمعي، الذي ينتج حسبه عن "غياب الأمن المجتمعي، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة. وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة". [22][22]
من خلال هذا التعريف يمكن الوصول إلى أن المجموعات الإثنية التي تضمها دولة ما، أو المجتمع المنسجم ِإثْنيا في حالات أخرى، تعتبر بمثابة الكيان المعني بالدراسة الأمنية. لكن ما هي القيم التي تتعرض للتهديد بحيث تجعل استقرار المجموعة الإثنية محورا جوهريا للمنظومة الأمنية.
يرى Buzan أن المأزق الأمني يتمحور حول الهوية، حول ما يمكّن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير "نحن"، لكن مكمن التحدي هنا هو جانبها التطوري. فهي عملية تفاعلية مستمرة للتحكم في المطالب الملحة وإشباع حاجات معينة، حيث يلعب الإدراك والذّاتية دورا مهما. غير أن هذا المسار التفاعلي قد يقود إلى مأزق أمني مجتمعي إذا أصبحت الهوية جوهرا للصراع على المصالح وسندا للسعي من أجل الهيمنة أو سندا لبنية العلاقات القائمة مع المجموعات الأخرى. ويتضح ذلك في تغليب مظاهر "الأنا" على المظاهر التعاونية، وهذا بالالتجاء إلى المجموعات الإثنية كإطار للصراع من أجل البقاء، وكضمان وحيد للأفراد للحصول على الحماية في مناخ يسوده الخوف. [23][23]
ولكن سلسلة الأفعال وردود الفعل في التفاعل بين المجموعات الإثنية قد يؤدي إلى رفع سقف الوعود لدى قياداتها( بالمطالبة بالانفصال) ولدى المجموعات الأخرى أو الحكومة (بتقديم وعود بقمع التمرد). وبتداول خطابات الخطر، وزيادة مستويات الاستقطاب، فإن ذلك يفتح المجال أمام تفجر العنف، [24][24] والذي يتم تغذيته بوجود دعم من الشتات، أو المرتزقة، أو المنظمات الإجرامية... وحينها يسود الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره المجموعات الإجرامية. وهكذا، وعندما يمتزج العنف السياسي بسقوط الاقتصاد بيد المجرمين، فإن العمل الإجرامي يصبح متساندا أو مستديما، [25][25] ما يجعله تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حالة انتشار هذه الاضطرابات والفوضى لتشمل منطقة بأكملها.
وبناء على كل ما سبق يتبين أن هناك حاجة إلى استجابة دولية متعددة الأوجه، تهدف بالأساس إلى إقرار سلام مستديم، وذلك بمعاقبة مجرمي الحرب، وإعادة تثبيت أسس الاقتصاد الرسمي، الذي يعتبر كفيلا بتخفيف مستويات الاستياء، وبالتالي قدرة المجموعات على التعبئة للنزاع. [26][26] والنتيجة تتمثل في إنهاء المأزق المجتمعي، وهي الحالة التي يعكسها تعريف Baldwin بتدني احتمالات إلحاق الضرر بأي من القيم المكتسبة. [27][27] ولكن على أي أساس تباشر المجموعة الدولية أو الأطراف الثالثة بشكل عام تدخلها لمعالجة أي إخلال بأمن المجموعات الإثنية أو الحؤول دون حدوثه؟
إن ذلك يتطلب إضفاء الطابع الأمني على النزاعات الإثنية، وهذا يقتضي من المجموعة الدولية توسيع أجندتها الأمنية لتشمل التهديد الذي تفرضه المآزق المجتمعية. ولا شك أن "مدرسة كوبنهاجن" ما بعد البنيوية للأمن تقدم إطارا ملائما لذلك، بإقرارها بأن الأمن ليس مفهوما ثابتا، بل إنه بناء اجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي. [28][28] وبهذا الشكل يمكن توسيع الأمن ليتجاوز المنظور التقليدي الذي يركز على الحروب بين الدول، فالنزاعات الإثنية تعتبر إحدى أشكال النزاعات الداخلية، ومن هنا فإن التدخل لحلها يستوجب إضفاء الطابع الأمني عليها The issue should be securitized، ما يعني التزام الأطراف الثالثة بتعبئة الموارد للتعامل معها، [29][29] باستعمال مختلف الوسائل وتنسيق استخدام القنوات الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وغيرها من وسائل الضغط بما في ذلك القوة العسكرية - إن اقتضى الأمر– كرافعة Leverage لإجبار أطراف النزاع على إنهاء العنف.
يرجى توجيه كل المراسلات إلى البريد الإلكتروني: adelzeggagh@yahoo.com / هاتف: +213 071 09 19 31
إعادة صياغة مفهوم الأمن – برنامج البحث في الأمن المجتمعي
Reconceptualizing security: A research program on societal-security
عـادل زقاغ
لقد ارتبط الأمن في المنظور التقليدي بكيفية استعمال الدولة لقوتها لإدارة الأخطار التي تتهدد وحدتها الترابية، واستقلالها، واستقرارها السياسي وذلك في مواجهة الدول الأخرى. وهكذا فإنه بهذه الصفة يكون الأمن مجرد مرادف للمصلحة الوطنية، وكيفية تعزيزها بالاعتماد على القوة في شقها العسكري. [1][1] ويعود ذلك إلى حقيقة أن الدراسات الأمنية تطورت في إطار المدرسة الواقعية التي كانت ظروف الحرب الباردة مواتية لها لاحتكار هذا الحقل المعرفي. [2][2]
وقبل التفصيل في جوانب تطور مفهوم الأمن، يجدر التطرق إلى التعريف الذي يرد عندWolfers Arnold للأمن، حيث يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني "غياب أية تهديدات تجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي فهي يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم". [3][3] وبإسقاطه على فترة الحرب الباردة، فإن هذه التهديدات انحصرت في المخاوف التي سادت الو.م.أ. وحلفائها تجاه المد الشيوعي والمخاطر التي كانت تهدد القيم اللبرالية. وبهذا فقد آلت إلى دراسات أوربية (أو غربية) التمركز من جهة، مما ساهم في إقصاء شريحة كبيرة من الإنسانية وبناء تصور عنصري للأمن. [4][4] ومن جهة أخرى، فقد غلب عليها الطابع التقني، بسبب ميلها إلى الجوانب العملية، وتنافس الباحثين على إصدار دراسات يمكن الاستناد إليها لصياغة سياسات فعالة لمواجهة الاتحاد السوفييتي. [5][5]
وأدى كل ذلك إلى تقرب الباحثين من دوائر صناعة القرار، مما أفقد هذا الحقل المعرفي الحياد الفكري الذي يعتبر ضروريا ليتحسس الباحث التهديدات الحقيقية للعالم المادي، إذ أن دخول دوائر صناعة القرار قيد إدراك الباحثين للتحديات الجديدة، [6][6] كالفقر المتفشي في دول الجنوب، والذي وبتزامنه مع ضعف البنيان المؤسساتي في هذه الدول، فقد أدى إلى بروز التصادم بين المجموعات الإثنية في إطار صراعها على الموارد. [7][7] ومن الواضح أن الإخفاق في إدراك هذا التحدي الجديد كان طبيعيا بالنظر إلى أن التخصص في الحرب الباردة كان إحدى العوامل التي ساهمت في إخفاق التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، مع ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بعدم تمتع التصور التقليدي بمرونة كافية تسمح له بإدراك مستجدات النظام الدولي ومن ثمة صياغة سياسات ملائمة للتحولات الجارية.
ومع ذلك فإنه لا يجب التغافل عن محاولة الدراسات النقدية تغطية نقائص هذا التصور، بحيث رفضت ربط الأمن بالحرب ودعت بدلا من ذلك إلى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابيـة، وقد تزعمـها Johan Galtung بدعوتـه إلى السلام الإيجابي Positive Peace وKenneth Boulding بمفهومه الخاص بالسلام المستقر Stable Peace. فالأمن الحقيقي حسب هؤلاء يجب ألا يقتصر على غياب الحرب (العنف المباشر) بل يجب أن يتضمن إضافة إلى ذلك القضاء أو على الأقل تقليص حدة العنف غير المباشر (العنف البنيوي في صورة تكريس تبعية دول الجنوب لدول الشمال عبر المؤسسات الدولية). [8][8]
وقد تدعمت وجهة النظر الداعية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن من خلال تقرير Egon Bahr المقدم للجنة Palme (1982) والذي عنونه "الأمن المشترك" Common Security. ويرى فيه أن التركيز على القوة في عالم يتميز بمستويات عالية من التسلح وتضبطه حركية الاعتماد المتبادل غير مؤسس، فسعي الدول منفردة لتعزيز أمنها، سوف يقلص في نهاية المطاف أمن الدول الأخرى. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التركيز على المخاطر العسكرية في التعامل مع المأزق الأمني غير واقعي، فهناك أشكال أخرى من المخاطر التي تتهدد الدول وهي ذات طبيعة اقتصادية، بيئية وحتى ثقافية، كما وقد يكون وراءها فاعلين آخرين غير الدولة كالمنظمات الإرهابية. [9][9]
وأدى ذلك إلى تبني مفهوم أوسع للأمن أخذ تسميات متعددة كالأمن المتكامل Comprehensive Security (بحيث يتضمن كل أشكال التهديد)، والشراكة الأمنية Security Partnership (بحيث يتم إشراك الدول غير الغربية)، والأمن المتبادل Mutual Security (إذ يتم التخلي نسبيا عن نزوع الدول منفردة إلى تعظيم أمنها على حساب الدول الأخرى)، Cooperative Security الأمن التعاوني (بحيث يتم تقاسم الأعباء الأمنية لاحتواء التهديدات). لكن ورغم تعدد هذه التسميات إلا أنها لا تتجاوز الحدود التقليدية للمفهوم، أين تلعب الدولة دورا حصريا. [10][10]
ومقابل هذه الاتجاهات التنقيحية ظهر الاتجاه ما بعد البنيوي Post-Structural الأكثر طعنا في الصياغة التقليدية. بحيث يدعو إلى إعادة النظر – ليس في وسائل التهديد ومصادرها فحسب – بل في وحدة التحليل أو الطرف المعني بالأمن. [11][11] مما يسمح بتزويد الطرف الثالث بتصور أمني ملائم وبإطار من الشرعية التي تتيح له التدخل خاصة لأغراض إنسانية. إذ أن الأمن من خلال هذا المنظور ما بعد الحداثي يجب ألا يقتصر على – أو يتحدد بـ- حماية الدولة وتعزيز رفاهها بل يفترض أن يهتم أيضا بحماية الفرد والمجموعة وتعزيز رفاههم. وواقعيا فإن مثل هذا التغير يستند إلى إيجاد حجج صلبة له، فالدولة طغت كمحور للأحداث وكوحدة للتحليل في عالم ما بعد وستفاليا، وقد قامت الحروب بالأساس للدفاع عن الدولة ضد عدو خارجي، وتكفل بالمهمة جنود محترفون تولوا مهمة الذود عن سيادة دولهم، وقاموا بذلك مراعين – نسبيا – قوانين وأعراف الحروب، حيث لا يتم التعرض للمدنيين في أغلب الحالات، أو على الأقل فإن استهدافهم لا يعتبر جوهريا في استراتيجية المعركة. [12][12]
وبالمقابل شهدنا في عالم ما بعد الحداثة، [13][13] وخاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، ظاهرة الدول العاجزة سواء كمصدر أو كمحصلة للنزاع بين المجموعات الإثنية، والتي تعمل في كل حالة على تغذية هذه الوضعية، ففي غضون ذلك يختفي تحكم الدولة بإقليمها وتنتفي مظاهر سيطرة الحكومة واحتكارها لاستخدام القوة ووسائل القهر والأهم من ذلك هو أن المجموعات المتناحرة تتبنى استراتيجية إشاعة الفوضى لتحقيق أهدافها. وهدفها بالتالي ليس الاستيلاء على السلطة لأن ذلك ليس في حدود إمكاناتها. إلا أن اعتمادها على استراتيجية إشاعة الفوضى جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد للمواجهة باستخدام الميليشيات شبه العسكرية، العصابات الإجرامية والأطفال، وهذا لسهولة تعبئة هذه الفئات والتحكم بها وحتى توريطها في أعمال إجرامية محظورة دوليا. [14][14]
وبناء على ذلك فإن الخاصية المميزة لحروب ما بعد الحرب الباردة تتمثل في اعتماد أسلوب الإرهاب بين المجموعات أو الأطراف المتصارعة وذلك عن طريق استهداف المدنيين، الإبادة الجماعية، والاغتصاب ... ويتم ذلك بالاعتماد على أسلحة خفيفة وحروب عصابات لا تراعى فيها القوانين والأعراف الدولية الخاصة بالحرب. [15][15]
ومما سبق يبدو التباين واضحا بين الحالتين، ويمكن بالتالي استشفاف صعوبة المقاربة للأمن بالمنظور الاستراتيجي التقليدي، فهناك غموض يكتنف طبيعة الفاعلين المعنيين بالأمن وينسحب الأمر كذلك على مدى ملاءمة البنى التقليدية للعلاقات بين الدول للقضايا الأمنية المستجدة في النظام الدولي. [16][16] ولم يعد بالإمكان الاعتماد على المأزق الأمني (حسب المفهوم الواقعي) الناجم عن سباق التسلح لتفسير التحديات الراهنة. وباختصار يقول Baldwin أن حقل الدراسات يبدو أنه كان مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من فترة الحرب الباردة بمفهوم ضيق للأمن الوطني واتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة. [17][17] والتي يمكن أن يرد ضمنها صيانة الاستقرار المجتمعي عن طريق منع اضطهاد مجموعة معينة.
فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه Barry Buzan بالمأزق الأمني المجتمعي. والذي قد ينعكس على مستوى التهديدات التي تستشفها هذه المجموعة تجاه تطورها في ظروف مقبولة دون مساس بلغتها، ثقافتها، دينها، عاداتها، وهويتها بشكل عام. [18][18]
لكن إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي، فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لاستنفاذ موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية. ولأن المدنيين والنساء والأطفال والشباب هم الذين يحملون بذور بقاء الآخر واستمراره، فإنهم يشكلون الهدف المفضل لأطراف النزاعات الإثنية. ويُكَّرَّس ذلك أكثر بانهيار احتكار الدول لاستعمال وسائل العنف أو الإقرار بالعلاقات الاجتماعية التي تدفع إلى إثارة النَّعرات الإثنية في المجتمع. ويصعب في وضعية كهذه الاحتفاظ بالنظرة التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة، فهو هنا كيان قائم بذاته وموضوع متميز للأمن. [19][19]
وفي حالات أخرى فإن الأمور تؤول إلى تعقيد أكثر عندما يتعلق الأمر بتطور نزاع مسلح بين حركة انفصالية وقوات حكومة لدولة ذات سيادة، وهنا بالذات تتزايد حساسية الأمن الدولي تجاه اللاّأمن المجتمعي. ولا شك أن تعاظم أهمية المجتمع والمجموعات المشكلة له يعود إلى بروز الدولة، أكثر من أي وقت مضى كوسيلة وليست غاية في حد ذاتها. ويظهر ذلك خاصة في نماذج الدول العاجزة Failed States، كالصومال، رواندا، أفغانستان، سيراليون...، إذ وبتحوله إلى صدام مسلح فإن المأزق الأمني المجتمعي يطرح تحديات حقيقية أمام السياسات الأمنية الوطنية والدولية ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها:
- وجود احتمالات للتصادم بين الدولة المعنية ودول الجوار بسبب تدفق اللاجئين أو لانقسام المجموعة الإثنية المضطهدة على أقاليم الدول المتجاورة (حالة الأكراد).
- تزامن التوتر مع وجود مشاكل حدودية لم يتم تسويتها، وهنا تلجأ بعض الدول إلى مساندة المجموعات الانفصالية وذلك لتصفية حساباتها مع الدولة المعنية أو لاستعمالها كورقة مساومة.
- وجود مخاطر ما يسمى بـ "فعل ماتروزكا" Matrozka effect والمقصود به تجزئة الدول إلى مجموع وحدات سياسية صغيرة ليس لها القدرة على البقاء والاستمرار إضافة إلى الخوف من العودة إلى زمن الغزو. [20][20]
- وفي وضع كهذا تصبح المجموعة الدولية مجبرة على التدخل للحؤول دون المساس بالأمن والاستقرار العالمي برمته (حالة البلقان وكشمير).
وبهذا الشكل فإن الأمن يرتبط بثلاثة مستويات، الأفراد، الدول، والنظام الدولي. بحيث أن الأمن على أي من هذه المستويات يعتبر ضروريا للأمن على المستويات الأخرى، وعلى حد تعبير Buzan فإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة. وبناء على هذه الطروحات يقترح Müller ثلاثة مستويات لدراسة الأمن يورد فيها الأطراف موضوع الدراسات الأمنية والقيم المهددة وهي العناصر التي ترد في تعريف Wolfers للأمن. [21][21]
الجدول 10 : المرجعيات الأنطولوجية للدراسات الأمنية
الكيان موضوع الأمن القيـم المهـددة
الدولة
المجموعة
الأفراد السيادة، والقوة
الهوية
البقاء والرفاه
ولأن هذه الدراسة تركز على المجموعات الإثنية، فإنه سيتم معالجة المستوى الثاني وذلك بتحديد الشكل الذي تتهدد فيه قيم هذه المجموعة بشكل يدفعها إلى التناحر.
ومن هنا فإن المصطلح الأمني المرجعي في إدارة النزاعات الإثنية يتمثل في الأمن المجتمعي وهنا يتعين تحديد موقف واضح إزاء مجموعة أسئلة تشمل المحاور التالية:
الأمن لمن؟ لصالح أية قيم؟ في مواجهة أي شكل من المخاطر؟ وما هي الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الأمن؟
يمكن استقاء إجابات مهمة لهذه التساؤلات من خلال تعريف Müller للمأزق المجتمعي، الذي ينتج حسبه عن "غياب الأمن المجتمعي، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة. وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة". [22][22]
من خلال هذا التعريف يمكن الوصول إلى أن المجموعات الإثنية التي تضمها دولة ما، أو المجتمع المنسجم ِإثْنيا في حالات أخرى، تعتبر بمثابة الكيان المعني بالدراسة الأمنية. لكن ما هي القيم التي تتعرض للتهديد بحيث تجعل استقرار المجموعة الإثنية محورا جوهريا للمنظومة الأمنية.
يرى Buzan أن المأزق الأمني يتمحور حول الهوية، حول ما يمكّن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير "نحن"، لكن مكمن التحدي هنا هو جانبها التطوري. فهي عملية تفاعلية مستمرة للتحكم في المطالب الملحة وإشباع حاجات معينة، حيث يلعب الإدراك والذّاتية دورا مهما. غير أن هذا المسار التفاعلي قد يقود إلى مأزق أمني مجتمعي إذا أصبحت الهوية جوهرا للصراع على المصالح وسندا للسعي من أجل الهيمنة أو سندا لبنية العلاقات القائمة مع المجموعات الأخرى. ويتضح ذلك في تغليب مظاهر "الأنا" على المظاهر التعاونية، وهذا بالالتجاء إلى المجموعات الإثنية كإطار للصراع من أجل البقاء، وكضمان وحيد للأفراد للحصول على الحماية في مناخ يسوده الخوف. [23][23]
ولكن سلسلة الأفعال وردود الفعل في التفاعل بين المجموعات الإثنية قد يؤدي إلى رفع سقف الوعود لدى قياداتها( بالمطالبة بالانفصال) ولدى المجموعات الأخرى أو الحكومة (بتقديم وعود بقمع التمرد). وبتداول خطابات الخطر، وزيادة مستويات الاستقطاب، فإن ذلك يفتح المجال أمام تفجر العنف، [24][24] والذي يتم تغذيته بوجود دعم من الشتات، أو المرتزقة، أو المنظمات الإجرامية... وحينها يسود الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره المجموعات الإجرامية. وهكذا، وعندما يمتزج العنف السياسي بسقوط الاقتصاد بيد المجرمين، فإن العمل الإجرامي يصبح متساندا أو مستديما، [25][25] ما يجعله تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حالة انتشار هذه الاضطرابات والفوضى لتشمل منطقة بأكملها.
وبناء على كل ما سبق يتبين أن هناك حاجة إلى استجابة دولية متعددة الأوجه، تهدف بالأساس إلى إقرار سلام مستديم، وذلك بمعاقبة مجرمي الحرب، وإعادة تثبيت أسس الاقتصاد الرسمي، الذي يعتبر كفيلا بتخفيف مستويات الاستياء، وبالتالي قدرة المجموعات على التعبئة للنزاع. [26][26] والنتيجة تتمثل في إنهاء المأزق المجتمعي، وهي الحالة التي يعكسها تعريف Baldwin بتدني احتمالات إلحاق الضرر بأي من القيم المكتسبة. [27][27] ولكن على أي أساس تباشر المجموعة الدولية أو الأطراف الثالثة بشكل عام تدخلها لمعالجة أي إخلال بأمن المجموعات الإثنية أو الحؤول دون حدوثه؟
إن ذلك يتطلب إضفاء الطابع الأمني على النزاعات الإثنية، وهذا يقتضي من المجموعة الدولية توسيع أجندتها الأمنية لتشمل التهديد الذي تفرضه المآزق المجتمعية. ولا شك أن "مدرسة كوبنهاجن" ما بعد البنيوية للأمن تقدم إطارا ملائما لذلك، بإقرارها بأن الأمن ليس مفهوما ثابتا، بل إنه بناء اجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي. [28][28] وبهذا الشكل يمكن توسيع الأمن ليتجاوز المنظور التقليدي الذي يركز على الحروب بين الدول، فالنزاعات الإثنية تعتبر إحدى أشكال النزاعات الداخلية، ومن هنا فإن التدخل لحلها يستوجب إضفاء الطابع الأمني عليها The issue should be securitized، ما يعني التزام الأطراف الثالثة بتعبئة الموارد للتعامل معها، [29][29] باستعمال مختلف الوسائل وتنسيق استخدام القنوات الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وغيرها من وسائل الضغط بما في ذلك القوة العسكرية - إن اقتضى الأمر– كرافعة Leverage لإجبار أطراف النزاع على إنهاء العنف.
وقبل التفصيل في جوانب تطور مفهوم الأمن، يجدر التطرق إلى التعريف الذي يرد عندWolfers Arnold للأمن، حيث يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني "غياب أية تهديدات تجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي فهي يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم". [3][3] وبإسقاطه على فترة الحرب الباردة، فإن هذه التهديدات انحصرت في المخاوف التي سادت الو.م.أ. وحلفائها تجاه المد الشيوعي والمخاطر التي كانت تهدد القيم اللبرالية. وبهذا فقد آلت إلى دراسات أوربية (أو غربية) التمركز من جهة، مما ساهم في إقصاء شريحة كبيرة من الإنسانية وبناء تصور عنصري للأمن. [4][4] ومن جهة أخرى، فقد غلب عليها الطابع التقني، بسبب ميلها إلى الجوانب العملية، وتنافس الباحثين على إصدار دراسات يمكن الاستناد إليها لصياغة سياسات فعالة لمواجهة الاتحاد السوفييتي. [5][5]
وأدى كل ذلك إلى تقرب الباحثين من دوائر صناعة القرار، مما أفقد هذا الحقل المعرفي الحياد الفكري الذي يعتبر ضروريا ليتحسس الباحث التهديدات الحقيقية للعالم المادي، إذ أن دخول دوائر صناعة القرار قيد إدراك الباحثين للتحديات الجديدة، [6][6] كالفقر المتفشي في دول الجنوب، والذي وبتزامنه مع ضعف البنيان المؤسساتي في هذه الدول، فقد أدى إلى بروز التصادم بين المجموعات الإثنية في إطار صراعها على الموارد. [7][7] ومن الواضح أن الإخفاق في إدراك هذا التحدي الجديد كان طبيعيا بالنظر إلى أن التخصص في الحرب الباردة كان إحدى العوامل التي ساهمت في إخفاق التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، مع ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بعدم تمتع التصور التقليدي بمرونة كافية تسمح له بإدراك مستجدات النظام الدولي ومن ثمة صياغة سياسات ملائمة للتحولات الجارية.
ومع ذلك فإنه لا يجب التغافل عن محاولة الدراسات النقدية تغطية نقائص هذا التصور، بحيث رفضت ربط الأمن بالحرب ودعت بدلا من ذلك إلى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابيـة، وقد تزعمـها Johan Galtung بدعوتـه إلى السلام الإيجابي Positive Peace وKenneth Boulding بمفهومه الخاص بالسلام المستقر Stable Peace. فالأمن الحقيقي حسب هؤلاء يجب ألا يقتصر على غياب الحرب (العنف المباشر) بل يجب أن يتضمن إضافة إلى ذلك القضاء أو على الأقل تقليص حدة العنف غير المباشر (العنف البنيوي في صورة تكريس تبعية دول الجنوب لدول الشمال عبر المؤسسات الدولية). [8][8]
وقد تدعمت وجهة النظر الداعية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن من خلال تقرير Egon Bahr المقدم للجنة Palme (1982) والذي عنونه "الأمن المشترك" Common Security. ويرى فيه أن التركيز على القوة في عالم يتميز بمستويات عالية من التسلح وتضبطه حركية الاعتماد المتبادل غير مؤسس، فسعي الدول منفردة لتعزيز أمنها، سوف يقلص في نهاية المطاف أمن الدول الأخرى. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التركيز على المخاطر العسكرية في التعامل مع المأزق الأمني غير واقعي، فهناك أشكال أخرى من المخاطر التي تتهدد الدول وهي ذات طبيعة اقتصادية، بيئية وحتى ثقافية، كما وقد يكون وراءها فاعلين آخرين غير الدولة كالمنظمات الإرهابية. [9][9]
وأدى ذلك إلى تبني مفهوم أوسع للأمن أخذ تسميات متعددة كالأمن المتكامل Comprehensive Security (بحيث يتضمن كل أشكال التهديد)، والشراكة الأمنية Security Partnership (بحيث يتم إشراك الدول غير الغربية)، والأمن المتبادل Mutual Security (إذ يتم التخلي نسبيا عن نزوع الدول منفردة إلى تعظيم أمنها على حساب الدول الأخرى)، Cooperative Security الأمن التعاوني (بحيث يتم تقاسم الأعباء الأمنية لاحتواء التهديدات). لكن ورغم تعدد هذه التسميات إلا أنها لا تتجاوز الحدود التقليدية للمفهوم، أين تلعب الدولة دورا حصريا. [10][10]
ومقابل هذه الاتجاهات التنقيحية ظهر الاتجاه ما بعد البنيوي Post-Structural الأكثر طعنا في الصياغة التقليدية. بحيث يدعو إلى إعادة النظر – ليس في وسائل التهديد ومصادرها فحسب – بل في وحدة التحليل أو الطرف المعني بالأمن. [11][11] مما يسمح بتزويد الطرف الثالث بتصور أمني ملائم وبإطار من الشرعية التي تتيح له التدخل خاصة لأغراض إنسانية. إذ أن الأمن من خلال هذا المنظور ما بعد الحداثي يجب ألا يقتصر على – أو يتحدد بـ- حماية الدولة وتعزيز رفاهها بل يفترض أن يهتم أيضا بحماية الفرد والمجموعة وتعزيز رفاههم. وواقعيا فإن مثل هذا التغير يستند إلى إيجاد حجج صلبة له، فالدولة طغت كمحور للأحداث وكوحدة للتحليل في عالم ما بعد وستفاليا، وقد قامت الحروب بالأساس للدفاع عن الدولة ضد عدو خارجي، وتكفل بالمهمة جنود محترفون تولوا مهمة الذود عن سيادة دولهم، وقاموا بذلك مراعين – نسبيا – قوانين وأعراف الحروب، حيث لا يتم التعرض للمدنيين في أغلب الحالات، أو على الأقل فإن استهدافهم لا يعتبر جوهريا في استراتيجية المعركة. [12][12]
وبالمقابل شهدنا في عالم ما بعد الحداثة، [13][13] وخاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، ظاهرة الدول العاجزة سواء كمصدر أو كمحصلة للنزاع بين المجموعات الإثنية، والتي تعمل في كل حالة على تغذية هذه الوضعية، ففي غضون ذلك يختفي تحكم الدولة بإقليمها وتنتفي مظاهر سيطرة الحكومة واحتكارها لاستخدام القوة ووسائل القهر والأهم من ذلك هو أن المجموعات المتناحرة تتبنى استراتيجية إشاعة الفوضى لتحقيق أهدافها. وهدفها بالتالي ليس الاستيلاء على السلطة لأن ذلك ليس في حدود إمكاناتها. إلا أن اعتمادها على استراتيجية إشاعة الفوضى جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد للمواجهة باستخدام الميليشيات شبه العسكرية، العصابات الإجرامية والأطفال، وهذا لسهولة تعبئة هذه الفئات والتحكم بها وحتى توريطها في أعمال إجرامية محظورة دوليا. [14][14]
وبناء على ذلك فإن الخاصية المميزة لحروب ما بعد الحرب الباردة تتمثل في اعتماد أسلوب الإرهاب بين المجموعات أو الأطراف المتصارعة وذلك عن طريق استهداف المدنيين، الإبادة الجماعية، والاغتصاب ... ويتم ذلك بالاعتماد على أسلحة خفيفة وحروب عصابات لا تراعى فيها القوانين والأعراف الدولية الخاصة بالحرب. [15][15]
ومما سبق يبدو التباين واضحا بين الحالتين، ويمكن بالتالي استشفاف صعوبة المقاربة للأمن بالمنظور الاستراتيجي التقليدي، فهناك غموض يكتنف طبيعة الفاعلين المعنيين بالأمن وينسحب الأمر كذلك على مدى ملاءمة البنى التقليدية للعلاقات بين الدول للقضايا الأمنية المستجدة في النظام الدولي. [16][16] ولم يعد بالإمكان الاعتماد على المأزق الأمني (حسب المفهوم الواقعي) الناجم عن سباق التسلح لتفسير التحديات الراهنة. وباختصار يقول Baldwin أن حقل الدراسات يبدو أنه كان مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من فترة الحرب الباردة بمفهوم ضيق للأمن الوطني واتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة. [17][17] والتي يمكن أن يرد ضمنها صيانة الاستقرار المجتمعي عن طريق منع اضطهاد مجموعة معينة.
فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه Barry Buzan بالمأزق الأمني المجتمعي. والذي قد ينعكس على مستوى التهديدات التي تستشفها هذه المجموعة تجاه تطورها في ظروف مقبولة دون مساس بلغتها، ثقافتها، دينها، عاداتها، وهويتها بشكل عام. [18][18]
لكن إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي، فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لاستنفاذ موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية. ولأن المدنيين والنساء والأطفال والشباب هم الذين يحملون بذور بقاء الآخر واستمراره، فإنهم يشكلون الهدف المفضل لأطراف النزاعات الإثنية. ويُكَّرَّس ذلك أكثر بانهيار احتكار الدول لاستعمال وسائل العنف أو الإقرار بالعلاقات الاجتماعية التي تدفع إلى إثارة النَّعرات الإثنية في المجتمع. ويصعب في وضعية كهذه الاحتفاظ بالنظرة التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة، فهو هنا كيان قائم بذاته وموضوع متميز للأمن. [19][19]
وفي حالات أخرى فإن الأمور تؤول إلى تعقيد أكثر عندما يتعلق الأمر بتطور نزاع مسلح بين حركة انفصالية وقوات حكومة لدولة ذات سيادة، وهنا بالذات تتزايد حساسية الأمن الدولي تجاه اللاّأمن المجتمعي. ولا شك أن تعاظم أهمية المجتمع والمجموعات المشكلة له يعود إلى بروز الدولة، أكثر من أي وقت مضى كوسيلة وليست غاية في حد ذاتها. ويظهر ذلك خاصة في نماذج الدول العاجزة Failed States، كالصومال، رواندا، أفغانستان، سيراليون...، إذ وبتحوله إلى صدام مسلح فإن المأزق الأمني المجتمعي يطرح تحديات حقيقية أمام السياسات الأمنية الوطنية والدولية ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها:
- وجود احتمالات للتصادم بين الدولة المعنية ودول الجوار بسبب تدفق اللاجئين أو لانقسام المجموعة الإثنية المضطهدة على أقاليم الدول المتجاورة (حالة الأكراد).
- تزامن التوتر مع وجود مشاكل حدودية لم يتم تسويتها، وهنا تلجأ بعض الدول إلى مساندة المجموعات الانفصالية وذلك لتصفية حساباتها مع الدولة المعنية أو لاستعمالها كورقة مساومة.
- وجود مخاطر ما يسمى بـ "فعل ماتروزكا" Matrozka effect والمقصود به تجزئة الدول إلى مجموع وحدات سياسية صغيرة ليس لها القدرة على البقاء والاستمرار إضافة إلى الخوف من العودة إلى زمن الغزو. [20][20]
- وفي وضع كهذا تصبح المجموعة الدولية مجبرة على التدخل للحؤول دون المساس بالأمن والاستقرار العالمي برمته (حالة البلقان وكشمير).
وبهذا الشكل فإن الأمن يرتبط بثلاثة مستويات، الأفراد، الدول، والنظام الدولي. بحيث أن الأمن على أي من هذه المستويات يعتبر ضروريا للأمن على المستويات الأخرى، وعلى حد تعبير Buzan فإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة. وبناء على هذه الطروحات يقترح Müller ثلاثة مستويات لدراسة الأمن يورد فيها الأطراف موضوع الدراسات الأمنية والقيم المهددة وهي العناصر التي ترد في تعريف Wolfers للأمن. [21][21]
الجدول 10 : المرجعيات الأنطولوجية للدراسات الأمنية
الكيان موضوع الأمن القيـم المهـددة
الدولة السيادة، والقوة
المجموعة الهوية
الأفراد البقاء والرفاه
ولأن هذه الدراسة تركز على المجموعات الإثنية، فإنه سيتم معالجة المستوى الثاني وذلك بتحديد الشكل الذي تتهدد فيه قيم هذه المجموعة بشكل يدفعها إلى التناحر.
ومن هنا فإن المصطلح الأمني المرجعي في إدارة النزاعات الإثنية يتمثل في الأمن المجتمعي وهنا يتعين تحديد موقف واضح إزاء مجموعة أسئلة تشمل المحاور التالية:
الأمن لمن؟ لصالح أية قيم؟ في مواجهة أي شكل من المخاطر؟ وما هي الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الأمن؟
يمكن استقاء إجابات مهمة لهذه التساؤلات من خلال تعريف Müller للمأزق المجتمعي، الذي ينتج حسبه عن "غياب الأمن المجتمعي، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة. وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة". [22][22]
من خلال هذا التعريف يمكن الوصول إلى أن المجموعات الإثنية التي تضمها دولة ما، أو المجتمع المنسجم ِإثْنيا في حالات أخرى، تعتبر بمثابة الكيان المعني بالدراسة الأمنية. لكن ما هي القيم التي تتعرض للتهديد بحيث تجعل استقرار المجموعة الإثنية محورا جوهريا للمنظومة الأمنية.
يرى Buzan أن المأزق الأمني يتمحور حول الهوية، حول ما يمكّن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير "نحن"، لكن مكمن التحدي هنا هو جانبها التطوري. فهي عملية تفاعلية مستمرة للتحكم في المطالب الملحة وإشباع حاجات معينة، حيث يلعب الإدراك والذّاتية دورا مهما. غير أن هذا المسار التفاعلي قد يقود إلى مأزق أمني مجتمعي إذا أصبحت الهوية جوهرا للصراع على المصالح وسندا للسعي من أجل الهيمنة أو سندا لبنية العلاقات القائمة مع المجموعات الأخرى. ويتضح ذلك في تغليب مظاهر "الأنا" على المظاهر التعاونية، وهذا بالالتجاء إلى المجموعات الإثنية كإطار للصراع من أجل البقاء، وكضمان وحيد للأفراد للحصول على الحماية في مناخ يسوده الخوف. [23][23]
ولكن سلسلة الأفعال وردود الفعل في التفاعل بين المجموعات الإثنية قد يؤدي إلى رفع سقف الوعود لدى قياداتها( بالمطالبة بالانفصال) ولدى المجموعات الأخرى أو الحكومة (بتقديم وعود بقمع التمرد). وبتداول خطابات الخطر، وزيادة مستويات الاستقطاب، فإن ذلك يفتح المجال أمام تفجر العنف، [24][24] والذي يتم تغذيته بوجود دعم من الشتات، أو المرتزقة، أو المنظمات الإجرامية... وحينها يسود الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره المجموعات الإجرامية. وهكذا، وعندما يمتزج العنف السياسي بسقوط الاقتصاد بيد المجرمين، فإن العمل الإجرامي يصبح متساندا أو مستديما، [25][25] ما يجعله تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حالة انتشار هذه الاضطرابات والفوضى لتشمل منطقة بأكملها.
وبناء على كل ما سبق يتبين أن هناك حاجة إلى استجابة دولية متعددة الأوجه، تهدف بالأساس إلى إقرار سلام مستديم، وذلك بمعاقبة مجرمي الحرب، وإعادة تثبيت أسس الاقتصاد الرسمي، الذي يعتبر كفيلا بتخفيف مستويات الاستياء، وبالتالي قدرة المجموعات على التعبئة للنزاع. [26][26] والنتيجة تتمثل في إنهاء المأزق المجتمعي، وهي الحالة التي يعكسها تعريف Baldwin بتدني احتمالات إلحاق الضرر بأي من القيم المكتسبة. [27][27] ولكن على أي أساس تباشر المجموعة الدولية أو الأطراف الثالثة بشكل عام تدخلها لمعالجة أي إخلال بأمن المجموعات الإثنية أو الحؤول دون حدوثه؟
إن ذلك يتطلب إضفاء الطابع الأمني على النزاعات الإثنية، وهذا يقتضي من المجموعة الدولية توسيع أجندتها الأمنية لتشمل التهديد الذي تفرضه المآزق المجتمعية. ولا شك أن "مدرسة كوبنهاجن" ما بعد البنيوية للأمن تقدم إطارا ملائما لذلك، بإقرارها بأن الأمن ليس مفهوما ثابتا، بل إنه بناء اجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي. [28][28] وبهذا الشكل يمكن توسيع الأمن ليتجاوز المنظور التقليدي الذي يركز على الحروب بين الدول، فالنزاعات الإثنية تعتبر إحدى أشكال النزاعات الداخلية، ومن هنا فإن التدخل لحلها يستوجب إضفاء الطابع الأمني عليها The issue should be securitized، ما يعني التزام الأطراف الثالثة بتعبئة الموارد للتعامل معها، [29][29] باستعمال مختلف الوسائل وتنسيق استخدام القنوات الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وغيرها من وسائل الضغط بما في ذلك القوة العسكرية - إن اقتضى الأمر– كرافعة Leverage لإجبار أطراف النزاع على إنهاء العنف.
يرجى توجيه كل المراسلات إلى البريد الإلكتروني: adelzeggagh@yahoo.com / هاتف: +213 071 09 19 31
إعادة صياغة مفهوم الأمن – برنامج البحث في الأمن المجتمعي
Reconceptualizing security: A research program on societal-security
عـادل زقاغ
لقد ارتبط الأمن في المنظور التقليدي بكيفية استعمال الدولة لقوتها لإدارة الأخطار التي تتهدد وحدتها الترابية، واستقلالها، واستقرارها السياسي وذلك في مواجهة الدول الأخرى. وهكذا فإنه بهذه الصفة يكون الأمن مجرد مرادف للمصلحة الوطنية، وكيفية تعزيزها بالاعتماد على القوة في شقها العسكري. [1][1] ويعود ذلك إلى حقيقة أن الدراسات الأمنية تطورت في إطار المدرسة الواقعية التي كانت ظروف الحرب الباردة مواتية لها لاحتكار هذا الحقل المعرفي. [2][2]
وقبل التفصيل في جوانب تطور مفهوم الأمن، يجدر التطرق إلى التعريف الذي يرد عندWolfers Arnold للأمن، حيث يقول أنه في جانبه الموضوعي يعني "غياب أية تهديدات تجاه قيم مكتسبة، وفي جانبه الذاتي فهي يعني غياب الخوف من أن يتم المساس بأي من هذه القيم". [3][3] وبإسقاطه على فترة الحرب الباردة، فإن هذه التهديدات انحصرت في المخاوف التي سادت الو.م.أ. وحلفائها تجاه المد الشيوعي والمخاطر التي كانت تهدد القيم اللبرالية. وبهذا فقد آلت إلى دراسات أوربية (أو غربية) التمركز من جهة، مما ساهم في إقصاء شريحة كبيرة من الإنسانية وبناء تصور عنصري للأمن. [4][4] ومن جهة أخرى، فقد غلب عليها الطابع التقني، بسبب ميلها إلى الجوانب العملية، وتنافس الباحثين على إصدار دراسات يمكن الاستناد إليها لصياغة سياسات فعالة لمواجهة الاتحاد السوفييتي. [5][5]
وأدى كل ذلك إلى تقرب الباحثين من دوائر صناعة القرار، مما أفقد هذا الحقل المعرفي الحياد الفكري الذي يعتبر ضروريا ليتحسس الباحث التهديدات الحقيقية للعالم المادي، إذ أن دخول دوائر صناعة القرار قيد إدراك الباحثين للتحديات الجديدة، [6][6] كالفقر المتفشي في دول الجنوب، والذي وبتزامنه مع ضعف البنيان المؤسساتي في هذه الدول، فقد أدى إلى بروز التصادم بين المجموعات الإثنية في إطار صراعها على الموارد. [7][7] ومن الواضح أن الإخفاق في إدراك هذا التحدي الجديد كان طبيعيا بالنظر إلى أن التخصص في الحرب الباردة كان إحدى العوامل التي ساهمت في إخفاق التنبؤ بنهاية الحرب الباردة، مع ما يحمله ذلك من دلالات تتعلق بعدم تمتع التصور التقليدي بمرونة كافية تسمح له بإدراك مستجدات النظام الدولي ومن ثمة صياغة سياسات ملائمة للتحولات الجارية.
ومع ذلك فإنه لا يجب التغافل عن محاولة الدراسات النقدية تغطية نقائص هذا التصور، بحيث رفضت ربط الأمن بالحرب ودعت بدلا من ذلك إلى الارتكاز على مفهوم أكثر إيجابيـة، وقد تزعمـها Johan Galtung بدعوتـه إلى السلام الإيجابي Positive Peace وKenneth Boulding بمفهومه الخاص بالسلام المستقر Stable Peace. فالأمن الحقيقي حسب هؤلاء يجب ألا يقتصر على غياب الحرب (العنف المباشر) بل يجب أن يتضمن إضافة إلى ذلك القضاء أو على الأقل تقليص حدة العنف غير المباشر (العنف البنيوي في صورة تكريس تبعية دول الجنوب لدول الشمال عبر المؤسسات الدولية). [8][8]
وقد تدعمت وجهة النظر الداعية إلى إعادة النظر في مفهوم الأمن من خلال تقرير Egon Bahr المقدم للجنة Palme (1982) والذي عنونه "الأمن المشترك" Common Security. ويرى فيه أن التركيز على القوة في عالم يتميز بمستويات عالية من التسلح وتضبطه حركية الاعتماد المتبادل غير مؤسس، فسعي الدول منفردة لتعزيز أمنها، سوف يقلص في نهاية المطاف أمن الدول الأخرى. هذا من جانب، ومن جانب آخر فإن التركيز على المخاطر العسكرية في التعامل مع المأزق الأمني غير واقعي، فهناك أشكال أخرى من المخاطر التي تتهدد الدول وهي ذات طبيعة اقتصادية، بيئية وحتى ثقافية، كما وقد يكون وراءها فاعلين آخرين غير الدولة كالمنظمات الإرهابية. [9][9]
وأدى ذلك إلى تبني مفهوم أوسع للأمن أخذ تسميات متعددة كالأمن المتكامل Comprehensive Security (بحيث يتضمن كل أشكال التهديد)، والشراكة الأمنية Security Partnership (بحيث يتم إشراك الدول غير الغربية)، والأمن المتبادل Mutual Security (إذ يتم التخلي نسبيا عن نزوع الدول منفردة إلى تعظيم أمنها على حساب الدول الأخرى)، Cooperative Security الأمن التعاوني (بحيث يتم تقاسم الأعباء الأمنية لاحتواء التهديدات). لكن ورغم تعدد هذه التسميات إلا أنها لا تتجاوز الحدود التقليدية للمفهوم، أين تلعب الدولة دورا حصريا. [10][10]
ومقابل هذه الاتجاهات التنقيحية ظهر الاتجاه ما بعد البنيوي Post-Structural الأكثر طعنا في الصياغة التقليدية. بحيث يدعو إلى إعادة النظر – ليس في وسائل التهديد ومصادرها فحسب – بل في وحدة التحليل أو الطرف المعني بالأمن. [11][11] مما يسمح بتزويد الطرف الثالث بتصور أمني ملائم وبإطار من الشرعية التي تتيح له التدخل خاصة لأغراض إنسانية. إذ أن الأمن من خلال هذا المنظور ما بعد الحداثي يجب ألا يقتصر على – أو يتحدد بـ- حماية الدولة وتعزيز رفاهها بل يفترض أن يهتم أيضا بحماية الفرد والمجموعة وتعزيز رفاههم. وواقعيا فإن مثل هذا التغير يستند إلى إيجاد حجج صلبة له، فالدولة طغت كمحور للأحداث وكوحدة للتحليل في عالم ما بعد وستفاليا، وقد قامت الحروب بالأساس للدفاع عن الدولة ضد عدو خارجي، وتكفل بالمهمة جنود محترفون تولوا مهمة الذود عن سيادة دولهم، وقاموا بذلك مراعين – نسبيا – قوانين وأعراف الحروب، حيث لا يتم التعرض للمدنيين في أغلب الحالات، أو على الأقل فإن استهدافهم لا يعتبر جوهريا في استراتيجية المعركة. [12][12]
وبالمقابل شهدنا في عالم ما بعد الحداثة، [13][13] وخاصة في فترة ما بعد الحرب الباردة، ظاهرة الدول العاجزة سواء كمصدر أو كمحصلة للنزاع بين المجموعات الإثنية، والتي تعمل في كل حالة على تغذية هذه الوضعية، ففي غضون ذلك يختفي تحكم الدولة بإقليمها وتنتفي مظاهر سيطرة الحكومة واحتكارها لاستخدام القوة ووسائل القهر والأهم من ذلك هو أن المجموعات المتناحرة تتبنى استراتيجية إشاعة الفوضى لتحقيق أهدافها. وهدفها بالتالي ليس الاستيلاء على السلطة لأن ذلك ليس في حدود إمكاناتها. إلا أن اعتمادها على استراتيجية إشاعة الفوضى جعلها تلجأ إلى أسلوب جديد للمواجهة باستخدام الميليشيات شبه العسكرية، العصابات الإجرامية والأطفال، وهذا لسهولة تعبئة هذه الفئات والتحكم بها وحتى توريطها في أعمال إجرامية محظورة دوليا. [14][14]
وبناء على ذلك فإن الخاصية المميزة لحروب ما بعد الحرب الباردة تتمثل في اعتماد أسلوب الإرهاب بين المجموعات أو الأطراف المتصارعة وذلك عن طريق استهداف المدنيين، الإبادة الجماعية، والاغتصاب ... ويتم ذلك بالاعتماد على أسلحة خفيفة وحروب عصابات لا تراعى فيها القوانين والأعراف الدولية الخاصة بالحرب. [15][15]
ومما سبق يبدو التباين واضحا بين الحالتين، ويمكن بالتالي استشفاف صعوبة المقاربة للأمن بالمنظور الاستراتيجي التقليدي، فهناك غموض يكتنف طبيعة الفاعلين المعنيين بالأمن وينسحب الأمر كذلك على مدى ملاءمة البنى التقليدية للعلاقات بين الدول للقضايا الأمنية المستجدة في النظام الدولي. [16][16] ولم يعد بالإمكان الاعتماد على المأزق الأمني (حسب المفهوم الواقعي) الناجم عن سباق التسلح لتفسير التحديات الراهنة. وباختصار يقول Baldwin أن حقل الدراسات يبدو أنه كان مجهزا بشكل سيئ لا يسمح له بالتعامل مع عالم ما بعد الحرب الباردة، وذلك بخروجها من فترة الحرب الباردة بمفهوم ضيق للأمن الوطني واتجاهها لتغليب الأمن في شقه العسكري على الأهداف الأخرى للسياسة العامة. [17][17] والتي يمكن أن يرد ضمنها صيانة الاستقرار المجتمعي عن طريق منع اضطهاد مجموعة معينة.
فعندما تحس مجموعة ما باللاّأمن إزاء السلطة الإقليمية، أو المجموعات التي تشاركها نفس الإقليم، فإن ذلك يؤدي إلى ما يسميه Barry Buzan بالمأزق الأمني المجتمعي. والذي قد ينعكس على مستوى التهديدات التي تستشفها هذه المجموعة تجاه تطورها في ظروف مقبولة دون مساس بلغتها، ثقافتها، دينها، عاداتها، وهويتها بشكل عام. [18][18]
لكن إذا تصاعدت حدة المأزق الأمني المجتمعي، فإن نتائجه قد تكون خطيرة وتمتد من التنافس لاستنفاذ موارد نادرة (كالموارد الطبيعية أو المخصصات الحكومية)، إلى السعي لإزالة الطرف الآخر من الوجود عبر التصفية الإثنية. ولأن المدنيين والنساء والأطفال والشباب هم الذين يحملون بذور بقاء الآخر واستمراره، فإنهم يشكلون الهدف المفضل لأطراف النزاعات الإثنية. ويُكَّرَّس ذلك أكثر بانهيار احتكار الدول لاستعمال وسائل العنف أو الإقرار بالعلاقات الاجتماعية التي تدفع إلى إثارة النَّعرات الإثنية في المجتمع. ويصعب في وضعية كهذه الاحتفاظ بالنظرة التقليدية التي تعتبر المجتمع مجرد قطاع من قطاعات أمن الدولة، فهو هنا كيان قائم بذاته وموضوع متميز للأمن. [19][19]
وفي حالات أخرى فإن الأمور تؤول إلى تعقيد أكثر عندما يتعلق الأمر بتطور نزاع مسلح بين حركة انفصالية وقوات حكومة لدولة ذات سيادة، وهنا بالذات تتزايد حساسية الأمن الدولي تجاه اللاّأمن المجتمعي. ولا شك أن تعاظم أهمية المجتمع والمجموعات المشكلة له يعود إلى بروز الدولة، أكثر من أي وقت مضى كوسيلة وليست غاية في حد ذاتها. ويظهر ذلك خاصة في نماذج الدول العاجزة Failed States، كالصومال، رواندا، أفغانستان، سيراليون...، إذ وبتحوله إلى صدام مسلح فإن المأزق الأمني المجتمعي يطرح تحديات حقيقية أمام السياسات الأمنية الوطنية والدولية ويعود ذلك إلى مجموعة من الأسباب أهمها:
- وجود احتمالات للتصادم بين الدولة المعنية ودول الجوار بسبب تدفق اللاجئين أو لانقسام المجموعة الإثنية المضطهدة على أقاليم الدول المتجاورة (حالة الأكراد).
- تزامن التوتر مع وجود مشاكل حدودية لم يتم تسويتها، وهنا تلجأ بعض الدول إلى مساندة المجموعات الانفصالية وذلك لتصفية حساباتها مع الدولة المعنية أو لاستعمالها كورقة مساومة.
- وجود مخاطر ما يسمى بـ "فعل ماتروزكا" Matrozka effect والمقصود به تجزئة الدول إلى مجموع وحدات سياسية صغيرة ليس لها القدرة على البقاء والاستمرار إضافة إلى الخوف من العودة إلى زمن الغزو. [20][20]
- وفي وضع كهذا تصبح المجموعة الدولية مجبرة على التدخل للحؤول دون المساس بالأمن والاستقرار العالمي برمته (حالة البلقان وكشمير).
وبهذا الشكل فإن الأمن يرتبط بثلاثة مستويات، الأفراد، الدول، والنظام الدولي. بحيث أن الأمن على أي من هذه المستويات يعتبر ضروريا للأمن على المستويات الأخرى، وعلى حد تعبير Buzan فإن الأمن العالمي وأمن الأفراد وجهان لعملة واحدة. وبناء على هذه الطروحات يقترح Müller ثلاثة مستويات لدراسة الأمن يورد فيها الأطراف موضوع الدراسات الأمنية والقيم المهددة وهي العناصر التي ترد في تعريف Wolfers للأمن. [21][21]
الجدول 10 : المرجعيات الأنطولوجية للدراسات الأمنية
الكيان موضوع الأمن القيـم المهـددة
الدولة
المجموعة
الأفراد السيادة، والقوة
الهوية
البقاء والرفاه
ولأن هذه الدراسة تركز على المجموعات الإثنية، فإنه سيتم معالجة المستوى الثاني وذلك بتحديد الشكل الذي تتهدد فيه قيم هذه المجموعة بشكل يدفعها إلى التناحر.
ومن هنا فإن المصطلح الأمني المرجعي في إدارة النزاعات الإثنية يتمثل في الأمن المجتمعي وهنا يتعين تحديد موقف واضح إزاء مجموعة أسئلة تشمل المحاور التالية:
الأمن لمن؟ لصالح أية قيم؟ في مواجهة أي شكل من المخاطر؟ وما هي الوسائل المستعملة لتحقيق هذا الأمن؟
يمكن استقاء إجابات مهمة لهذه التساؤلات من خلال تعريف Müller للمأزق المجتمعي، الذي ينتج حسبه عن "غياب الأمن المجتمعي، والذي يرتبط بدوره بقدرة المجموعة على الاستمرار مع المحافظة على خصوصياتها، في سياق من الظروف المتغيرة والتهديدات القائمة أو الممكنة. وبتحديد أكثر فإنه يتعلق بإحساس هذه المجموعة المعنية بأن هناك مساسا بمكونات هويتها كاللغة، والثقافة، والدّين، والهوية والعادات، أو بأن تطورها لا يتم في ظروف مقبولة". [22][22]
من خلال هذا التعريف يمكن الوصول إلى أن المجموعات الإثنية التي تضمها دولة ما، أو المجتمع المنسجم ِإثْنيا في حالات أخرى، تعتبر بمثابة الكيان المعني بالدراسة الأمنية. لكن ما هي القيم التي تتعرض للتهديد بحيث تجعل استقرار المجموعة الإثنية محورا جوهريا للمنظومة الأمنية.
يرى Buzan أن المأزق الأمني يتمحور حول الهوية، حول ما يمكّن المجموعة من الإشارة إلى نفسها بضمير "نحن"، لكن مكمن التحدي هنا هو جانبها التطوري. فهي عملية تفاعلية مستمرة للتحكم في المطالب الملحة وإشباع حاجات معينة، حيث يلعب الإدراك والذّاتية دورا مهما. غير أن هذا المسار التفاعلي قد يقود إلى مأزق أمني مجتمعي إذا أصبحت الهوية جوهرا للصراع على المصالح وسندا للسعي من أجل الهيمنة أو سندا لبنية العلاقات القائمة مع المجموعات الأخرى. ويتضح ذلك في تغليب مظاهر "الأنا" على المظاهر التعاونية، وهذا بالالتجاء إلى المجموعات الإثنية كإطار للصراع من أجل البقاء، وكضمان وحيد للأفراد للحصول على الحماية في مناخ يسوده الخوف. [23][23]
ولكن سلسلة الأفعال وردود الفعل في التفاعل بين المجموعات الإثنية قد يؤدي إلى رفع سقف الوعود لدى قياداتها( بالمطالبة بالانفصال) ولدى المجموعات الأخرى أو الحكومة (بتقديم وعود بقمع التمرد). وبتداول خطابات الخطر، وزيادة مستويات الاستقطاب، فإن ذلك يفتح المجال أمام تفجر العنف، [24][24] والذي يتم تغذيته بوجود دعم من الشتات، أو المرتزقة، أو المنظمات الإجرامية... وحينها يسود الاقتصاد غير الرسمي الذي تديره المجموعات الإجرامية. وهكذا، وعندما يمتزج العنف السياسي بسقوط الاقتصاد بيد المجرمين، فإن العمل الإجرامي يصبح متساندا أو مستديما، [25][25] ما يجعله تهديدا للسلم والأمن الدوليين، حالة انتشار هذه الاضطرابات والفوضى لتشمل منطقة بأكملها.
وبناء على كل ما سبق يتبين أن هناك حاجة إلى استجابة دولية متعددة الأوجه، تهدف بالأساس إلى إقرار سلام مستديم، وذلك بمعاقبة مجرمي الحرب، وإعادة تثبيت أسس الاقتصاد الرسمي، الذي يعتبر كفيلا بتخفيف مستويات الاستياء، وبالتالي قدرة المجموعات على التعبئة للنزاع. [26][26] والنتيجة تتمثل في إنهاء المأزق المجتمعي، وهي الحالة التي يعكسها تعريف Baldwin بتدني احتمالات إلحاق الضرر بأي من القيم المكتسبة. [27][27] ولكن على أي أساس تباشر المجموعة الدولية أو الأطراف الثالثة بشكل عام تدخلها لمعالجة أي إخلال بأمن المجموعات الإثنية أو الحؤول دون حدوثه؟
إن ذلك يتطلب إضفاء الطابع الأمني على النزاعات الإثنية، وهذا يقتضي من المجموعة الدولية توسيع أجندتها الأمنية لتشمل التهديد الذي تفرضه المآزق المجتمعية. ولا شك أن "مدرسة كوبنهاجن" ما بعد البنيوية للأمن تقدم إطارا ملائما لذلك، بإقرارها بأن الأمن ليس مفهوما ثابتا، بل إنه بناء اجتماعي يتشكل عبر الممارسة وبشكل ديناميكي. [28][28] وبهذا الشكل يمكن توسيع الأمن ليتجاوز المنظور التقليدي الذي يركز على الحروب بين الدول، فالنزاعات الإثنية تعتبر إحدى أشكال النزاعات الداخلية، ومن هنا فإن التدخل لحلها يستوجب إضفاء الطابع الأمني عليها The issue should be securitized، ما يعني التزام الأطراف الثالثة بتعبئة الموارد للتعامل معها، [29][29] باستعمال مختلف الوسائل وتنسيق استخدام القنوات الدبلوماسية والعقوبات الاقتصادية، وغيرها من وسائل الضغط بما في ذلك القوة العسكرية - إن اقتضى الأمر– كرافعة Leverage لإجبار أطراف النزاع على إنهاء العنف.
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام