تتباين وجهات نظر فقهاء القانون الدولي ومواقف الدول من تقرير المصير determination self على نحو يتضح معه أنه ليس من السهل وضع تعريف جامع مانع له مع أن تقرير المصير اقترن منذ القرن السابع عشر بتعبير حرية الإرادة free will. ومع ذلك يرى بعض الفقهاء أن من الممكن تعريفه على أنه «حق شعب ما في أن يختار شكل الحكم الذي يرغب العيش في ظلّه والسيادة التي يريد الانتماء إليها». وتعرفه المادة الأولى الموحدة من عهدي حقوق الإنسان[ر] لعام 1966 بأنه «حرية الشعوب في تقرير مركزها السياسي وحرية تأمين نمائها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي» وذهبت الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها رقم 2625 الصادر في 24/11/1970 الذي تضمن التصريح الخاص بالعلاقات الودية والتعاون بين الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة إلى أن مبدأ التسوية في الحقوق وحق الشعب في تقرير مصيرها من مبادئ القانون الدولي الخاص بهذه العلاقات وجاء فيه «بموجب مبدأ التسوية في الحقوق وتقرير المصير للشعوب المعلنين في ميثاق الأمم المتحدة، لكل الشعوب الحق في أن تقرر، دون تدخل أجنبي، مركزها السياسي وأن تسعى لتأمين نموها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي وعلى كل دولة واجب احترام هذا الحق وفق نصوص الميثاق».
تقرير المصير قبل ميثاق الأمم المتحدة
من الممكن أن يعد نشوء مبدأ تقرير المصير وتطوره تاريخياً ردة فعل ثورية على مفهوم الحق الإلهي devine right الذي قامت عليه أنظمة الحكم في العصور الوسطى إذ كان إقليم الدولة وسكانه يعدان معاً ملكاً خاصاً للحاكم، الذي له بمقتضى سيادته المستمدة من حقه الإلهي أو ما يدعوه «جان بودان»: «السلطة السامية غير المقيدة بالقانون» إذ يمارس سلطته عليهما معاً بصفته مالكاً شرعياً. فإذا تصرّف بجزء من الإقليم شمل تصرفه سكان ذلك الجزء الذي يرتبطون به ويخضعون لمصيره نفسه، ومع تطور الأوضاع ومرور الوقت، تولد رد الفعل على المفهوم الديني للدولة. فنمت وترعرعت فكرة أن السلطة إنما تكمن في الشعب الذي يتمتع بحق غير قابل للتصرف في تقرير شكل الحكم الذي يرغب فيه والدولة التي يود الانتماء إليها.
وإذا كان الرجوع إلى مبدأ تقرير المصير قد استهل في العام 1526م فإنه لم يجد تطبيقه الفعلي إلا في بيان الاستقلال الأمريكي المعلن يوم 4 تموز1776م وبعدها في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م في فرنسة. وعندما حصلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكة الجنوبية على استقلالها في المدة من 1810-1825م خشي الرئيس الأمريكي «مونرو» أن تلجأ الدول الأوربية إلى التدخل في شؤون دول أمريكة الجنوبية، فأصدر عام 1823 تصريحاً تضمن حق تلك الدول في تقرير المصير. كما تعهد تقديم الدعم الأدبي والعسكري لحكوماتها التي قامت استناداً إلى هذا المبدأ.
وفي تطور موازٍ نال مبدأ تقرير المصير في أوربة زخماً ضد طغيان الملوك والطبقات الحاكمة. ذلك أن الثورة الفرنسية التي أطلقت المبدأ في أوربة لم تكن تطلقه ضد حاكم أجنبي كما أنها لم تستهدف توحيد الشعوب. فالمسألة تتعلق بالأفراد والشعوب والأمم التي من حقها أن تتمتع بالحرية وأن تقاوم الاضطهاد وأن تحدد أوضاعها الداخلية والدولية. وهكذا وجدت فكرة الاقتراع العام universal suflrage. وكانت النتيجة المنطقية لذلك هي ديمقراطية الحكم وانبثاق مفهوم جديد لمبدأ تقرير المصير.
أدى انتشار الديمقراطية إلى تقليص دور ومضمون تقرير المصير في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر بسبب اللجوء إليه وسيلة لتحقيق الأماني القومية للأمم national aspiration. ذلك أن القومية vationalism هي رابطة روحية تجد التعبير عنها في اتحاد الأفراد في الأصل وفي التراث المشترك من تاريخ وثقافة وعقائد وما إلى ذلك. وأن دول ذلك الوقت مثلما هي عليه الدول في العصر الحاضر لا تعدو أن تكون بصورة أو بأخرى مزيجاً من ثقافات وأجناس مختلفة. تكونت بفعل عدة عوامل تراكمت على مر التاريخ. بعبارة أخرى إن الأصل في الدول أنها تألفت من خليط من أمم قومية, ومن ثم فإن تطور الديمقراطية ونمو مشاركة الجماهير في الحياة العامة في القرن التاسع عشر حرك الأماني القومية لكل أمة داخل الدولة حتى سمي ذلك القرن عصر «مبدأ القوميات» principle nationalities of وأصبح مضمون تقرير المصير ضرورة تحقيق التوافق بين الدولة والأمة. وبكلمة أخرى أصبح معناه حق الأمم في تقرير مصيرها. ومما يؤكد هذا الاتجاه الذي اختطه مفكرون من أمثال «مازيني» أن إعلان حق الأمم في تقرير مصيرها لم يعط الاهتمام الكافي لحق الشعوب المستقلة في أن تقرر شكل الحكم لديها بل اكتفى بتأييد حق الشعوب المناهضة لسيطرة أجنبية في تقرير مصيرها وتكوين دولها القومية.
أما أول إشارة يسارية لمبدأ تقرير المصير فقد جاءت في التصريح الصادر عام 1896 عن المؤتمر الاشتراكي العالمي لاتحاد العمال. إلا أن غموض نصوص التصريح أثار التساؤل حول من المخاطب به هل هي الأمم؟ أم طبقة العمال؟ أم الانتماء العمالي من أجل عماوال الآخرين؟ كما لفّ الغموض من ناحية أخرى معنى تقرير المصير ذاته. فهل المقصود به استقلال الشعوب؟ أم سمو طبقة العمال؟ أم تحقيق الديمقراطية الاشتراكية العالمية؟
أما الدولة السوفييتية فقد تبنت منذ مولدها حق الأمم في تقرير مصيرها مبدأ أساسياً للتسوية السلمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، كما أنها كانت تعده أساس سيادتها بصدد القوميات. إذ لا يقوم موقفها في هذا المجال على الدفاع عن مبدأ القوميات بصورته التقليدية وإنما تعطي مبدأ تقرير المصير أساساً أكثر عمقاً وأوسع مدى حين تقرن مسألة القومية بمسألة التحرر من الاستبعاد الإمبريالي[ر. الإمبريالية] لشعوب المستعمرات [ر. الاستعمار] والبلاد التابعة.
لقد أسهم انفجار تصارع القوى القومية، الذي انتقل إلى القرن العشرين من القرن السابق في إشعال نار الحرب العالمية الأولى. فقد جاء في رد الحلفاء على استفسارات الرئيس الأمريكي ويلسون Wilson أنهم يقاتلون من أجل حرية واستقلال الإيطاليين والسلاف والبولونيين والتشيك من السيطرة الأجنبية، مما دفع ويلسون إلى التصريح في عدد من خطبه الصارخة بوجهة نظره فيما يتعلق بحق تقرير المصير القومي بقوله: «ليس من الجائز مقايضة الناس بين سيادة وأخرى كما لو كانوا أموالاً منقولة أو حجارة لعب، وأن الشعوب لا يسيطر عليها ولا تحكم الأبناء على موافقتها وأية تسوية إقليمية تنتج عن هذه الحرب يجب أن تكون لمصلحة الشعوب ذات العلاقة». وإذا كان المعنى الذي قصده «ويلسون» بعبارته السابقة قد أثار جدلاً فقد كان الفارق عظيماً بين ما قاله وما طبق فعلاً من قوله. فقد تأكد من مؤتمر السلام بفرساي الذي اختتمت به الحرب العالمية الأولى فقدان الحماس لتطبيق حق تقرير المصير كما تعارض تطبيقه مع مصالح الدول المنتصرة.
ومن ثمَّ، وبفعل إصرار الزعماء الذين مثلوا الإمبراطورية البريطانية، على عدم الاعتراف بمبدأ تقرير المصير أساساً يستند إليه في ترتيب تغييرات في السيادة على الإقليم في مواجهة أولئك الذين كانوا يمثلون الأقاليم البريطانية المتخصصة بالحكم الذاتي تمَّ حذف المبدأ من عهد عصبة الأمم مع أن الرئيس ويلسون كان قد ضمنه نقاطه الأربع عشرة المشهورة [ر. ودرو ويلسون]. بل إن ويلسون نفسه عاد وأقر لاحقاً أنه حين تحدث عن تقرير المصير لم يكن يعلم عن «القوميات» ومن ثم فإنه قرر بأن تطبيق هذا المبدأ يقتصر على شعوب الأقاليم التي انفصلت عن الإمبراطوريات المهزومة، في أوربة دون سواها. ففي غير أوربة ابتدع نظام الانتداب[ر].
غير أن مبدأ تقرير المصير لم ينتهِ, فقد عاد للبروز من جديد حتى إبان الحرب, وكان على الحلفاء في هذه الحرب الكونية الثانية أن يلتزموا احترامه. ففي تصريح الأطلسي Atlantic Charter الصادر يوم 14 آب 1941 عن روز فلت وتشرشل أعلن الزعيمان بعض المبادئ التي تقوم عليها سياسة بلديهما حاضراً ومستقبلاً. وكان واضحاً أن المبدأين, الثاني الذي ينص على الرغبة في عدم إحداث تغيرات إقليمية ضد رغائب الشعوب, والثالث الذي ينص على حق جميع الشعوب في اختيار أشكال حكوماتها، أنهما يتناولان مبدأ تقرير المصير. إلا أن الغموض الذي اتسمت به نصوص التصريح بصورة عامة مضافاً إليه سلوك الدولتين الاستعماري جعل من الصعب معرفة ما إذا كانت نية واضعيه قد انصرفت إلى قصر تطبيقه على أوربة أم إنه ليشمل العالم بأسره.
تقرير المصير بعد ميثاق الأمم المتحدة
خلت مقترحات دومبارتون أوكس[ر. الأمم المتحدة] حول ميثاق المنظمة المقترحة لخلافة عصبة الأمم من الإشارة إلى مبدأ تقرير المصير. وفي محادثات الأربعة الكبار في سان فرانسيسكو أثار وزير خارجية الاتحاد السوفييتي الموضوع، واقترح النص عليه ضمن العبارة الخاصة بالهدف الثاني للمنظمة purposes, وكذلك في مقدمة الفصل التاسع الخاص بالتعاون الاقتصادي والاجتماعي ثم عاد وأعرب عن موقفه هذا في مؤتمر صحفي مؤكداً أن بلاده تعلق عليها أهمية كبرى لما تبديه من اهتمام خاص بسكان المستعمرات والأقاليم الخاضعة للانتداب والذي ترغب في أن تراهم يسيرون على طريق الاستقلال الوطني في أقرب فرصة ممكنة. ومن ثم فإن على الأمم المتحدة أن تدعم هذا الهدف وأن تعمل من أجل الإسراع في تحقيق مبادئ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للأمم.
ومع أن ممثلي الدول الثلاث الأخرى لم يشاطروا الممثل السوفييتي وجهة نظره هذه إلا أنهم قبلوا الاقتراح على أية حال، وقدموه إلى مؤتمر سان فرنسيسكو على أنه مشروع مشترك لتعديل مقترحات دومبارتون أوكس. وقد صادق المؤتمر في النهاية على هذه التعديلات فأصبحت بذلك الفقرة (2) من المادة الأولى من الفصل الأول أهداف ومبادئ الأمم المتحدة على النحو الآتي: «إنماء العلاقات الودية بين الأمم، على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها, وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام» وكذلك المادة (55) من الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي التي تضمن نصها ما يلي: «رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على...». وإذا كان تقرير المصير كما جاء في الفقرة (2) من المادة (1) مبدأ مرشداً للأمم المتحدة في تحقيق أهدافها وأساساً لتمتين علاقات الصداقة بين الشعوب، وتقوية السلام العالمي. فإنه، كما جاء في المادة (55)، الأساس لخلق شروط الاستقرار والرفاه اللازمين لعلاقات الصداقة والسلام بين الأمم، كما أنه المبدأ الذي تلتزم الدول الأعضاء الاسترشاد به في علاقاتها مع الأمم الأخرى وعلى أية حال فإن كلا النصين مشوبان بالغموض وتعوزهما الدقة سواء من حيث بيان مجال التطبيق أم من حيث المعنى.
إن إقدام الأربعة الكبار على التقدم بالتعديل المذكور مشروعاً مشتركاً من دون الاتفاق على مضمونه هو مسؤوليتهم جميعاً لسماحهم بجعل مثل هذا المبدأ الحساس جزءاً من دستور العلاقات الدولية من دون بيان المعنى المقصود منه. ذلك أن النص عليه بمثل هذا الغموض لم يضع حداً للصراع القائم بشأن تقرير المصير بل على العكس أكسبه مزيداً من الحدة والضراوة. ومع أن المرجع في خلاف حول تفسير مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون لرأي هذه الدولة أو تلك بل للأمم المتحدة كلها، إلا أن الصراع حول تفسير مبدأ تقرير المصير قد بلغ ذروته بين القوى الاستعمارية والقوى المناهضة للاستعمار ولا سيما في شأن منح الشعوب غير المستقلة استقلالها. فقد جهد ممثلو الدول الاستعمارية للتهوين من شأن هذا المبدأ وإضعاف أهميته إلى حد أن بعضهم ذهب إلى إنكار وجوده ضمن مبادئ القانون الدولي.
وقد دفع هذا الصراع الجمعية العامة لأن تطلب من لجنة حقوق الإنسان [ر] في قرارها 421 الصادر في 4/12/1950 أن تضع توصيات حول الطرق والوسائل التي تضمن حق تقرير المصيرللشعوب. كما نصت في قرارها رقم 545 الصادر في 5/2/1952 على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها. ثم أصدرت في 16/12/1952 القرار 637 الذي جعلت بمقتضاه حق الشعوب في تقرير مصيرها شوطاً ضرورياً للتمتع بالحقوق الأساسية جميعها وأنه يتوجب على كل عضو في الأمم المتحدة الحفاظ على حق تقرير المصير للأمم الأخرى واحترامه
تقرير المصير قبل ميثاق الأمم المتحدة
من الممكن أن يعد نشوء مبدأ تقرير المصير وتطوره تاريخياً ردة فعل ثورية على مفهوم الحق الإلهي devine right الذي قامت عليه أنظمة الحكم في العصور الوسطى إذ كان إقليم الدولة وسكانه يعدان معاً ملكاً خاصاً للحاكم، الذي له بمقتضى سيادته المستمدة من حقه الإلهي أو ما يدعوه «جان بودان»: «السلطة السامية غير المقيدة بالقانون» إذ يمارس سلطته عليهما معاً بصفته مالكاً شرعياً. فإذا تصرّف بجزء من الإقليم شمل تصرفه سكان ذلك الجزء الذي يرتبطون به ويخضعون لمصيره نفسه، ومع تطور الأوضاع ومرور الوقت، تولد رد الفعل على المفهوم الديني للدولة. فنمت وترعرعت فكرة أن السلطة إنما تكمن في الشعب الذي يتمتع بحق غير قابل للتصرف في تقرير شكل الحكم الذي يرغب فيه والدولة التي يود الانتماء إليها.
وإذا كان الرجوع إلى مبدأ تقرير المصير قد استهل في العام 1526م فإنه لم يجد تطبيقه الفعلي إلا في بيان الاستقلال الأمريكي المعلن يوم 4 تموز1776م وبعدها في وثيقة حقوق الإنسان والمواطن لعام 1789م في فرنسة. وعندما حصلت المستعمرات الإسبانية والبرتغالية في أمريكة الجنوبية على استقلالها في المدة من 1810-1825م خشي الرئيس الأمريكي «مونرو» أن تلجأ الدول الأوربية إلى التدخل في شؤون دول أمريكة الجنوبية، فأصدر عام 1823 تصريحاً تضمن حق تلك الدول في تقرير المصير. كما تعهد تقديم الدعم الأدبي والعسكري لحكوماتها التي قامت استناداً إلى هذا المبدأ.
وفي تطور موازٍ نال مبدأ تقرير المصير في أوربة زخماً ضد طغيان الملوك والطبقات الحاكمة. ذلك أن الثورة الفرنسية التي أطلقت المبدأ في أوربة لم تكن تطلقه ضد حاكم أجنبي كما أنها لم تستهدف توحيد الشعوب. فالمسألة تتعلق بالأفراد والشعوب والأمم التي من حقها أن تتمتع بالحرية وأن تقاوم الاضطهاد وأن تحدد أوضاعها الداخلية والدولية. وهكذا وجدت فكرة الاقتراع العام universal suflrage. وكانت النتيجة المنطقية لذلك هي ديمقراطية الحكم وانبثاق مفهوم جديد لمبدأ تقرير المصير.
أدى انتشار الديمقراطية إلى تقليص دور ومضمون تقرير المصير في الثلث الثاني من القرن التاسع عشر بسبب اللجوء إليه وسيلة لتحقيق الأماني القومية للأمم national aspiration. ذلك أن القومية vationalism هي رابطة روحية تجد التعبير عنها في اتحاد الأفراد في الأصل وفي التراث المشترك من تاريخ وثقافة وعقائد وما إلى ذلك. وأن دول ذلك الوقت مثلما هي عليه الدول في العصر الحاضر لا تعدو أن تكون بصورة أو بأخرى مزيجاً من ثقافات وأجناس مختلفة. تكونت بفعل عدة عوامل تراكمت على مر التاريخ. بعبارة أخرى إن الأصل في الدول أنها تألفت من خليط من أمم قومية, ومن ثم فإن تطور الديمقراطية ونمو مشاركة الجماهير في الحياة العامة في القرن التاسع عشر حرك الأماني القومية لكل أمة داخل الدولة حتى سمي ذلك القرن عصر «مبدأ القوميات» principle nationalities of وأصبح مضمون تقرير المصير ضرورة تحقيق التوافق بين الدولة والأمة. وبكلمة أخرى أصبح معناه حق الأمم في تقرير مصيرها. ومما يؤكد هذا الاتجاه الذي اختطه مفكرون من أمثال «مازيني» أن إعلان حق الأمم في تقرير مصيرها لم يعط الاهتمام الكافي لحق الشعوب المستقلة في أن تقرر شكل الحكم لديها بل اكتفى بتأييد حق الشعوب المناهضة لسيطرة أجنبية في تقرير مصيرها وتكوين دولها القومية.
أما أول إشارة يسارية لمبدأ تقرير المصير فقد جاءت في التصريح الصادر عام 1896 عن المؤتمر الاشتراكي العالمي لاتحاد العمال. إلا أن غموض نصوص التصريح أثار التساؤل حول من المخاطب به هل هي الأمم؟ أم طبقة العمال؟ أم الانتماء العمالي من أجل عماوال الآخرين؟ كما لفّ الغموض من ناحية أخرى معنى تقرير المصير ذاته. فهل المقصود به استقلال الشعوب؟ أم سمو طبقة العمال؟ أم تحقيق الديمقراطية الاشتراكية العالمية؟
أما الدولة السوفييتية فقد تبنت منذ مولدها حق الأمم في تقرير مصيرها مبدأ أساسياً للتسوية السلمية التي أعقبت الحرب العالمية الأولى، كما أنها كانت تعده أساس سيادتها بصدد القوميات. إذ لا يقوم موقفها في هذا المجال على الدفاع عن مبدأ القوميات بصورته التقليدية وإنما تعطي مبدأ تقرير المصير أساساً أكثر عمقاً وأوسع مدى حين تقرن مسألة القومية بمسألة التحرر من الاستبعاد الإمبريالي[ر. الإمبريالية] لشعوب المستعمرات [ر. الاستعمار] والبلاد التابعة.
لقد أسهم انفجار تصارع القوى القومية، الذي انتقل إلى القرن العشرين من القرن السابق في إشعال نار الحرب العالمية الأولى. فقد جاء في رد الحلفاء على استفسارات الرئيس الأمريكي ويلسون Wilson أنهم يقاتلون من أجل حرية واستقلال الإيطاليين والسلاف والبولونيين والتشيك من السيطرة الأجنبية، مما دفع ويلسون إلى التصريح في عدد من خطبه الصارخة بوجهة نظره فيما يتعلق بحق تقرير المصير القومي بقوله: «ليس من الجائز مقايضة الناس بين سيادة وأخرى كما لو كانوا أموالاً منقولة أو حجارة لعب، وأن الشعوب لا يسيطر عليها ولا تحكم الأبناء على موافقتها وأية تسوية إقليمية تنتج عن هذه الحرب يجب أن تكون لمصلحة الشعوب ذات العلاقة». وإذا كان المعنى الذي قصده «ويلسون» بعبارته السابقة قد أثار جدلاً فقد كان الفارق عظيماً بين ما قاله وما طبق فعلاً من قوله. فقد تأكد من مؤتمر السلام بفرساي الذي اختتمت به الحرب العالمية الأولى فقدان الحماس لتطبيق حق تقرير المصير كما تعارض تطبيقه مع مصالح الدول المنتصرة.
ومن ثمَّ، وبفعل إصرار الزعماء الذين مثلوا الإمبراطورية البريطانية، على عدم الاعتراف بمبدأ تقرير المصير أساساً يستند إليه في ترتيب تغييرات في السيادة على الإقليم في مواجهة أولئك الذين كانوا يمثلون الأقاليم البريطانية المتخصصة بالحكم الذاتي تمَّ حذف المبدأ من عهد عصبة الأمم مع أن الرئيس ويلسون كان قد ضمنه نقاطه الأربع عشرة المشهورة [ر. ودرو ويلسون]. بل إن ويلسون نفسه عاد وأقر لاحقاً أنه حين تحدث عن تقرير المصير لم يكن يعلم عن «القوميات» ومن ثم فإنه قرر بأن تطبيق هذا المبدأ يقتصر على شعوب الأقاليم التي انفصلت عن الإمبراطوريات المهزومة، في أوربة دون سواها. ففي غير أوربة ابتدع نظام الانتداب[ر].
غير أن مبدأ تقرير المصير لم ينتهِ, فقد عاد للبروز من جديد حتى إبان الحرب, وكان على الحلفاء في هذه الحرب الكونية الثانية أن يلتزموا احترامه. ففي تصريح الأطلسي Atlantic Charter الصادر يوم 14 آب 1941 عن روز فلت وتشرشل أعلن الزعيمان بعض المبادئ التي تقوم عليها سياسة بلديهما حاضراً ومستقبلاً. وكان واضحاً أن المبدأين, الثاني الذي ينص على الرغبة في عدم إحداث تغيرات إقليمية ضد رغائب الشعوب, والثالث الذي ينص على حق جميع الشعوب في اختيار أشكال حكوماتها، أنهما يتناولان مبدأ تقرير المصير. إلا أن الغموض الذي اتسمت به نصوص التصريح بصورة عامة مضافاً إليه سلوك الدولتين الاستعماري جعل من الصعب معرفة ما إذا كانت نية واضعيه قد انصرفت إلى قصر تطبيقه على أوربة أم إنه ليشمل العالم بأسره.
تقرير المصير بعد ميثاق الأمم المتحدة
خلت مقترحات دومبارتون أوكس[ر. الأمم المتحدة] حول ميثاق المنظمة المقترحة لخلافة عصبة الأمم من الإشارة إلى مبدأ تقرير المصير. وفي محادثات الأربعة الكبار في سان فرانسيسكو أثار وزير خارجية الاتحاد السوفييتي الموضوع، واقترح النص عليه ضمن العبارة الخاصة بالهدف الثاني للمنظمة purposes, وكذلك في مقدمة الفصل التاسع الخاص بالتعاون الاقتصادي والاجتماعي ثم عاد وأعرب عن موقفه هذا في مؤتمر صحفي مؤكداً أن بلاده تعلق عليها أهمية كبرى لما تبديه من اهتمام خاص بسكان المستعمرات والأقاليم الخاضعة للانتداب والذي ترغب في أن تراهم يسيرون على طريق الاستقلال الوطني في أقرب فرصة ممكنة. ومن ثم فإن على الأمم المتحدة أن تدعم هذا الهدف وأن تعمل من أجل الإسراع في تحقيق مبادئ المساواة في الحقوق وتقرير المصير للأمم.
ومع أن ممثلي الدول الثلاث الأخرى لم يشاطروا الممثل السوفييتي وجهة نظره هذه إلا أنهم قبلوا الاقتراح على أية حال، وقدموه إلى مؤتمر سان فرنسيسكو على أنه مشروع مشترك لتعديل مقترحات دومبارتون أوكس. وقد صادق المؤتمر في النهاية على هذه التعديلات فأصبحت بذلك الفقرة (2) من المادة الأولى من الفصل الأول أهداف ومبادئ الأمم المتحدة على النحو الآتي: «إنماء العلاقات الودية بين الأمم، على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق بين الشعوب وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها, وكذلك اتخاذ التدابير الأخرى الملائمة لتعزيز السلم العام» وكذلك المادة (55) من الفصل التاسع الخاص بالتعاون الدولي الاقتصادي والاجتماعي التي تضمن نصها ما يلي: «رغبة في تهيئة دواعي الاستقرار والرفاهية الضروريين لقيام علاقات سلمية وودية بين الأمم مؤسسة على احترام المبدأ الذي يقضي بالتسوية في الحقوق وبأن يكون لكل منها تقرير مصيرها، تعمل الأمم المتحدة على...». وإذا كان تقرير المصير كما جاء في الفقرة (2) من المادة (1) مبدأ مرشداً للأمم المتحدة في تحقيق أهدافها وأساساً لتمتين علاقات الصداقة بين الشعوب، وتقوية السلام العالمي. فإنه، كما جاء في المادة (55)، الأساس لخلق شروط الاستقرار والرفاه اللازمين لعلاقات الصداقة والسلام بين الأمم، كما أنه المبدأ الذي تلتزم الدول الأعضاء الاسترشاد به في علاقاتها مع الأمم الأخرى وعلى أية حال فإن كلا النصين مشوبان بالغموض وتعوزهما الدقة سواء من حيث بيان مجال التطبيق أم من حيث المعنى.
إن إقدام الأربعة الكبار على التقدم بالتعديل المذكور مشروعاً مشتركاً من دون الاتفاق على مضمونه هو مسؤوليتهم جميعاً لسماحهم بجعل مثل هذا المبدأ الحساس جزءاً من دستور العلاقات الدولية من دون بيان المعنى المقصود منه. ذلك أن النص عليه بمثل هذا الغموض لم يضع حداً للصراع القائم بشأن تقرير المصير بل على العكس أكسبه مزيداً من الحدة والضراوة. ومع أن المرجع في خلاف حول تفسير مبادئ ميثاق الأمم المتحدة لا يمكن أن يكون لرأي هذه الدولة أو تلك بل للأمم المتحدة كلها، إلا أن الصراع حول تفسير مبدأ تقرير المصير قد بلغ ذروته بين القوى الاستعمارية والقوى المناهضة للاستعمار ولا سيما في شأن منح الشعوب غير المستقلة استقلالها. فقد جهد ممثلو الدول الاستعمارية للتهوين من شأن هذا المبدأ وإضعاف أهميته إلى حد أن بعضهم ذهب إلى إنكار وجوده ضمن مبادئ القانون الدولي.
وقد دفع هذا الصراع الجمعية العامة لأن تطلب من لجنة حقوق الإنسان [ر] في قرارها 421 الصادر في 4/12/1950 أن تضع توصيات حول الطرق والوسائل التي تضمن حق تقرير المصيرللشعوب. كما نصت في قرارها رقم 545 الصادر في 5/2/1952 على ضرورة تضمين الاتفاقية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الخاصة بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية مادة خاصة تكفل حق الشعوب في تقرير مصيرها. ثم أصدرت في 16/12/1952 القرار 637 الذي جعلت بمقتضاه حق الشعوب في تقرير مصيرها شوطاً ضرورياً للتمتع بالحقوق الأساسية جميعها وأنه يتوجب على كل عضو في الأمم المتحدة الحفاظ على حق تقرير المصير للأمم الأخرى واحترامه
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام