السلام عليكم
مفهوم الميتافيزيقا عند هيدغر
إنّ من الدعائم التي تقوم عليها الفلسفة عمومًا عبر تاريخها هو، المنطق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة والقيّم.وبما أن الفلسفة هي من منشأ عقلي خالص، فقد عرفت تطورًا في المجال المنطقي والمعرفي. قد بلغ درجة رفيعة من درجات المعرفة والفكر، فالفيلسوف حينما يجمع بين طبيعة العقل الخالص وطبيعة العالم المادي، فتكون نتيجته إستخلاص مقولات لهذين الجانبين كي ينشأ بناءه الفلسفي لتفسير موضوعات الوجود.
ولهذا فإن دراستنا ستقودنا لتقصي أحد هذه الدعائم الفلسفية وهي"الميتافيزيقا" بمعناها العام أي طبيعة هذا المعنى عند مارتن هيدغر.
مفاهيم الميتافيزيقا وموضوعاتها ووظيفتها وطبيعتها ا
من خلال موسوعة لالاند الفلسفية، فإن هذا اللفظ أطلق على أحد مؤلفات أرسطو من خلال تصنيفاته المكتبية التي خصص جانبا منها عن موضوعات الميتافيزيقا.
ـ فتعريف لالاند يقوم على أنها هي :علم المبادئ العامة والعلل الأولى ويسمى الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي، عند أرسطو والمدرسيين.
وفي تعريف آخر، فعند ديكارت:الميتافيزيقا هي معرفة الله والنفس.
أما عند كانط :هي مجموعة المعارف التي تجاوز نطاق التجربة وتستمد من العقل وحده
هذا عن معانيها التي جاءت في المعاجم الفلسفية، أما أصل كلمة ميتافيزيقا، فهو يوناني يتألف من لفظين:
الأولي : ميتا "ما بعد" و الثانية :فيزيقا "الطبيعة " لتصبح الكلمة بالعربية ، "ما بعد الطبيعة"؛ فهي تعني التعمق في البحث وراء الظواهر والنظرة الأولية والمتأصلة للموضوعات للحصول على الحقيقة التي لا تدركها الحواس، إنما هي داخل دائرة العقل الخالص المتأمل.
فالنشأة الأولى لعلم الميتافيزيقا تعود إلى أرسطو ؛فهذا العلم عنده يجيب عن تساؤلات غيبية ليس بمقدور العلوم المادية أن تجيب عنها من خلال التجربة، ونقصد العلوم الطبيعية . وقد تركزت موضوعات الميتافيزيقا حول الصفات العامة للوجود بما هو موجود. للوصول إلى نظرية عامة عن طبيعة هذا العالم، الذي هو من إهتمامات أرسطو في العالم الطبيعي.
ولكن بالرغم من دراسته الكلية إلا أنه تساءل عما يمكن معرفته عن هذا الموجود من المخلوقات الأخرى وهو فسح المجال للفكر للبحث، لإيجاد أنطولوجيا عامة تهتم بدراسة ما هو موجود، بصورة أكثر تجريدية وشاملة.بعيدا عن موضوعات العلوم الجزئية الطبيعية والكيمياء والبيولوجية والعلوم التجريبية عموما القائمة على الفعل، في حدوده الحسي والمادي.
أما العلوم الطبيعية فحينما تقدم تساؤلات عن بعض الظواهر، وتجيب عن حقيقتها في العالم المادي بطريق التجربة . مثال ذلك: في ظاهرة أن المعادن تتمدد بالحرارة. فإنه كلما توفرت نفس الشروط أعطت نفس النتائج؛ لذلك فكلما حصل الإنسان على أمثلة وشواهد جديدة ومؤيدة لذلك الموضوع إزدادت القضية وضوحا وهذا يعني إرتباطها الواقعي بالأمثلة والشواهد السابقة للظاهرة المراد الكشف عنها.
فهذه العلوم الجزئية تبحث عن كل ما هو واقعي في أجزاءه المختلفة للظواهر الذي لا تستطيع أن تتجاوزه، بعيدا عن كل ما هو كلي لهذا ركنت إلى الجزئيات والأفراد وملاحظة الأشياء الفردية بقصد الوصول إلى نتيجة تجمع وتلخص التساؤلات التي طرحت حول موضوع معين .
ولكن هناك تساؤلات تتوقف عندها هذه العلوم في بعض الظواهر، ولا تستطيع الإجابة عنها فهنا يأتي مهمة الميتافيزيقا لتحل هذه المشكلات، وتقوم بدورها الذي عجزت عنه العلوم الجزئية.
ويمكن تحديد مفهومها في كونها لا تبحث عن ما هو واقعي بمعناه الحسي، إنما هي تبحث عن الحقيقة، وتستهدف الوجود الحقيقي الذي لا يظهره العالم المادي، من خلال ما تنتهجه العلوم التي تعتمد على تفسير الملاحظة والتجربة، للوصول إلى القانون العلمي في عالمه الجزئي، فهذا الشرط ينطبق على الموضوعات القائمة بالفعل، وخاصة للإدراك الحسي أو المادي؛ إذن فالمعرفة السائدة في مجال العلوم الدقيقة معرفة موضوعاتية، تكون الحقيقة فيها تابعة للمسافة الفاصلة بين المؤول وموضوعة، حقيقة يمكن إخضاعها للمراقبة. أما موضوعات الميتافيزيقا لا تخضع لشرط قبلي أو وجود مادي؛ إنما تشترط وجود عقل، إن كانت لا تنكر الواقع المادي للظاهرة
فالميتافيزيقا في فلسفة أرسطو، هي وضعها في نطاق العالم المادي الطبيعي للموجودات وتجيب عن تساؤلات ما عجز عنه العلم . في حين أن أفلاطون توصل إلى فكرة الموجودات وسمّاها صورا؛أي وضع تفسير لطبيعة الوجود وعلاقته بالأفكار وسط تجريدات العقل، بعيدا عن العالم المحسوس في نظرية المثل التي تعرضنا إليها سابقا من المنظور الأفلاطوني.
وتأسيسا مما تقدم عن معنى مصطلح الميتافيزيقا، وعن موضوعاتها ووظيفتها، لنأتي بعدها إلى تحديد طبيعتها ؛ على أنها العلم الذي يهدف إلى دراسة أعم المبادئ، وترتكز حول تعميق معنى الوجود الحقيقي والوصول إلى الحقيقة النهائية، وكشف أبعاد ومفاهيم جديدة في الحياة، والوقوف على الوجود العام، بدل الوجود الجزئي كما في العلوم الأخرى وبخاصة العلوم الطبيعية .
إذن ومن هذه المفاهيم يتبين لنا أن الميتافيزيقا تتجه إلى المبادئ الكلية العامة وتتجاوز عن كل ما هو محدود أو متناهي من الموضوعات ؛ لأنه هو حاضر وقائم بالفعل، ومن ثم فهو جزئي.
ومن طبيعة الميتافيزيقا أيضا أنها تميز بين إشكاليتين : أولا :عن طبيعة الظاهرة، أي ما لم تدركه الحواس. والإشكالية الثانية:هي الحقيقة التي هي من موضوعات التي تخفيها الميتافيزيقا فيما وراء هذا العالم الظاهري ؛أي تبحث عن الوجود الحقيقي وراء الظاهرة . ومثال عن بعض الأسئلة التي تجيب عنها الميتافيزيقا:
ماذا نقصد بالوجود الحقيقي مقابل الظاهر؟. ـ ماذا نعني بقولنا حقيقي ؟ ـ هل أصل الوجود يعود لأصل واحد أو الكثرة ؟ ـ ما طبيعة الألوهية وما علاقته بالوجود؟. والأسئلة كثيرة ولا نستطيع حصرها عن موضوعات ومسائل خارج عن إطارها الظاهري تتجاوز إدراكنا الحسي، فلا يمكننا إلا أن نحيلها إلى الميتافيزيقا لتجيب عليها.
هذا عن مفهوم الميتافيزيقا وطبيعتها. لنطرح سؤالا آخر : كيف كانت مساءلة هيدغر النقدية لمعنى الميتافيزيقا؟ وما هي الإرهاصات الفكرية التي بنى عليها هذا النقد؟.
ـالنفوذ النظري للفلسفة النقدية وتصور مارتن هيدغر لماهية الميتافيزيقا
في يوم 24 يوليو 1929 بجامعة فرايبورغ، كانت المحاضرة الإفتتاحية الأولى لهيدغر، بمناسبة حصوله على منصب الأستاذية بالجامعة، في أن تكون المحاضرة الأولى مفتوحة أمام الجميع من أساتذة وطلبة كل الكليات والشعب، وهذا يعني أن هناك أقطاب علمية متعددة غير المنشغلين بالفلسفة فقط. وهي فرصة لهيدغر أن يشتغل عليها لتمرير خطابه ومشاركة مختلف المفكرين، ولاسيما العلمية منها، لكي يبين أن كل العلوم تتوقف صراحة أو ضمنيا على الميتافيزيقا على الرغم من أنها تتخذ في معظم الأحيان موقفا سلبيا منها .
- فما هو هدف هيدغر من إعداد هذه الوثيقة ؟.
أولا وقبل أن نبدأ في الإجابة، سنلقي نظرة وجيزة عن الإنتقادات التي دارت حول الميتافيزيقا في الفترة الحديثة والمعاصرة. فالوشمات التي دارت حول الميتافيزيقا كثيرة ومن مختلف الإتجاهات الفكرية، فمن خلال دافيد هيوم David Hume (17711-1776) و كانط 1804-1724) Kant) ونقديتهم للميتافيزيقا، وبالرغم من كل هذا التأمل الذي إستمر على أشده في القرن التاسع عشر، حيث وضعت علامة إستفهام كبيرة عن هذا البحث فقد أصبحت ميتافيزيقا وصفية أكثر منها تأصيلية. تفضي بوصف أكثر المقولات عمومية التي يفهم الوجود بواسطتها زد على هذه الإرهاصات فقد تنوعت المرويات التراثية الكبرى والمدونات الفكرية . فإلتزام كانط بضرورة نقد العقل الخالص، ولئن أقر هيجل بنهاية "الميتافيزيقا الجوهر" معلنا عن إكتمال "ميتافيزيقا الذات". فقد ظلت مع ذلك أسباب ومعضلة الميتافيزيقا مرابطة في قلب الخطاب الفلسفي الغربي.
ومن هذا التواصل بين المدارس والأنساق الفلسفية، والإشكالات التأسيسية وتعدد المعطيات النظرية، والتأصيلية التي تحكم الجدل الفلسفي للفكر الغربي .كانت الميتافيزيقا هي المتن الذي تدور عليه نقاشات هذه المدارس بين التهميش والتأصيل في المعرفة. فكيف ذلك؟
و كانط يقول عن المعرفة :" تبدأ كل معرفتنا مع التجربة و لا ريب في ذلك البتة، لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا فتسبب من جهة حدوث التصورات تلقائيا، وتحرك من جهة أخرى، نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها، و ربطها أو فصلها وبالتالي إلى تحويل خام الإنطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات تسمى التجربة إذن لا تتقدم أي معرفة عندنا زمنيا بل معها تبدأ جميعا ".
لذلك كان كانط يصوغ للمعرفة بين التجربة والصور القبلية الموجودة في الذهن في آنية واحدة .وما عجز عنه الحس أو التجربة في الموضوعات، يؤول إلى الفهم ؛أي إلى التفسير الميتافيزيقي الذي يصطدم الفكر عندها لإخضاعها للتجربة، في تفكيك لنظرية المعرفة في تلك الفترة عند كانط من خلال تصوره أن حقيقة الوجود ماهو إلا أحد مقولات العقل .
هذا عن كانط، أما المشروع النيتشوي في تحطيم نرجسية الفكر الغربي، وتقويض كل القيم الثقافية السائدة ؛أي هدم الشكل الثقافي داخل الحضارة الغربية بما فيها الفلسفات الكلاسيكية الكبرى.وكذا النصوص المقدّسة للمسيحية، فعدمية نيتشة Friedrich Neitche (1711-1776)هي تقويضDestruction للقيم أولًا بما فيها الميتافيزيقا.
فيرى بأنه:" ليس عبثا إذ أن أكون قد دفنت اليوم السنة الرابعة والأربعين من عمري فقد حق لي أن أدفنها، ما كان جديرا بالحياة فيها تم إنقاذه وغدا خالدا .تقويض كل القيمّ ". كتقويض للقيم الغربية السائدة لأخلاق العبيد، وبناء أسس جديدة، تعبّر عن إمكانية بناء قيم جديدة تقوم على أخلاق السادة والقوة، وتعبر عن إرادة الإنسان الأعلى فيورد نيتشة قائلا:"...فقد تعهّدنا بكل قوانا نحن الأخلاقيين بأن نبطل مفهوم الخطأ أو مفهوم العقاب وأن نطهر علم النفس، التاريخ، الطبيعة، المؤسسات والقوانين الاجتماعية منها، فإنه لا يوجد في نظرنا خصوم أشد عزما من علماء اللاهوت الذين ما يزالون بمفهومهم عن "النظام الأخلاقي الكوني يعدون براءة الصيرورة بـ "العقاب " و " الخطأ" إن المسيحية هي ميتافيزيقا الجلاد".
فالمسيحية وقوانينها خلفت أخلاق العبيد، وكرّست هذه الأفكار على الإنسان الغربي وتركته حبيس هذه الأوهام، وجعلت من هذه القوانين دستورا إلهيا، بإسم النظام الكوني الذي أراد نيتش تحطيمه كما تحطم الأصنام في المعابد، فهو تقويض ميتافيزيقا كل النصوص الدينية السائدة في عصره.
أما في المجال العلمي فقد رأينا سابقا كيف تنظر العلوم الطبيعية للميتافيزيقا، قد رسخ هذا التهميش أكثر في العلوم التجريبية والرياضية، من خلال دائرة فيينا أو ما تسمى بالحركة الوضعية المنطقية، التي كانت بجامعة فيينا برئاسة بعض الأساتذة المنشغلين بمنطق العلوم برئاسة ارنست ماخ Ernest Mach (1838-1916) و إزدهرت هذه الحركة وفي عام1922م، حيث تصدر موريس شليك كرسي الأستاذية للعلوم الاستقرائية في ذات الجامعة وألتفت حوله نخبة من الأتباع، لمناقشة المشكلات الفلسفية والتطور الفكري، في إتجاهها العلمي منها الرياضيات والفيزياء...فتجنشتين يفسر هدف الفلسفة من وجهة نظره في الإيضاح المنطقي لأفكاره :"إن الفلسفة ليست نظرية وإنما هي نشاط فعال ..ونتيجة الفلسفة ليست عدد من القضايا الفلسفية، و إنما توضيح القضايا فالفلسفة ينبغي أن توضح الأفكار.
هذه بعض الرسائل التي نوقشت داخل دائرة فيينا من مجموع الرسائل المطروحة في سنة 1921م. والتي قوبلت الكثير منها ورفض البعض .التي تعد نقطة تحول هامة في تاريخ الفلسفة الغربية.وفي عام 1929م أصدرت دائرة فيينا مؤلفان بعنوان "حلقة فيينا :تصورها العلمي للعالم"وفي هذا المؤلف أعلنت الجماعة عن أهدافها ومنهجها، فقد تمثل الهدف الرئيس منها في توحيد العلوم الجزئية، وتوحيد معارف الإنسان، اما استخدام التحليل المنطقي عند أعضاءها فمن بين مسلماته؛استبعاد القضايا الميتافيزيقية من العلوم الطبيعية والرياضيات والمعرفة الإنسانية بوجه عام.
ومن هذه المنعطفات الفكرية بشقيها الفلسفي أو العلمي، تبرز إشكالية الميتافيزيقا التي كانت مخاض عسير عرفته الفلسفة الحديثة، ولاسيما النسقية منها، وفلسفة القرن التاسع عشر. بين الإستبعاد والتقويض والقبول.هي مناحي آل إليها الفكر الغربي الذي لم يسعفه الحظ في مساءلة التفكير، لأصل السؤال عن الميتافيزيقا، وقد يكون إقتلعه من جذوره وتراثه الفكري في رؤية هيدغر.
لنطرح سؤالا آخر عن موقف الفيلسوف الوجودي و هيدغر أبرز أقطابها عن موقفهم من الميتافيزيقا في نظرتهم للوجود و بخصيصه، الوجود الإنساني. فما هو موقف الفلسفة الوجودية من الميتافيزيقا؟
لكي نجيب عن هذا السؤال نحيل إلي سؤال مفاهيمي آخر، ما هي نظرة الفيلسوف الوجودي للوجود البشري؟
تنطلق الفلسفة الوجودية من الواقع الإنساني، في أن وجوده كان سابقا عن ماهيته ماذا نعني بهذا القول؟.
يرى هيدغر أن :"إنني أعني أن الإنسان يوجد أولا ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي فتكون له صفاته ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فذلك لأنه قد بدأ من الصفر.
فالمفهوم الهيدغري يعلي من أسبقية الوجود الإنساني عن ماهيته، فالإنسان يحدد مصيره من خلال إمكاناته .أما عن جان بول سارترJean Paul Sartre(1905-1980م) فيرى:" بداية، أنني أفهم الفلسفة الوجودية كمذهب يجعل الحياة كمذهب يجعل الحياة الإنسانية ممكنة، مذهب يؤكد آن كل حقيقة وكل عمل، يستلزمان بيئة معينة و ذاتُا إنسانية".
في حين كارل يسبرز Carl Jacpers(1883-1969 م)، فيقول : " إن الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي أستطيع إدراكها في العالم : فهو يتصف بالحضور والقرب والإمتلاء والحياة وفي الإنسان و به وحده كل ممكن واقعا، لهذا فإن إهمال الوجود الإنساني آو تغافله .معناه الغرق في العدم".
و من هذه الآراء الفلسفية نرى أن المنطلق الأساسي للوجود البشري؛ هو أن وجود الإنسان. ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه هذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية.
لنعود للإجابة عن سؤال نظرة الفيلسوف الوجودي للميتافيزيقا. كما رأينا مسبقا أن الوجود الإنساني هو الأسبق عن ماهيته ؛فالوجودية من هذا المنطلق تنكر قدرة الفكر على إدراك الحقائق الواقعية العينية للوجود البشري وتخضعها إلى نسق عقلاني شامل، إلا أنهم لا يرفضون كل الميتافيزيقا ،لان أهم موضوعاتهم الرئيسية هو الإنسان. وبالتالي سيؤدي الأمر إلى إثارة طرح نوع من الأسئلة الميتافيزيقية ،لأن هذا الوجود يتجاوز التجربة العلمية .فالسؤال عن العالم le monde والتاريخ والزمان. وعلاقة الإنسان بهذه الموضوعات ومن هنا يظهر لنا مصطلح الأنطولوجيا أمام مصطلح الميتافيزيقا.
- لنتساءل مرة أخرى عن العلاقة المفاهيمية بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا عند فلاسفة الوجودية؟
الميتافيزيقا من منظور هيدغر:" تبحث في وجود الموجود وهي تسأل أولًا عن الموجود بما هو موجود، وفي هذه الحالة تكون "ميتافيزيقا عامة "أو انطولوجيا . وهي ثانيا تبحث في الوجود الذي يجعل من موجود معين موجودا، وحينئذ تسمى "ميتافيزيقا خاصة"بيد أن الميتافيزيقا لا تبحث في الوجود بما هو موجود، إلا بعد أن تبحث في وجود موجود ممتاز هو في الفلسفات الدينية:الله وفي فلسفة هيدغر والوجودية هو:الإنسان".
هذا عن الميتافيزيقا. أما الأنطولوجيا كعلم هي"علم الوجود وقسم من الفلسفة، وهو يبحث في الموجود في ذاته مستقى عن أحواله وظواهره، أو هو علم الموجود من حيث علم، هو موجود(أرسطو). فالأنطولوجي هو المنسوب إلى الأنطولوجيا وهو المتعلق بحقيقة الوجود لا بظواهر الوجود.
لنخلص إلى الفرق بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا : أن الأولى تريد أن تترك الظواهر و تغوص على أعماق الوجود للكشف عن الشيء في ذاته، على حين أن الميتافيزيقا تقتصر على تحديد الجوانب القبلية في كل نوع من أنواع المعرفة." إذن فالأنطولوجيا هي علم الوجود بما هو عليه، والميتافيزيقا تتخصص في جانب من هذا الوجود.
فالميتافيزيقا عند الفلسفة الوجودية تنطلق من الإنسان في ذاته، لدى نجد من الفلاسفة الذين يستبدلون كلمة ميتافيزيقا بالأنطولوجيا ثم يشرعون في البحث شبيه بالميتافيزيقا .
إذن فهيدغر يؤكد على مسألة الإختلاف الأنطولوجي ontologique La différence الذي يفصل في مسألة الوجود والموجود في تفكيكه للميتافيزيقا التقليدية لنطرح سؤالا آخر يعترض البحث.
- كيف كانت نظرة هيدغر لميتافيزيقا الإنسان أو (الذات) ؟ خاصة في الفترة الحديثة؟
نحن نعرف أن الفلسفة الغربية تستمد عناصرها ومقومات خطابها من الإشادة بالإنسان وبإرادته، تنظر إلى أفعال البشر و الأحداث التاريخية، كأنها تنبثق من نوايا مقاصد الذات، بمعنى أن الذات هي لوحدها صاحبة لكل ما يحدث، وفي هذا المعنى أن الوجود منسي.
ومن هذه الزاوية فإن النزعة الإنسانية الحديثة إرتفعت بالإنسان إلى مرتبة السيد المهيمن الذي يخضع العالم في فكره عن طريق التمثل، وتلك الذات التي نصبت نفسها في مركز العالم بإعتباره موضوعا لمعارفها أدى بالإنسانية إلى عصر السيطرة على الوجود بكليته بنظرتها الموضوعية للواقع، أو ما يسميه هيدغر بعصر "التقنية" technique أو المصطلح الحالي" التكنولوجيا".
و ما لعبته التقنية في هذا التيه والنسيان للفكر الغربي وحجبت وجوده من الوجود. فأصبحت التقنية ميتافيزيقا حتى في عصرنا اليوم "...الذي تطور برعاية الحضارة التكنولوجية، طريقة نسيان الوجود الأكثر إفراطا . وبالطريقة التي وجهت بها الميتافيزيقا نفسها ضمن وجود الموجودات. في الماهية، بحيث أسيئ فهم طبيعة الموجودة المنفتح داخل الوجود. تخترق التكنولوجيا اليوم أبعد مراكز المؤسسات العالمية...".
من خلال نظرة هيدغر للنزعة الإنسانية في الفترة الحديثة وتصورها للعالم الذي أصبح الخاصية الرئيسية التي تطبعه، في أن الوجود يتعين من خلال وبواسطة تمثل الإنسان، بحيث لم يعد موجودا حقا، إلا بقدر ما يتحدد من طرف الفرد في التمثل، أين أصبح هذا الأخير هو الكيفية الوحيدة للإدراك الأشياء .
فهذا التفكير المغلق la pensée clause همش من طموحات الإنسان وإنجازاته. فنظرة هيدغر للنزعة الإنسانية الحديثة، ما هي إلا ميتافيزيقا . وتصور وجودية هيدغر للإنسان كإنفتاح وكشف وحضور على الوجود، وكمجال لإنارته وكوسيط الذي عن طريقه تنار الأشياء بنور الوجود. بأن أنطولوجيا الأساسية fondamental ontologie تخص الإنسان بمكانة متميزة .التي سنتعرض إليها بالتفصيل في دراستنا "لمفهوم الكينونة عند هيدغر.
فما مفهوم النزعة الإنسانية عند هيدغر؟
مفهوم النزعة الإنسانية عند هيدغر يعرّفها في نص عام 1938م بأنها : "ذلك التأويل الفلسفي للإنسان، الذي يفسر ويقيم كلية الموجود انطلاقا من الإنسان، وفي إتجاه الإنسان ".
وفي نص آخر كتبه هيدغر في سنة 1940م : " بأنها هي تلك الفلسفة التي تضع الإنسان في مركز الكون عن قصد ووعي و تعتقد، من خلال تأويلات معينة للوجود، في إمكانية تحرير قدراته، وتأمين حياته، و الإطمئنان إلى مصيره، وتطوير وتنمية طاقاته الإبداعية ". وفي تعريف آخر له : "... في النزعة الإنسانية...يتم دائما الدوران في ذلك الإنسان ...في مدارات يتسع مداها بإستمرار".
وفي قراءة أخرى لهيدغر وفي نفس السياق 1946م :" بأن كل تعيين أو تعريف لماهية الإنسان لاينطلق من حقيقة الوجود ويتناساها، فهو بالتأكيد نزعة إنسانية وميتافيزيقا".
ومن هذه القراءات لهيدغر عن مفهوم النزعة الإنسانية التقليدية دون تطرقها للوجود، ما هي إلا ميتافيزيقا ويقول هيدغر معلقا عن مرحلة الأوج التي أدركتها "الميتافيزيقا الذاتية"، أي الذات الإنسانية .أنه إختفت كل الغايات لكي لا تبقى هناك إلا إرادة الهيمنة، من أجل الهيمنة:"...إن إرادة الإرادة تنفي كل غاية في حد ذاتها، ولا تسمح بأية غاية إلا بإعتبارها وسيلة ".
- لنطرح سؤالا ملحا آخر.لماذا تبقى النزعة الإنسانية مقدر عليها الإرتباط بأواصر الميتافيزيقا عند هيدغر؟.
يورد هيدغر معقبًا:"لأنها لا تطرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود، بل ولأنها تحول دون طرحه، وتصرعلى نسيان الوجود، ولا تفكر في الإختلاف الأنطولوجي بين الوجود، والموجود وفضلا عن ذلك كله لأنها مجموعة من الخطابات تبرز وتوجه الفعل البشري وتحاول باستمرار إنتاج صيغ جديدة للجواب عن السؤال "ما العمل" ؟".
إذن فالفكر الغربي دخل متاهة النسيان للسؤال عن الوجود، ليتحول السؤال إلى العالم المادي إنطلاقا لما يقدمه الإنسان من خلال أفعاله وإنجازاته وهذا نتيجة للخطابات الموجهة للفعل البشري وعدم تمييزه بين السياق الأنطولوجي للوجود، ومسافة إختلافه مع أنطولوجيا الإنسان الذي أحدثته ميتافيزيقا التقنية . حيث يقول هيدغر عن تداعياتها :" منذ فترة قلت: أن قدرات الإنسان قد فككت مشاركته وخطابه".
فهذه التقنية إختماوالت هذا الوجود الإنساني، على هامش الموضوعات وأدخلته إلى عالم النسيان، وأصبحت المعرفة تعبر عن القوة.
ومن هذه التطورات التي عرفتها الميتافيزيقا، كما رأينا سابقا، فإن الميتافيزيقا ما هي إلا إستحضارا يظل في جوهره إمتدادا على أرضية من الحركة و الإنتقال مابين الحاضر والماضي في الفكر الغربي، بما حضيت به من الجدة ونقصد التجديد الثوري بإعتباره ممارسة في سياقه الفلسفي عبر تطور الفكر الغربي في جانبه المنطقي والنفسي وكذا الميتافيزيقي الذي إستقاه هيدغر من قراءته لتاريخ الأنطولوجيا الغربية.
تفكيك الأنطولوجيا التقليدية لميتافيزيقا الوجود عند هيدغر
لقد عمل النص الهيدغري le travail du texte عن الأنطولوجيا مركز إهتمامه معظم حياته الأكاديمية، فتنظيره للموجود البشري هو الطريق للوصول إلى مشكلة معنى الوجود ولا يكاد يميز بين مصطلح الميتافيزيقا و الأنطولوجيا في كتاباته المبكرة ففي كتابه"ما الميتافيزيقا".فمثلا نجده يتخذ مشكلة العدم هو توضيحا لمشكلة ميتافيزيقية وإرتباطها الذي لا ينفصل عن مشكلة الوجود.التي سنورد لها جانبا في هذا المبحث. فتعمق هيدغر في البحث والتفكيك إذ أصبح يميز بين البحث الأنطولوجي والميتافيزيقي ؛ فهذه الأخيرة هي فهم للموجودات بدلًا من الوجود بما هو كذلك عند هيدغر .
وكانت قراءة هيدغر من خلال خطابه، هو أن يضع الفكر في موضع التساؤل التاريخي ذلك التنظيم الصارم الذي يقوم به المنطق التقليدي الذي ظل ساريا منذ أفلاطون وأرسطو، يدا بيد مع الميتافيزيقا الكلاسيكية للفلسفات الكبرى، ولهذا السبب كان لابد من هيدغر أن يلجأ إلى ثورية في أشكال التعبير، تختلف عن اللغة الرسمية للفلسفة الكلاسيكية فهو يرى أن:" أن الميتافيزيقا التي شكلت الفكر الأروبي حتى ذلك العصر الذي بدأ به العلم الحديث والتكنولوجيا يبسطان نفوذهما هي ظاهرة تاريخية للفلسفة الغربية.
فهيدغر لا يفكر في الميتافيزيقا بإعتبارها مجرد بحث فلسفي مضافا إلى بقية المباحث التي تتخذ بالمفهوم الأرسطي؛علم الموجود بما هو موجود، أو علم المبادئ العلل الأولى بل الميتافيزيقا عنده تغوص في الفكر الأفلاطوني و النيتشوي بكليته في مبحث الوجود. فهي منظور ورؤية للعالم بمنحى معين، تشمل منذ البدء مسلمات النسق الذي فكر به الغرب في إشكاليات، العالم، الله...من حيث هي حضورا متناسيا الإفلات الأنطولوجي بين الموجود و الوجود.
من نص محاضرة هيدغر التي ألقاها في جامعة فرايبورغ بعنوان"ما الميتافيزيقا" فهو يطرح سؤالا محدد أراد مشاركة العلوم لهذا الإشكال ؛ فالعلوم تفكر في عملها بالكائن فقط وفيما عداه لاشيء، أي العدم وهذا المقصد عند هيدغر الذي أراد إن يطرحه على العلم – إيزاء موقفها السلبي من الميتافيزيقا كما أدرجنا سابقا، فالعلم لا يعترف بالعدم لأنه ليس موضوعا، ولا كائنا ولكن العلم سينجد إليه عندما يفكر في ذاته.
- إذا سلمنا بهذا الأمر فبكيف يتم ذلك في نظر هيدغر؟.
كما قلنا سابقا أن الميتافيزيقا تشمل تأويل الوجود لفهم الموجود، بما في ذلك العلوم التي تدرس الموجودات، الطبيعة، التاريخ، الإنسان...فهذه العلوم تفترض موضوعا لدراستها كالإنسان مثلا، ولكن لا تفسر ماهيته، كما يدرس التاريخ الأحداث والوقائع التاريخية ولكن لا يكتب عن ماهية التاريخ، ونفس الشيء بالنسبة للفيزياء التي لا تفسر ماهية المادة. فهذه العلوم تفترض موضوعا-موجودا - تشتغل عليه لتنسج عليه مسلماتها، دون التعرض للموجود في ذاته .
مما يجعلها تفكر في أفق الميتافيزيقا ؛ونقصد إن هذه العلوم تنسج لغة ميتافيزيقية ظاهرية تستمد منها كل وصفها للظاهرة، كالإستدلال الرياضي مثلا المستند على البداهة الديكارتية . لهذا يعلن هيدغر بصرامة ": أن العلم لا يفكر".كنقد فلسفي للحداثة modernité laالغربية الذي أخذ حيزا محوريا في المدونة الهيدغرية.
ومن هنا فهيدغر يحاول أن يحلل الفكر الغربي خلف المسلمات الفكرية النسقية الذي ميز الميتافيزيقا منذ أفلاطون، ففكرة النسق هي السمة الأساسية لكل ميتافيزيقا. وكذلك فهيدغر أراد أن ينقد كل من مفهوم الذات والأحكام الأنطولوجية المسبقة في مفهوم أرسطو عن الوجود والجوهر، فتت في النهاية فكرة التأمل المتعالي. أي فك القيود المنطقية التي كبّلت به الفلسفات الكبرى في السؤال عن الوجود الذي دخل طي النسيان Oubli أي إستعادة طرح هذا الإشكال وشروط تقويضه.
ويقول جاك دريداJaque derrida(1930، 2004م) بهذا الصدد" إن ما يطرحه هيدغر على الميتافيزيقا إنما هو سؤال الوجود ومعه سؤال الحقيقة والمعنى واللوغوس، أن التأمل غير المنقطع لهذا السؤال لا يعيد "ترميم"ضمانات بل بالعكس ينفيها نحو عمقها الخاص وهذا مادام يتعين بمعنى الوجود. و ما لعبته التقنية في هذا التيه والنسيان للفكر الغربي وحجبت وجوده من الوجود. فأصبحت التقنية ميتافيزيقا . "...الذي تطور برعاية الحضارة التكنولوجيا، طريقة نسيان الوجود الأكثر إفراطا .وبالطريقة التي وجهت بها الميتافيزيقا نفسها ضمن وجود الموجودات في الماهية..." فهيدغر يطرق باب الحوار مع الفكر الغربي بإشكالاته والمشاركة معه محنة السؤال.
يحاول هيدغر في مسار المحاضرة أن يبرز كيف أن تجربة القلق angoisse تكشف عن العدم أو اللاشيء وأن هذا الإنكشاف للاشيء بصفته منتميا للكون، هو أساس حريتنا وعلاقتنا بالكائن وبالتالي شرط إمكانية العلم ذاته. فالعدم ينتمي لماهية الكون؛ بمعنى أكثر أن اللاشيء يتجلى وينكشف يمكن للعلم إن يجعل الكائن ذاته موضوعا للبحث، إنطلاقا من هذه المسلمة فإن العلم إستمد وجوده من الميتافيزيقا .
- فما المقصود بالشيء واللاشيء عند هيدغر؟
يرى هيدغر أن الشيء هو: ما يهتم به العلم سواء أكان ظاهرة أو واقعة أو علاقة العلم يعطي الكلمة الأولى والأخيرة للشيء chose الذي يهتم به، إنه يريد حسب هيدغر، أن يرى الشيء كما يظهر هو ذاته من تلقاء ذاته .
اللاشيء أو العدم : تستعمل هاتين الكلمتين بالمعنى نفسه و يختار هيدغر في كل مرة الكلمة الأكثر مناسبة للسياق اللغوي.
هيدغر يتخطى النظرة العلمية لمفهوم الشيء، ويتعمق إلى ماهية الشيء ذاته، التي تكمن في اللاشيء؛ فقد أتضح الآن أن السؤال عن الشيء، بأن هذه الكينونة العلمية ليست ممكنة إلا إذا تعرضت أولا للاشيء، التي لا يقر بها العلم.فالميتافيزيقا تعبر عن وجود العلم إذا إستطاع هذا الأخير أن ينال ويجدد مهمته الأساسية التي لا تكمن في جميع المعارف وترتيبها، بل في فتح المجال الكامل. أي للحقيقة الطبيعية والتاريخ ومختلف العلوم بكليتها، في إطارها الداخلي الخاص بها لتتعمق بعد ذلك بالموضوعات الخارجية متجاوزة مجالها الأساسي.
ويضيف هيدغر في نص خطابه ": لا يمكن أن يطرح أي سؤال ميتافيزيقي إلا بحيث يكون المتسائل – بما هو كذلك – حاضرا هو أيضا في السؤال الميتافيزيقي في كليته إنطلاقا من الوضعية الأساسية المتسائلة إنما نسأل هنا والآن من أجلنا نحن وتتحد كينونتنا . إذا كان العلم الحق على حق فليس هناك إلا أمر واحد، في أن العلم لا يبالي باللاشيء، هذا في النهاية هو الموقف العلمي الصارم عن اللاشيء . عندما يحاول أن يعبر عن ماهيته الخاصة يستنجد باللاشيء، أنه يستعمل ما يرفضه، أية ماهية منشطرة التي تكشف هنا ؟ ".
فمساءلة هيدغر للعلم في أن الميتافيزيقا تتحدد كتساؤل فيما وراء الكائن ؛ بمعنى كتفكير يتخطاه ؛ فهذا يعني إنها تنتمي لبنية وجود الإنسان، وأنها المظهر الأساسي للكينونة ولذلك يتبين توقف العلوم كلها على الميتافيزيقا هذا يعني أن الميتافيزيقا تنتمي للطبيعة الكائن.
ففي هذا الخطاب الهيدغري، من خلال وضع سؤال عن الشيء، فهو يسأل عن الذي مازال يحدث حتى الآن، عن توجه التفكير الغربي وتصرفه عن التصور الأساسي التاريخي الذي يحمله اليوم ويحدد كينونته، عن ماهية الفكر الحديث . فنظرية المعرفة ما هي الا ميتافيزيقا عند هيدغر الملائمة للعصر الحديث ؛ أي العصر الذي أصبح يبحث عن مبادئ الكائن في الذات البشرية وعرض مبادئها فهي لم تتخلى عن السؤال الميتافيزيقي عن وجود الكائن، بل أعادت تأسيس جديدة وبصياغة متجددة بنمطية العصر الحديث التي هي فيه.
وهيدغر يعطي لكلمة ميتافيزيقا معنى عاما فضفاضا تتجاوز المعاني المتعارف عليها سواء في سياقها التاريخي أو في القواميس فالتفكيك الهيدغري للميتافيزيقا، أصبحت تضم مجموع مظاهر الفكر الغربي بدون اي تمييز الفلسفة والفنون والعلوم والنظريات السياسية والأخلاقية... فكل هذه المعارف تشترك جميعهم في خطيئة "نسيان الوجود."
ومنطلق التساءل عن العدم أو اللاشيء هو الأفق الميتافيزيقي الذي يعبر به الكائن إلى الوجود بكليته. والذي يكسر سيادة المنطق لتفتح أفق الفهم في ميدان الأسئلة عن العدم . ليوضح هيدغر ذلك :"وليس العدم موضوعا أو كائنا،و لا يرد العدم منعماوالا ولا بجانب الكائن، بحيث يتعلق به إن جاز التعبير، فالعدم هو ما يسمح بتجلي الكائن بما هو كذلك للكينونة البشرية".
فالعلم لا يعترف بالعدم لأنه ليس موضوعا و لا كائنا كما أوردنا سابقا، ولكنه يستند إليه وكذلك فهو يرفضه باعتباره ما لا وجود له. والمنطق الذي هو في نظر هيدغر التأويل التقليدي للتفكير الغربي.فنص محاضرة " ما الميتافزيقا" هو بمثابة مساءلة ثورية لفك القيود المنطقية التي كبلت بها المرويات التراثية الكبرى، في سؤالها عن الوجود وتقويض هذا النسيان، وتنظير مجدد للميتافيزيقا على متن مظاهر الفكر الغربي بكل أشكاله .
في تجاوز الكائن لكينونته، ليورد هيدغر مؤكدا ": أن تخطي الكائن يحدث في ماهية الكينونة، وهذا التخطي هو الميتافيزيقا ذاتها، وهذا يعني أن الميتافيزيقا تنتمي للطبيعة البشرية فالميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في الكينونة، أنها الكينونة ذاتها (...) وبهذا لا تبلغ صرامة أي علم جدية الميتافيزيقا، ولا يمكننا أبدا أن نقيس الفلسفة بمقياس فكرة العلم".
المصادر والمراجع حسب التحليل
اندريه لالأند:موسوعة لالأند الفلسفية، (ج1).
إبراهيم مذكور :المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، (دط) ة1983.
محمد توفيق الضوي:دراسات في الميتافيزيقا، ، دار الثقافة العلمية، الإسكندرية، (دط)، 1999.
محمد باقر الصدر:الأسس المنطقية للإستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، (ط5)، 1986.
علي عبد المعطي محمد:المنطق ومناهج البحث العلمي، في العلوم الرياضية والطبيعية، دار المعرفة، الإسكندرية، (ط2)، 2004.
جان غراندان : المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة، عمر مهيبل، دار الإختلاف، بيروت، (ط1)، 2007.
مارتن هيدغر: كتابات أساسية، ترجمة، إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، (ط2)، 2003، (ج2).
يقول قدامير واصفا أستاذه هيدغر: "أما طريقته في محاضراته فهي تمتاز بتلك الجدية المثيرة والغاضبة تقريبا التي يغامر فيها فكره، وتلك الطريقة التي كان ينظر فيها من طرف عينيه عبر نافذة القاعة وعيناه التي تمسحان جمهوره والطريقة التي يندفع فيها صوته إلى الحد الأعلى من الإثارة .ليس لهيدغر طريق واحد، بل عدة طرق . وعندما نظر هيدغر في ما أنجزه، وعندما عزم على كتابة مدخل لأعماله الكاملة التي أشرف عليها بنفسه، إختار شعارا لهذه الأعمال وهو "طرق وليس أعمال".
عبد الله المطيري:طرق هيدغر غادامير قارئا أستاذه، جريدة الرياض، العدد14444، الخميس 10-يناير2008.
هيفاء النكيس:في إستعادة أو تعديل المشروعات الفلسفية، تقديم، علي عبود المحمداوي، آخرون، دار الإختلاف،، لبنان (دط)، 2013.
إيمانويل كانط:نقد العقل المحض، ترجمة، موسى وهبة، مركز الأنماء القومي، لبنان، (دط)، (دن).
فريديك نيتشة:هذا هو الأنسان، ترجمة، علي مصباح، منشورات الجمل، (دط)، (دن)
فريديك نيتشة:أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية، محمد الناجي، إفريقيا الشرق، القاهرة، (ط1)، 1996.
كارل بوبر:منطق الكشف العلمي، ترجمة، ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية للطباعة، بيروت، (دط)، 1986.
نقلا عن جان بول سارتر :الوجودية مذهب إنساني، ترجمة، عبد المنعم حفنى، الدار المصرية للطباعة والنشر، القاهرة (ط1)1964 .
نقلا عن عبد الرحمان بدوي :دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، (ط1)، 1980.
جون ماكوري :الوجودية، ترجمة، إمام عبد الفتاح إمام، تقديم، فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، (دط)، 1982،.
عبد الرحمان بدوي:موسوعة الفلسفة، دار(مجد)، بيروت، (ط1)، 1984.
جميل صليبا :المعجم الفلسفي، (ج2) .
التقنية: من حيث التعريف أو الجانب الإصطلاحي فهي تدل على مجموعة من المناهج أو فن أو صناعة.
سهيل إدريس، جبور عبد النور :المنهل، دار الآداب، بيروت، (دط)، 1983.
هانز جورج قدامير: طرق هيدغر.
نقلا عن عبد الرزاق الدواي: موت الأنسان، في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة للطباعة، بيروت (دط)، 2000.
الذات الإنسانية بصفتها الفاعلة والواعية المريدة نفوذها للسيطرة على الطبيعة لتحقيق خير البشرية وسعادتها التنظيم المحكم والمعقول للمجتمع
والسياسة من اجل حرية البشر...راجع، عبد الرزاق الدواي، موت الأنسان.
Alain Boutot : Haidegger,(puf) Edition Delta ,Paris ,3eme édition,1995 .
محمد محجوب :هيدغر ومسألة الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر، تونس، (دط)، 1999.
روديرجر بوبئر:الفلسفة الألمانية الحديثة، ترجمة، فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر، القاهرة(دط)، (دن).
جاك دريدا: الكتابة والإختلاف، ترجمة، كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، (ط2)، 2000، ص123.
مارتن هيدغر:السؤال عن الشيء، حول نظرية المبادئ الترنسندتالية عند كانط، ترجمة، إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة
لبنان، (ط1)، 2012.
والله يوفق الجميع
مفهوم الميتافيزيقا عند هيدغر
إنّ من الدعائم التي تقوم عليها الفلسفة عمومًا عبر تاريخها هو، المنطق والميتافيزيقا ونظرية المعرفة والقيّم.وبما أن الفلسفة هي من منشأ عقلي خالص، فقد عرفت تطورًا في المجال المنطقي والمعرفي. قد بلغ درجة رفيعة من درجات المعرفة والفكر، فالفيلسوف حينما يجمع بين طبيعة العقل الخالص وطبيعة العالم المادي، فتكون نتيجته إستخلاص مقولات لهذين الجانبين كي ينشأ بناءه الفلسفي لتفسير موضوعات الوجود.
ولهذا فإن دراستنا ستقودنا لتقصي أحد هذه الدعائم الفلسفية وهي"الميتافيزيقا" بمعناها العام أي طبيعة هذا المعنى عند مارتن هيدغر.
مفاهيم الميتافيزيقا وموضوعاتها ووظيفتها وطبيعتها ا
من خلال موسوعة لالاند الفلسفية، فإن هذا اللفظ أطلق على أحد مؤلفات أرسطو من خلال تصنيفاته المكتبية التي خصص جانبا منها عن موضوعات الميتافيزيقا.
ـ فتعريف لالاند يقوم على أنها هي :علم المبادئ العامة والعلل الأولى ويسمى الفلسفة الأولى أو العلم الإلهي، عند أرسطو والمدرسيين.
وفي تعريف آخر، فعند ديكارت:الميتافيزيقا هي معرفة الله والنفس.
أما عند كانط :هي مجموعة المعارف التي تجاوز نطاق التجربة وتستمد من العقل وحده
هذا عن معانيها التي جاءت في المعاجم الفلسفية، أما أصل كلمة ميتافيزيقا، فهو يوناني يتألف من لفظين:
الأولي : ميتا "ما بعد" و الثانية :فيزيقا "الطبيعة " لتصبح الكلمة بالعربية ، "ما بعد الطبيعة"؛ فهي تعني التعمق في البحث وراء الظواهر والنظرة الأولية والمتأصلة للموضوعات للحصول على الحقيقة التي لا تدركها الحواس، إنما هي داخل دائرة العقل الخالص المتأمل.
فالنشأة الأولى لعلم الميتافيزيقا تعود إلى أرسطو ؛فهذا العلم عنده يجيب عن تساؤلات غيبية ليس بمقدور العلوم المادية أن تجيب عنها من خلال التجربة، ونقصد العلوم الطبيعية . وقد تركزت موضوعات الميتافيزيقا حول الصفات العامة للوجود بما هو موجود. للوصول إلى نظرية عامة عن طبيعة هذا العالم، الذي هو من إهتمامات أرسطو في العالم الطبيعي.
ولكن بالرغم من دراسته الكلية إلا أنه تساءل عما يمكن معرفته عن هذا الموجود من المخلوقات الأخرى وهو فسح المجال للفكر للبحث، لإيجاد أنطولوجيا عامة تهتم بدراسة ما هو موجود، بصورة أكثر تجريدية وشاملة.بعيدا عن موضوعات العلوم الجزئية الطبيعية والكيمياء والبيولوجية والعلوم التجريبية عموما القائمة على الفعل، في حدوده الحسي والمادي.
أما العلوم الطبيعية فحينما تقدم تساؤلات عن بعض الظواهر، وتجيب عن حقيقتها في العالم المادي بطريق التجربة . مثال ذلك: في ظاهرة أن المعادن تتمدد بالحرارة. فإنه كلما توفرت نفس الشروط أعطت نفس النتائج؛ لذلك فكلما حصل الإنسان على أمثلة وشواهد جديدة ومؤيدة لذلك الموضوع إزدادت القضية وضوحا وهذا يعني إرتباطها الواقعي بالأمثلة والشواهد السابقة للظاهرة المراد الكشف عنها.
فهذه العلوم الجزئية تبحث عن كل ما هو واقعي في أجزاءه المختلفة للظواهر الذي لا تستطيع أن تتجاوزه، بعيدا عن كل ما هو كلي لهذا ركنت إلى الجزئيات والأفراد وملاحظة الأشياء الفردية بقصد الوصول إلى نتيجة تجمع وتلخص التساؤلات التي طرحت حول موضوع معين .
ولكن هناك تساؤلات تتوقف عندها هذه العلوم في بعض الظواهر، ولا تستطيع الإجابة عنها فهنا يأتي مهمة الميتافيزيقا لتحل هذه المشكلات، وتقوم بدورها الذي عجزت عنه العلوم الجزئية.
ويمكن تحديد مفهومها في كونها لا تبحث عن ما هو واقعي بمعناه الحسي، إنما هي تبحث عن الحقيقة، وتستهدف الوجود الحقيقي الذي لا يظهره العالم المادي، من خلال ما تنتهجه العلوم التي تعتمد على تفسير الملاحظة والتجربة، للوصول إلى القانون العلمي في عالمه الجزئي، فهذا الشرط ينطبق على الموضوعات القائمة بالفعل، وخاصة للإدراك الحسي أو المادي؛ إذن فالمعرفة السائدة في مجال العلوم الدقيقة معرفة موضوعاتية، تكون الحقيقة فيها تابعة للمسافة الفاصلة بين المؤول وموضوعة، حقيقة يمكن إخضاعها للمراقبة. أما موضوعات الميتافيزيقا لا تخضع لشرط قبلي أو وجود مادي؛ إنما تشترط وجود عقل، إن كانت لا تنكر الواقع المادي للظاهرة
فالميتافيزيقا في فلسفة أرسطو، هي وضعها في نطاق العالم المادي الطبيعي للموجودات وتجيب عن تساؤلات ما عجز عنه العلم . في حين أن أفلاطون توصل إلى فكرة الموجودات وسمّاها صورا؛أي وضع تفسير لطبيعة الوجود وعلاقته بالأفكار وسط تجريدات العقل، بعيدا عن العالم المحسوس في نظرية المثل التي تعرضنا إليها سابقا من المنظور الأفلاطوني.
وتأسيسا مما تقدم عن معنى مصطلح الميتافيزيقا، وعن موضوعاتها ووظيفتها، لنأتي بعدها إلى تحديد طبيعتها ؛ على أنها العلم الذي يهدف إلى دراسة أعم المبادئ، وترتكز حول تعميق معنى الوجود الحقيقي والوصول إلى الحقيقة النهائية، وكشف أبعاد ومفاهيم جديدة في الحياة، والوقوف على الوجود العام، بدل الوجود الجزئي كما في العلوم الأخرى وبخاصة العلوم الطبيعية .
إذن ومن هذه المفاهيم يتبين لنا أن الميتافيزيقا تتجه إلى المبادئ الكلية العامة وتتجاوز عن كل ما هو محدود أو متناهي من الموضوعات ؛ لأنه هو حاضر وقائم بالفعل، ومن ثم فهو جزئي.
ومن طبيعة الميتافيزيقا أيضا أنها تميز بين إشكاليتين : أولا :عن طبيعة الظاهرة، أي ما لم تدركه الحواس. والإشكالية الثانية:هي الحقيقة التي هي من موضوعات التي تخفيها الميتافيزيقا فيما وراء هذا العالم الظاهري ؛أي تبحث عن الوجود الحقيقي وراء الظاهرة . ومثال عن بعض الأسئلة التي تجيب عنها الميتافيزيقا:
ماذا نقصد بالوجود الحقيقي مقابل الظاهر؟. ـ ماذا نعني بقولنا حقيقي ؟ ـ هل أصل الوجود يعود لأصل واحد أو الكثرة ؟ ـ ما طبيعة الألوهية وما علاقته بالوجود؟. والأسئلة كثيرة ولا نستطيع حصرها عن موضوعات ومسائل خارج عن إطارها الظاهري تتجاوز إدراكنا الحسي، فلا يمكننا إلا أن نحيلها إلى الميتافيزيقا لتجيب عليها.
هذا عن مفهوم الميتافيزيقا وطبيعتها. لنطرح سؤالا آخر : كيف كانت مساءلة هيدغر النقدية لمعنى الميتافيزيقا؟ وما هي الإرهاصات الفكرية التي بنى عليها هذا النقد؟.
ـالنفوذ النظري للفلسفة النقدية وتصور مارتن هيدغر لماهية الميتافيزيقا
في يوم 24 يوليو 1929 بجامعة فرايبورغ، كانت المحاضرة الإفتتاحية الأولى لهيدغر، بمناسبة حصوله على منصب الأستاذية بالجامعة، في أن تكون المحاضرة الأولى مفتوحة أمام الجميع من أساتذة وطلبة كل الكليات والشعب، وهذا يعني أن هناك أقطاب علمية متعددة غير المنشغلين بالفلسفة فقط. وهي فرصة لهيدغر أن يشتغل عليها لتمرير خطابه ومشاركة مختلف المفكرين، ولاسيما العلمية منها، لكي يبين أن كل العلوم تتوقف صراحة أو ضمنيا على الميتافيزيقا على الرغم من أنها تتخذ في معظم الأحيان موقفا سلبيا منها .
- فما هو هدف هيدغر من إعداد هذه الوثيقة ؟.
أولا وقبل أن نبدأ في الإجابة، سنلقي نظرة وجيزة عن الإنتقادات التي دارت حول الميتافيزيقا في الفترة الحديثة والمعاصرة. فالوشمات التي دارت حول الميتافيزيقا كثيرة ومن مختلف الإتجاهات الفكرية، فمن خلال دافيد هيوم David Hume (17711-1776) و كانط 1804-1724) Kant) ونقديتهم للميتافيزيقا، وبالرغم من كل هذا التأمل الذي إستمر على أشده في القرن التاسع عشر، حيث وضعت علامة إستفهام كبيرة عن هذا البحث فقد أصبحت ميتافيزيقا وصفية أكثر منها تأصيلية. تفضي بوصف أكثر المقولات عمومية التي يفهم الوجود بواسطتها زد على هذه الإرهاصات فقد تنوعت المرويات التراثية الكبرى والمدونات الفكرية . فإلتزام كانط بضرورة نقد العقل الخالص، ولئن أقر هيجل بنهاية "الميتافيزيقا الجوهر" معلنا عن إكتمال "ميتافيزيقا الذات". فقد ظلت مع ذلك أسباب ومعضلة الميتافيزيقا مرابطة في قلب الخطاب الفلسفي الغربي.
ومن هذا التواصل بين المدارس والأنساق الفلسفية، والإشكالات التأسيسية وتعدد المعطيات النظرية، والتأصيلية التي تحكم الجدل الفلسفي للفكر الغربي .كانت الميتافيزيقا هي المتن الذي تدور عليه نقاشات هذه المدارس بين التهميش والتأصيل في المعرفة. فكيف ذلك؟
و كانط يقول عن المعرفة :" تبدأ كل معرفتنا مع التجربة و لا ريب في ذلك البتة، لأن قدرتنا المعرفية لن تستيقظ إلى العمل إن لم يتم ذلك من خلال موضوعات تصدم حواسنا فتسبب من جهة حدوث التصورات تلقائيا، وتحرك من جهة أخرى، نشاط الفهم عندنا إلى مقارنتها، و ربطها أو فصلها وبالتالي إلى تحويل خام الإنطباعات الحسية إلى معرفة بالموضوعات تسمى التجربة إذن لا تتقدم أي معرفة عندنا زمنيا بل معها تبدأ جميعا ".
لذلك كان كانط يصوغ للمعرفة بين التجربة والصور القبلية الموجودة في الذهن في آنية واحدة .وما عجز عنه الحس أو التجربة في الموضوعات، يؤول إلى الفهم ؛أي إلى التفسير الميتافيزيقي الذي يصطدم الفكر عندها لإخضاعها للتجربة، في تفكيك لنظرية المعرفة في تلك الفترة عند كانط من خلال تصوره أن حقيقة الوجود ماهو إلا أحد مقولات العقل .
هذا عن كانط، أما المشروع النيتشوي في تحطيم نرجسية الفكر الغربي، وتقويض كل القيم الثقافية السائدة ؛أي هدم الشكل الثقافي داخل الحضارة الغربية بما فيها الفلسفات الكلاسيكية الكبرى.وكذا النصوص المقدّسة للمسيحية، فعدمية نيتشة Friedrich Neitche (1711-1776)هي تقويضDestruction للقيم أولًا بما فيها الميتافيزيقا.
فيرى بأنه:" ليس عبثا إذ أن أكون قد دفنت اليوم السنة الرابعة والأربعين من عمري فقد حق لي أن أدفنها، ما كان جديرا بالحياة فيها تم إنقاذه وغدا خالدا .تقويض كل القيمّ ". كتقويض للقيم الغربية السائدة لأخلاق العبيد، وبناء أسس جديدة، تعبّر عن إمكانية بناء قيم جديدة تقوم على أخلاق السادة والقوة، وتعبر عن إرادة الإنسان الأعلى فيورد نيتشة قائلا:"...فقد تعهّدنا بكل قوانا نحن الأخلاقيين بأن نبطل مفهوم الخطأ أو مفهوم العقاب وأن نطهر علم النفس، التاريخ، الطبيعة، المؤسسات والقوانين الاجتماعية منها، فإنه لا يوجد في نظرنا خصوم أشد عزما من علماء اللاهوت الذين ما يزالون بمفهومهم عن "النظام الأخلاقي الكوني يعدون براءة الصيرورة بـ "العقاب " و " الخطأ" إن المسيحية هي ميتافيزيقا الجلاد".
فالمسيحية وقوانينها خلفت أخلاق العبيد، وكرّست هذه الأفكار على الإنسان الغربي وتركته حبيس هذه الأوهام، وجعلت من هذه القوانين دستورا إلهيا، بإسم النظام الكوني الذي أراد نيتش تحطيمه كما تحطم الأصنام في المعابد، فهو تقويض ميتافيزيقا كل النصوص الدينية السائدة في عصره.
أما في المجال العلمي فقد رأينا سابقا كيف تنظر العلوم الطبيعية للميتافيزيقا، قد رسخ هذا التهميش أكثر في العلوم التجريبية والرياضية، من خلال دائرة فيينا أو ما تسمى بالحركة الوضعية المنطقية، التي كانت بجامعة فيينا برئاسة بعض الأساتذة المنشغلين بمنطق العلوم برئاسة ارنست ماخ Ernest Mach (1838-1916) و إزدهرت هذه الحركة وفي عام1922م، حيث تصدر موريس شليك كرسي الأستاذية للعلوم الاستقرائية في ذات الجامعة وألتفت حوله نخبة من الأتباع، لمناقشة المشكلات الفلسفية والتطور الفكري، في إتجاهها العلمي منها الرياضيات والفيزياء...فتجنشتين يفسر هدف الفلسفة من وجهة نظره في الإيضاح المنطقي لأفكاره :"إن الفلسفة ليست نظرية وإنما هي نشاط فعال ..ونتيجة الفلسفة ليست عدد من القضايا الفلسفية، و إنما توضيح القضايا فالفلسفة ينبغي أن توضح الأفكار.
هذه بعض الرسائل التي نوقشت داخل دائرة فيينا من مجموع الرسائل المطروحة في سنة 1921م. والتي قوبلت الكثير منها ورفض البعض .التي تعد نقطة تحول هامة في تاريخ الفلسفة الغربية.وفي عام 1929م أصدرت دائرة فيينا مؤلفان بعنوان "حلقة فيينا :تصورها العلمي للعالم"وفي هذا المؤلف أعلنت الجماعة عن أهدافها ومنهجها، فقد تمثل الهدف الرئيس منها في توحيد العلوم الجزئية، وتوحيد معارف الإنسان، اما استخدام التحليل المنطقي عند أعضاءها فمن بين مسلماته؛استبعاد القضايا الميتافيزيقية من العلوم الطبيعية والرياضيات والمعرفة الإنسانية بوجه عام.
ومن هذه المنعطفات الفكرية بشقيها الفلسفي أو العلمي، تبرز إشكالية الميتافيزيقا التي كانت مخاض عسير عرفته الفلسفة الحديثة، ولاسيما النسقية منها، وفلسفة القرن التاسع عشر. بين الإستبعاد والتقويض والقبول.هي مناحي آل إليها الفكر الغربي الذي لم يسعفه الحظ في مساءلة التفكير، لأصل السؤال عن الميتافيزيقا، وقد يكون إقتلعه من جذوره وتراثه الفكري في رؤية هيدغر.
لنطرح سؤالا آخر عن موقف الفيلسوف الوجودي و هيدغر أبرز أقطابها عن موقفهم من الميتافيزيقا في نظرتهم للوجود و بخصيصه، الوجود الإنساني. فما هو موقف الفلسفة الوجودية من الميتافيزيقا؟
لكي نجيب عن هذا السؤال نحيل إلي سؤال مفاهيمي آخر، ما هي نظرة الفيلسوف الوجودي للوجود البشري؟
تنطلق الفلسفة الوجودية من الواقع الإنساني، في أن وجوده كان سابقا عن ماهيته ماذا نعني بهذا القول؟.
يرى هيدغر أن :"إنني أعني أن الإنسان يوجد أولا ثم يتعرف إلى نفسه، ويحتك بالعالم الخارجي فتكون له صفاته ويختار لنفسه أشياء هي التي تحدده فإذا لم يكن للإنسان في بداية حياته صفات محددة، فذلك لأنه قد بدأ من الصفر.
فالمفهوم الهيدغري يعلي من أسبقية الوجود الإنساني عن ماهيته، فالإنسان يحدد مصيره من خلال إمكاناته .أما عن جان بول سارترJean Paul Sartre(1905-1980م) فيرى:" بداية، أنني أفهم الفلسفة الوجودية كمذهب يجعل الحياة كمذهب يجعل الحياة الإنسانية ممكنة، مذهب يؤكد آن كل حقيقة وكل عمل، يستلزمان بيئة معينة و ذاتُا إنسانية".
في حين كارل يسبرز Carl Jacpers(1883-1969 م)، فيقول : " إن الإنسان هو الحقيقة الأساسية التي أستطيع إدراكها في العالم : فهو يتصف بالحضور والقرب والإمتلاء والحياة وفي الإنسان و به وحده كل ممكن واقعا، لهذا فإن إهمال الوجود الإنساني آو تغافله .معناه الغرق في العدم".
و من هذه الآراء الفلسفية نرى أن المنطلق الأساسي للوجود البشري؛ هو أن وجود الإنسان. ليس سوى ما يصنعه هو بنفسه هذا هو المبدأ الأول من مبادئ الوجودية.
لنعود للإجابة عن سؤال نظرة الفيلسوف الوجودي للميتافيزيقا. كما رأينا مسبقا أن الوجود الإنساني هو الأسبق عن ماهيته ؛فالوجودية من هذا المنطلق تنكر قدرة الفكر على إدراك الحقائق الواقعية العينية للوجود البشري وتخضعها إلى نسق عقلاني شامل، إلا أنهم لا يرفضون كل الميتافيزيقا ،لان أهم موضوعاتهم الرئيسية هو الإنسان. وبالتالي سيؤدي الأمر إلى إثارة طرح نوع من الأسئلة الميتافيزيقية ،لأن هذا الوجود يتجاوز التجربة العلمية .فالسؤال عن العالم le monde والتاريخ والزمان. وعلاقة الإنسان بهذه الموضوعات ومن هنا يظهر لنا مصطلح الأنطولوجيا أمام مصطلح الميتافيزيقا.
- لنتساءل مرة أخرى عن العلاقة المفاهيمية بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا عند فلاسفة الوجودية؟
الميتافيزيقا من منظور هيدغر:" تبحث في وجود الموجود وهي تسأل أولًا عن الموجود بما هو موجود، وفي هذه الحالة تكون "ميتافيزيقا عامة "أو انطولوجيا . وهي ثانيا تبحث في الوجود الذي يجعل من موجود معين موجودا، وحينئذ تسمى "ميتافيزيقا خاصة"بيد أن الميتافيزيقا لا تبحث في الوجود بما هو موجود، إلا بعد أن تبحث في وجود موجود ممتاز هو في الفلسفات الدينية:الله وفي فلسفة هيدغر والوجودية هو:الإنسان".
هذا عن الميتافيزيقا. أما الأنطولوجيا كعلم هي"علم الوجود وقسم من الفلسفة، وهو يبحث في الموجود في ذاته مستقى عن أحواله وظواهره، أو هو علم الموجود من حيث علم، هو موجود(أرسطو). فالأنطولوجي هو المنسوب إلى الأنطولوجيا وهو المتعلق بحقيقة الوجود لا بظواهر الوجود.
لنخلص إلى الفرق بين الأنطولوجيا والميتافيزيقا : أن الأولى تريد أن تترك الظواهر و تغوص على أعماق الوجود للكشف عن الشيء في ذاته، على حين أن الميتافيزيقا تقتصر على تحديد الجوانب القبلية في كل نوع من أنواع المعرفة." إذن فالأنطولوجيا هي علم الوجود بما هو عليه، والميتافيزيقا تتخصص في جانب من هذا الوجود.
فالميتافيزيقا عند الفلسفة الوجودية تنطلق من الإنسان في ذاته، لدى نجد من الفلاسفة الذين يستبدلون كلمة ميتافيزيقا بالأنطولوجيا ثم يشرعون في البحث شبيه بالميتافيزيقا .
إذن فهيدغر يؤكد على مسألة الإختلاف الأنطولوجي ontologique La différence الذي يفصل في مسألة الوجود والموجود في تفكيكه للميتافيزيقا التقليدية لنطرح سؤالا آخر يعترض البحث.
- كيف كانت نظرة هيدغر لميتافيزيقا الإنسان أو (الذات) ؟ خاصة في الفترة الحديثة؟
نحن نعرف أن الفلسفة الغربية تستمد عناصرها ومقومات خطابها من الإشادة بالإنسان وبإرادته، تنظر إلى أفعال البشر و الأحداث التاريخية، كأنها تنبثق من نوايا مقاصد الذات، بمعنى أن الذات هي لوحدها صاحبة لكل ما يحدث، وفي هذا المعنى أن الوجود منسي.
ومن هذه الزاوية فإن النزعة الإنسانية الحديثة إرتفعت بالإنسان إلى مرتبة السيد المهيمن الذي يخضع العالم في فكره عن طريق التمثل، وتلك الذات التي نصبت نفسها في مركز العالم بإعتباره موضوعا لمعارفها أدى بالإنسانية إلى عصر السيطرة على الوجود بكليته بنظرتها الموضوعية للواقع، أو ما يسميه هيدغر بعصر "التقنية" technique أو المصطلح الحالي" التكنولوجيا".
و ما لعبته التقنية في هذا التيه والنسيان للفكر الغربي وحجبت وجوده من الوجود. فأصبحت التقنية ميتافيزيقا حتى في عصرنا اليوم "...الذي تطور برعاية الحضارة التكنولوجية، طريقة نسيان الوجود الأكثر إفراطا . وبالطريقة التي وجهت بها الميتافيزيقا نفسها ضمن وجود الموجودات. في الماهية، بحيث أسيئ فهم طبيعة الموجودة المنفتح داخل الوجود. تخترق التكنولوجيا اليوم أبعد مراكز المؤسسات العالمية...".
من خلال نظرة هيدغر للنزعة الإنسانية في الفترة الحديثة وتصورها للعالم الذي أصبح الخاصية الرئيسية التي تطبعه، في أن الوجود يتعين من خلال وبواسطة تمثل الإنسان، بحيث لم يعد موجودا حقا، إلا بقدر ما يتحدد من طرف الفرد في التمثل، أين أصبح هذا الأخير هو الكيفية الوحيدة للإدراك الأشياء .
فهذا التفكير المغلق la pensée clause همش من طموحات الإنسان وإنجازاته. فنظرة هيدغر للنزعة الإنسانية الحديثة، ما هي إلا ميتافيزيقا . وتصور وجودية هيدغر للإنسان كإنفتاح وكشف وحضور على الوجود، وكمجال لإنارته وكوسيط الذي عن طريقه تنار الأشياء بنور الوجود. بأن أنطولوجيا الأساسية fondamental ontologie تخص الإنسان بمكانة متميزة .التي سنتعرض إليها بالتفصيل في دراستنا "لمفهوم الكينونة عند هيدغر.
فما مفهوم النزعة الإنسانية عند هيدغر؟
مفهوم النزعة الإنسانية عند هيدغر يعرّفها في نص عام 1938م بأنها : "ذلك التأويل الفلسفي للإنسان، الذي يفسر ويقيم كلية الموجود انطلاقا من الإنسان، وفي إتجاه الإنسان ".
وفي نص آخر كتبه هيدغر في سنة 1940م : " بأنها هي تلك الفلسفة التي تضع الإنسان في مركز الكون عن قصد ووعي و تعتقد، من خلال تأويلات معينة للوجود، في إمكانية تحرير قدراته، وتأمين حياته، و الإطمئنان إلى مصيره، وتطوير وتنمية طاقاته الإبداعية ". وفي تعريف آخر له : "... في النزعة الإنسانية...يتم دائما الدوران في ذلك الإنسان ...في مدارات يتسع مداها بإستمرار".
وفي قراءة أخرى لهيدغر وفي نفس السياق 1946م :" بأن كل تعيين أو تعريف لماهية الإنسان لاينطلق من حقيقة الوجود ويتناساها، فهو بالتأكيد نزعة إنسانية وميتافيزيقا".
ومن هذه القراءات لهيدغر عن مفهوم النزعة الإنسانية التقليدية دون تطرقها للوجود، ما هي إلا ميتافيزيقا ويقول هيدغر معلقا عن مرحلة الأوج التي أدركتها "الميتافيزيقا الذاتية"، أي الذات الإنسانية .أنه إختفت كل الغايات لكي لا تبقى هناك إلا إرادة الهيمنة، من أجل الهيمنة:"...إن إرادة الإرادة تنفي كل غاية في حد ذاتها، ولا تسمح بأية غاية إلا بإعتبارها وسيلة ".
- لنطرح سؤالا ملحا آخر.لماذا تبقى النزعة الإنسانية مقدر عليها الإرتباط بأواصر الميتافيزيقا عند هيدغر؟.
يورد هيدغر معقبًا:"لأنها لا تطرح السؤال المتعلق بحقيقة الوجود، بل ولأنها تحول دون طرحه، وتصرعلى نسيان الوجود، ولا تفكر في الإختلاف الأنطولوجي بين الوجود، والموجود وفضلا عن ذلك كله لأنها مجموعة من الخطابات تبرز وتوجه الفعل البشري وتحاول باستمرار إنتاج صيغ جديدة للجواب عن السؤال "ما العمل" ؟".
إذن فالفكر الغربي دخل متاهة النسيان للسؤال عن الوجود، ليتحول السؤال إلى العالم المادي إنطلاقا لما يقدمه الإنسان من خلال أفعاله وإنجازاته وهذا نتيجة للخطابات الموجهة للفعل البشري وعدم تمييزه بين السياق الأنطولوجي للوجود، ومسافة إختلافه مع أنطولوجيا الإنسان الذي أحدثته ميتافيزيقا التقنية . حيث يقول هيدغر عن تداعياتها :" منذ فترة قلت: أن قدرات الإنسان قد فككت مشاركته وخطابه".
فهذه التقنية إختماوالت هذا الوجود الإنساني، على هامش الموضوعات وأدخلته إلى عالم النسيان، وأصبحت المعرفة تعبر عن القوة.
ومن هذه التطورات التي عرفتها الميتافيزيقا، كما رأينا سابقا، فإن الميتافيزيقا ما هي إلا إستحضارا يظل في جوهره إمتدادا على أرضية من الحركة و الإنتقال مابين الحاضر والماضي في الفكر الغربي، بما حضيت به من الجدة ونقصد التجديد الثوري بإعتباره ممارسة في سياقه الفلسفي عبر تطور الفكر الغربي في جانبه المنطقي والنفسي وكذا الميتافيزيقي الذي إستقاه هيدغر من قراءته لتاريخ الأنطولوجيا الغربية.
تفكيك الأنطولوجيا التقليدية لميتافيزيقا الوجود عند هيدغر
لقد عمل النص الهيدغري le travail du texte عن الأنطولوجيا مركز إهتمامه معظم حياته الأكاديمية، فتنظيره للموجود البشري هو الطريق للوصول إلى مشكلة معنى الوجود ولا يكاد يميز بين مصطلح الميتافيزيقا و الأنطولوجيا في كتاباته المبكرة ففي كتابه"ما الميتافيزيقا".فمثلا نجده يتخذ مشكلة العدم هو توضيحا لمشكلة ميتافيزيقية وإرتباطها الذي لا ينفصل عن مشكلة الوجود.التي سنورد لها جانبا في هذا المبحث. فتعمق هيدغر في البحث والتفكيك إذ أصبح يميز بين البحث الأنطولوجي والميتافيزيقي ؛ فهذه الأخيرة هي فهم للموجودات بدلًا من الوجود بما هو كذلك عند هيدغر .
وكانت قراءة هيدغر من خلال خطابه، هو أن يضع الفكر في موضع التساؤل التاريخي ذلك التنظيم الصارم الذي يقوم به المنطق التقليدي الذي ظل ساريا منذ أفلاطون وأرسطو، يدا بيد مع الميتافيزيقا الكلاسيكية للفلسفات الكبرى، ولهذا السبب كان لابد من هيدغر أن يلجأ إلى ثورية في أشكال التعبير، تختلف عن اللغة الرسمية للفلسفة الكلاسيكية فهو يرى أن:" أن الميتافيزيقا التي شكلت الفكر الأروبي حتى ذلك العصر الذي بدأ به العلم الحديث والتكنولوجيا يبسطان نفوذهما هي ظاهرة تاريخية للفلسفة الغربية.
فهيدغر لا يفكر في الميتافيزيقا بإعتبارها مجرد بحث فلسفي مضافا إلى بقية المباحث التي تتخذ بالمفهوم الأرسطي؛علم الموجود بما هو موجود، أو علم المبادئ العلل الأولى بل الميتافيزيقا عنده تغوص في الفكر الأفلاطوني و النيتشوي بكليته في مبحث الوجود. فهي منظور ورؤية للعالم بمنحى معين، تشمل منذ البدء مسلمات النسق الذي فكر به الغرب في إشكاليات، العالم، الله...من حيث هي حضورا متناسيا الإفلات الأنطولوجي بين الموجود و الوجود.
من نص محاضرة هيدغر التي ألقاها في جامعة فرايبورغ بعنوان"ما الميتافيزيقا" فهو يطرح سؤالا محدد أراد مشاركة العلوم لهذا الإشكال ؛ فالعلوم تفكر في عملها بالكائن فقط وفيما عداه لاشيء، أي العدم وهذا المقصد عند هيدغر الذي أراد إن يطرحه على العلم – إيزاء موقفها السلبي من الميتافيزيقا كما أدرجنا سابقا، فالعلم لا يعترف بالعدم لأنه ليس موضوعا، ولا كائنا ولكن العلم سينجد إليه عندما يفكر في ذاته.
- إذا سلمنا بهذا الأمر فبكيف يتم ذلك في نظر هيدغر؟.
كما قلنا سابقا أن الميتافيزيقا تشمل تأويل الوجود لفهم الموجود، بما في ذلك العلوم التي تدرس الموجودات، الطبيعة، التاريخ، الإنسان...فهذه العلوم تفترض موضوعا لدراستها كالإنسان مثلا، ولكن لا تفسر ماهيته، كما يدرس التاريخ الأحداث والوقائع التاريخية ولكن لا يكتب عن ماهية التاريخ، ونفس الشيء بالنسبة للفيزياء التي لا تفسر ماهية المادة. فهذه العلوم تفترض موضوعا-موجودا - تشتغل عليه لتنسج عليه مسلماتها، دون التعرض للموجود في ذاته .
مما يجعلها تفكر في أفق الميتافيزيقا ؛ونقصد إن هذه العلوم تنسج لغة ميتافيزيقية ظاهرية تستمد منها كل وصفها للظاهرة، كالإستدلال الرياضي مثلا المستند على البداهة الديكارتية . لهذا يعلن هيدغر بصرامة ": أن العلم لا يفكر".كنقد فلسفي للحداثة modernité laالغربية الذي أخذ حيزا محوريا في المدونة الهيدغرية.
ومن هنا فهيدغر يحاول أن يحلل الفكر الغربي خلف المسلمات الفكرية النسقية الذي ميز الميتافيزيقا منذ أفلاطون، ففكرة النسق هي السمة الأساسية لكل ميتافيزيقا. وكذلك فهيدغر أراد أن ينقد كل من مفهوم الذات والأحكام الأنطولوجية المسبقة في مفهوم أرسطو عن الوجود والجوهر، فتت في النهاية فكرة التأمل المتعالي. أي فك القيود المنطقية التي كبّلت به الفلسفات الكبرى في السؤال عن الوجود الذي دخل طي النسيان Oubli أي إستعادة طرح هذا الإشكال وشروط تقويضه.
ويقول جاك دريداJaque derrida(1930، 2004م) بهذا الصدد" إن ما يطرحه هيدغر على الميتافيزيقا إنما هو سؤال الوجود ومعه سؤال الحقيقة والمعنى واللوغوس، أن التأمل غير المنقطع لهذا السؤال لا يعيد "ترميم"ضمانات بل بالعكس ينفيها نحو عمقها الخاص وهذا مادام يتعين بمعنى الوجود. و ما لعبته التقنية في هذا التيه والنسيان للفكر الغربي وحجبت وجوده من الوجود. فأصبحت التقنية ميتافيزيقا . "...الذي تطور برعاية الحضارة التكنولوجيا، طريقة نسيان الوجود الأكثر إفراطا .وبالطريقة التي وجهت بها الميتافيزيقا نفسها ضمن وجود الموجودات في الماهية..." فهيدغر يطرق باب الحوار مع الفكر الغربي بإشكالاته والمشاركة معه محنة السؤال.
يحاول هيدغر في مسار المحاضرة أن يبرز كيف أن تجربة القلق angoisse تكشف عن العدم أو اللاشيء وأن هذا الإنكشاف للاشيء بصفته منتميا للكون، هو أساس حريتنا وعلاقتنا بالكائن وبالتالي شرط إمكانية العلم ذاته. فالعدم ينتمي لماهية الكون؛ بمعنى أكثر أن اللاشيء يتجلى وينكشف يمكن للعلم إن يجعل الكائن ذاته موضوعا للبحث، إنطلاقا من هذه المسلمة فإن العلم إستمد وجوده من الميتافيزيقا .
- فما المقصود بالشيء واللاشيء عند هيدغر؟
يرى هيدغر أن الشيء هو: ما يهتم به العلم سواء أكان ظاهرة أو واقعة أو علاقة العلم يعطي الكلمة الأولى والأخيرة للشيء chose الذي يهتم به، إنه يريد حسب هيدغر، أن يرى الشيء كما يظهر هو ذاته من تلقاء ذاته .
اللاشيء أو العدم : تستعمل هاتين الكلمتين بالمعنى نفسه و يختار هيدغر في كل مرة الكلمة الأكثر مناسبة للسياق اللغوي.
هيدغر يتخطى النظرة العلمية لمفهوم الشيء، ويتعمق إلى ماهية الشيء ذاته، التي تكمن في اللاشيء؛ فقد أتضح الآن أن السؤال عن الشيء، بأن هذه الكينونة العلمية ليست ممكنة إلا إذا تعرضت أولا للاشيء، التي لا يقر بها العلم.فالميتافيزيقا تعبر عن وجود العلم إذا إستطاع هذا الأخير أن ينال ويجدد مهمته الأساسية التي لا تكمن في جميع المعارف وترتيبها، بل في فتح المجال الكامل. أي للحقيقة الطبيعية والتاريخ ومختلف العلوم بكليتها، في إطارها الداخلي الخاص بها لتتعمق بعد ذلك بالموضوعات الخارجية متجاوزة مجالها الأساسي.
ويضيف هيدغر في نص خطابه ": لا يمكن أن يطرح أي سؤال ميتافيزيقي إلا بحيث يكون المتسائل – بما هو كذلك – حاضرا هو أيضا في السؤال الميتافيزيقي في كليته إنطلاقا من الوضعية الأساسية المتسائلة إنما نسأل هنا والآن من أجلنا نحن وتتحد كينونتنا . إذا كان العلم الحق على حق فليس هناك إلا أمر واحد، في أن العلم لا يبالي باللاشيء، هذا في النهاية هو الموقف العلمي الصارم عن اللاشيء . عندما يحاول أن يعبر عن ماهيته الخاصة يستنجد باللاشيء، أنه يستعمل ما يرفضه، أية ماهية منشطرة التي تكشف هنا ؟ ".
فمساءلة هيدغر للعلم في أن الميتافيزيقا تتحدد كتساؤل فيما وراء الكائن ؛ بمعنى كتفكير يتخطاه ؛ فهذا يعني إنها تنتمي لبنية وجود الإنسان، وأنها المظهر الأساسي للكينونة ولذلك يتبين توقف العلوم كلها على الميتافيزيقا هذا يعني أن الميتافيزيقا تنتمي للطبيعة الكائن.
ففي هذا الخطاب الهيدغري، من خلال وضع سؤال عن الشيء، فهو يسأل عن الذي مازال يحدث حتى الآن، عن توجه التفكير الغربي وتصرفه عن التصور الأساسي التاريخي الذي يحمله اليوم ويحدد كينونته، عن ماهية الفكر الحديث . فنظرية المعرفة ما هي الا ميتافيزيقا عند هيدغر الملائمة للعصر الحديث ؛ أي العصر الذي أصبح يبحث عن مبادئ الكائن في الذات البشرية وعرض مبادئها فهي لم تتخلى عن السؤال الميتافيزيقي عن وجود الكائن، بل أعادت تأسيس جديدة وبصياغة متجددة بنمطية العصر الحديث التي هي فيه.
وهيدغر يعطي لكلمة ميتافيزيقا معنى عاما فضفاضا تتجاوز المعاني المتعارف عليها سواء في سياقها التاريخي أو في القواميس فالتفكيك الهيدغري للميتافيزيقا، أصبحت تضم مجموع مظاهر الفكر الغربي بدون اي تمييز الفلسفة والفنون والعلوم والنظريات السياسية والأخلاقية... فكل هذه المعارف تشترك جميعهم في خطيئة "نسيان الوجود."
ومنطلق التساءل عن العدم أو اللاشيء هو الأفق الميتافيزيقي الذي يعبر به الكائن إلى الوجود بكليته. والذي يكسر سيادة المنطق لتفتح أفق الفهم في ميدان الأسئلة عن العدم . ليوضح هيدغر ذلك :"وليس العدم موضوعا أو كائنا،و لا يرد العدم منعماوالا ولا بجانب الكائن، بحيث يتعلق به إن جاز التعبير، فالعدم هو ما يسمح بتجلي الكائن بما هو كذلك للكينونة البشرية".
فالعلم لا يعترف بالعدم لأنه ليس موضوعا و لا كائنا كما أوردنا سابقا، ولكنه يستند إليه وكذلك فهو يرفضه باعتباره ما لا وجود له. والمنطق الذي هو في نظر هيدغر التأويل التقليدي للتفكير الغربي.فنص محاضرة " ما الميتافزيقا" هو بمثابة مساءلة ثورية لفك القيود المنطقية التي كبلت بها المرويات التراثية الكبرى، في سؤالها عن الوجود وتقويض هذا النسيان، وتنظير مجدد للميتافيزيقا على متن مظاهر الفكر الغربي بكل أشكاله .
في تجاوز الكائن لكينونته، ليورد هيدغر مؤكدا ": أن تخطي الكائن يحدث في ماهية الكينونة، وهذا التخطي هو الميتافيزيقا ذاتها، وهذا يعني أن الميتافيزيقا تنتمي للطبيعة البشرية فالميتافيزيقا هي الحدث الأساسي في الكينونة، أنها الكينونة ذاتها (...) وبهذا لا تبلغ صرامة أي علم جدية الميتافيزيقا، ولا يمكننا أبدا أن نقيس الفلسفة بمقياس فكرة العلم".
المصادر والمراجع حسب التحليل
اندريه لالأند:موسوعة لالأند الفلسفية، (ج1).
إبراهيم مذكور :المعجم الفلسفي، مجمع اللغة العربية، القاهرة، (دط) ة1983.
محمد توفيق الضوي:دراسات في الميتافيزيقا، ، دار الثقافة العلمية، الإسكندرية، (دط)، 1999.
محمد باقر الصدر:الأسس المنطقية للإستقراء، دار التعارف للمطبوعات، لبنان، (ط5)، 1986.
علي عبد المعطي محمد:المنطق ومناهج البحث العلمي، في العلوم الرياضية والطبيعية، دار المعرفة، الإسكندرية، (ط2)، 2004.
جان غراندان : المنعرج الهرمينوطيقي للفينومينولوجيا، ترجمة، عمر مهيبل، دار الإختلاف، بيروت، (ط1)، 2007.
مارتن هيدغر: كتابات أساسية، ترجمة، إسماعيل المصدق، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، (ط2)، 2003، (ج2).
يقول قدامير واصفا أستاذه هيدغر: "أما طريقته في محاضراته فهي تمتاز بتلك الجدية المثيرة والغاضبة تقريبا التي يغامر فيها فكره، وتلك الطريقة التي كان ينظر فيها من طرف عينيه عبر نافذة القاعة وعيناه التي تمسحان جمهوره والطريقة التي يندفع فيها صوته إلى الحد الأعلى من الإثارة .ليس لهيدغر طريق واحد، بل عدة طرق . وعندما نظر هيدغر في ما أنجزه، وعندما عزم على كتابة مدخل لأعماله الكاملة التي أشرف عليها بنفسه، إختار شعارا لهذه الأعمال وهو "طرق وليس أعمال".
عبد الله المطيري:طرق هيدغر غادامير قارئا أستاذه، جريدة الرياض، العدد14444، الخميس 10-يناير2008.
هيفاء النكيس:في إستعادة أو تعديل المشروعات الفلسفية، تقديم، علي عبود المحمداوي، آخرون، دار الإختلاف،، لبنان (دط)، 2013.
إيمانويل كانط:نقد العقل المحض، ترجمة، موسى وهبة، مركز الأنماء القومي، لبنان، (دط)، (دن).
فريديك نيتشة:هذا هو الأنسان، ترجمة، علي مصباح، منشورات الجمل، (دط)، (دن)
فريديك نيتشة:أفول الأصنام، ترجمة حسان بورقية، محمد الناجي، إفريقيا الشرق، القاهرة، (ط1)، 1996.
كارل بوبر:منطق الكشف العلمي، ترجمة، ماهر عبد القادر محمد علي، دار النهضة العربية للطباعة، بيروت، (دط)، 1986.
نقلا عن جان بول سارتر :الوجودية مذهب إنساني، ترجمة، عبد المنعم حفنى، الدار المصرية للطباعة والنشر، القاهرة (ط1)1964 .
نقلا عن عبد الرحمان بدوي :دراسات في الفلسفة الوجودية، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، (ط1)، 1980.
جون ماكوري :الوجودية، ترجمة، إمام عبد الفتاح إمام، تقديم، فؤاد زكريا، عالم المعرفة، الكويت، (دط)، 1982،.
عبد الرحمان بدوي:موسوعة الفلسفة، دار(مجد)، بيروت، (ط1)، 1984.
جميل صليبا :المعجم الفلسفي، (ج2) .
التقنية: من حيث التعريف أو الجانب الإصطلاحي فهي تدل على مجموعة من المناهج أو فن أو صناعة.
سهيل إدريس، جبور عبد النور :المنهل، دار الآداب، بيروت، (دط)، 1983.
هانز جورج قدامير: طرق هيدغر.
نقلا عن عبد الرزاق الدواي: موت الأنسان، في الخطاب الفلسفي المعاصر، دار الطليعة للطباعة، بيروت (دط)، 2000.
الذات الإنسانية بصفتها الفاعلة والواعية المريدة نفوذها للسيطرة على الطبيعة لتحقيق خير البشرية وسعادتها التنظيم المحكم والمعقول للمجتمع
والسياسة من اجل حرية البشر...راجع، عبد الرزاق الدواي، موت الأنسان.
Alain Boutot : Haidegger,(puf) Edition Delta ,Paris ,3eme édition,1995 .
محمد محجوب :هيدغر ومسألة الميتافيزيقا، دار الجنوب للنشر، تونس، (دط)، 1999.
روديرجر بوبئر:الفلسفة الألمانية الحديثة، ترجمة، فؤاد كامل، دار الثقافة للنشر، القاهرة(دط)، (دن).
جاك دريدا: الكتابة والإختلاف، ترجمة، كاظم جهاد، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، (ط2)، 2000، ص123.
مارتن هيدغر:السؤال عن الشيء، حول نظرية المبادئ الترنسندتالية عند كانط، ترجمة، إسماعيل المصدق، المنظمة العربية للترجمة
لبنان، (ط1)، 2012.
والله يوفق الجميع
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام