ان الحديث عن الاستراتيجية والعلاقات الدولية لهو امر في غاية الصعوبة في محل ، ويعد من الامور الصعبة جدا لغير المختصين في العلوم السياسية والاستراتيجية والدراسات الدولية ، وذلك بسبب الكمية الهائلة من المفاهيم المتداخلة ما بين الحقلين العلميين الأكاديميين والذي يدفع الحقلين الى التجادل المفاهيمي بحيث اصبح كل حقل منهم مستقلاً بذاته ، ولكن على الرغم من هذا التداخل الكبير بين الحقلين يوجد هناك فسحات للالتقاء والتلاقح الفكري الاكاديمي يدفع الى تطوير الحقلين معا ، ويزيد من اواصر الترابط بين المصطلحين و تؤكد على ان حقل الاستراتيجية هو الاشمل والاعم و تتفرع منه كافة الحقول الاخرى كالعلاقات الدولية والتي تعد المحور الرئيسي لهذا الطرح .
وفيما يتعلق بمصطلح الإستراتيجية حيث اصبح مصطلحاَ سارياً و مألوفاَ ومشاعاَ تعودنا كثيرا أن نسمعه في حياتنا اليومية ، ونقرأه في الكثير من الادبيات الاكاديمية ، وانتشرهذا المصطلح في جميع مفاصل الحياة العلمية والعملية والسياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية والمعلوماتية والتجارية والصناعية ... الخ ، حيث امتد استخدامه إلى الأشخاص والأماكن والمواقع والأفكار والمفاهيم والإمكانات مثل ، هذا الانسان يملك رؤى إستراتيجية وهذا الموقع إستراتيجي ، وهذه فكرة إستراتيجية وهذا التصرف استراتيجي ، وهذا التحرك استراتيجي ، والدولة (a) لديها قدرات موظفة (طرق حل) إستراتيجية ، والدولة (b) لديها دور إستراتيجي في المنطقة الفلانية . والكثير من المستخدمين والمستهلكين لهذا المصطلح الرنان والبراق والذي يظفي لمستخدمه بعد نفسي كبير حين استخدامه بحيث يشعره بأنه ينطق بكلمات لها ابعاد غامضة تجاه الشخص المتلقي ولكن الكثير لا يدركون بعده العلمي والمعرفي الهام ومفهومه الأساس ، وعلى هذا الاساس لن اقدم شرح لمفهوم العلاقات الدولية والاستراتيجية لانها اشبع يحثا ولا اريد ان عيد واطيل واكرر ما قدمه الاخرين ، ولكن سوف اكتفي بالتطرق الى مجال العمل والشمول والعمق التاريخي لكلى المفهومين وسوف ابدأ بالعلاقات الدولية :
تاريخ استخدام مصطلح العلاقات الدولية
استخدمت كلمة دولية (International) لأول مرة من قبل جرمي بنثام في الجزء الأخيرة من القرن الثامن عشر بالرغم ان ما يناظرها في اللغة اللاتينية قد استخدم من قبل ريجاد زوك قبل قرن من ذلك وقد استخدم الناس هذه الكلمة لتعريف فرع القانون الذي أخذ يطلق عليه "قانون الأمم" أو "قانون الشعوب" وهو اصطلاح للقانون الروماني يشير إلى المبادئ التي كان يطبقها الرومان في القضايا التي تتضمن علاقات مع أجانب.. ثم استخدم المصطلح بعد ذلك من قبل أولئك الذين درسوا الروابط الدولية تحت الإطار القانوني فقط، وكان رجال القانون يسعون إلى تحديد مضمون القواعد الواجبة التطبيق بين اللاعبين في المسرح الدولي والعمل على ترجمتها إلى الواقع والتحقق من تطبيقها ، إن مصطلح (International) استخدم بوصفه حاجة حقيقية لتعريف العلاقات الرسمية بين الملوك، وربما تعد كلمة بين الدول (Interstates) أكثر دقة في تعبير الدولية لأن مصطلح الدولة في العلوم السياسية هو المصطلح الذي ينطبق على مثل هذه المجتمعات ، إن الدراسة العلمية للعلاقات الدولية تنطوي على دراسة الظواهر الدولية بشكل موضوعي وشامل وإلقاء الضوء على الأسباب والعوامل المحددة لتطورها والعمل على تطوير نظرية منها. انها تعني ايجاد "انتظام" أو "ثوابت" أو "قوانين" بالمعنى الذي ذهب إليه مونتسكيو، أي ايجاد روابط ضرورية تشتق من طبيعة الأشياء ولفترة طويلة استخدم مصطلح الدولية للاشارة إلى العلاقات بين الدول فقط، في وقت لم تكن العلاقات الدولية تعني سوى العلاقات بين الدول. ولا شك انها نظرة قاصرة لجوهر العلاقات الدولية الذي يعكس اليوم ساحة واسعة ومتشابكة من التفاعلات بين كيانات عديدة ومختلفة الطبيعة .(*)
تاريخ استخدام مصطلح الاستراتيجية
ظهرت بواكير المؤلفات في هذا المجال قبل أكثر من عشرين قرنا على يد بعض العسكريين الصينيين تلتها مؤلفات أخرى لعسكريين ومفكرين اغريق ورومان وعرب وأوروبيين تناولت جميعها بعض المفاهيم والمبادئ الأساسية والتفصيلية للحرب ، مما نتج عنه نشوء فرع جديد من فروع المعرفة الإنسانية اصطلح على تسميته (الفن العسكري) أو (الفن الحربي) ، ولكن على الرغم من ولادة الإستراتيجية كمفهوم في الحظن العسكري والحربي الا انها استطاعت ان تكون لها مفهوم جامع بفعل التطورات الكبيرة التي حدثت في المجتمعات واساليب الحروب وادارة الدول خصوصاً بعد تطور المجتمعات وتطور طبيعة الحياة وزيادة المتطلبات البشرية ، وحصول الترابط بين الحرب من جهة وبين السياسة والمجتمع من جهة أخرى ، قد نقل مفهوم الإستراتيجية جزئياً من ميدان الحرب إلى ميدان السياسة ، بحيث أصبحت الفعل العسكري هو احد ادوات الإستراتيجية ويعد احد تفرعاتها الكثيرة الى جانب السياسة والاقتصاد وغيرها من الادوات التي سخرتها الاستراتيجية لكي تحقق غاياتها .
ان القفزة الكونية التي حدثت بشتى المجالات ، ومنذ فترة ليس بقصيرة ( قرن من الزمان ) ادخلت الاستراتيجية في جميع مفاصل الحياة ، ولما أصبحت الحرب في القرن العشرين حرب الأمة والشعب بسبب ما أملته الحرب العالمية الاولى و الثانية من تطورات تقنية في منظومات السلاح وولادة السلاح النووي ، وما أملته الحرب الباردة ، وما بعدها من احداث وبروز دور حركات التحرر في العالم من تأكيد اعتمادية الحرب على موارد الأمة وإمكاناتها ، أضحت الإستراتيجية كذلك إستراتيجية شاملة باستخداماتها لموارد الأمة كافة وشاملة في أهدافها لتحقيق طموحات الأمة فتنادى المعنيون يؤكدون هذه الحقيقة مسبغين على الإستراتيجية مفهوم الإستراتيجية الشاملة بحيث خرجت الاستراتيجية من الايادي العسكرية ،ودخلت الاستراتيجية الحقول كافة ووصفة الاستراتيجية بالشمول هي من اهم المميزات التي تنفرد بين الاستراتيجية عن العلاقات الدولية .
حيث كثر الجدل ومنذ فترة ليست بقصيرة حول حقل الاستراتيجية والعلاقات الدولية والطبيعة الشمولية لكلى المفهومين ، لدرجة صار البعض يتحدث عن ان العلاقات الدولية تعد الاشمل من الاستراتيجية ، بل انه يعد الاستراتيجية هي جزء من العلاقات الدولية وادة من ادواتها ، ولكن هذا الكلام غير دقيق ومصحوب بعواطف اكثر من انه يسند الى اسس علمية بحيث يبخس من حق الاستراتيجية ، ولا اتحدث هذا الحديث بسبب كوني مختص بالاستراتيجية ولكن هذه حقيقة ان الاستراتيجية اشمل واعم من العلاقات الدولية وهذا الكلام مقترن بحقائق تاريخية أهماها :
ان مفهوم مصطلح قد ظهر منذ فترة طويلة جدا كما ذكرنا (حوالي اكثر من عشرين قرن ) ، وان كان قد استخدم هذا المفهوم للدلالة على المصطلحات العسكرية والحروب وقيادة المعارك ، الا انه كان هناك مفهوم للاستراتيجية ، بينما العلاقات الدولية لم تظهر كمفهوم الا في نهاية القرن الثامن عشر على لسان جيرمي بنثام - اي ان هناك فارق تاريخي بالظهور بحوالي 18 قرن بين المفهومين - عندما استخدم هذا المصطلح لاول مرة في تلك الفترة ، وعلى الرغم من ان هذا المفهوم لم بأطر الا على يد جيرمي بنثام في نهاية القرن الثامن عشر الا انه كان يستخدم بغير تسمية وهي قانون الامم والشعوب لدى الرومان ، يتفق معظم علماء السياسة على أن العلاقات الدولية (كما تعرف اليوم) نشأت منذ مؤتمر ويستفاليا عام 1648 ، وقد مرت العلاقات الدولية منذ تلك الفترة ( معاهدة وستفاليا ) الى حد الان بـ (ستة مراحل ) سنوردها لغرض توضيح ان الاستراتيجية كمفهوم ظهرت قبل ظهور مفهوم العلاقات الدولية وهذا ما تأكده المراحل التي مرت بها العلاقات الدولية من خلال حقبها التاريخية التالية :
المرحلة الاولى : من معاهدة وستفاليا عام 1648 حتى مؤتمر فينا عام 1815. حيث تميزت هذه المرحلة بان العلاقات الدولية فيها كانت محصورة في تلك العلاقات التي تنشا بين الدول القومية ذات السيادة بحيث لا تشمل أي نوع من الهيئات او الجماعات التي لا تتوافر لها مقومات الدولة وخصائصها مهما كان دورها في المجتمع الدولي.
المرحلة الثانية : من مؤتمر فينا عام 1815 حتى اندلاع الحرب العالمية الأولى. وتميزت هذه المرحلة بتطور العلاقات السياسية الدولية، حيث سُجل تطور نوعي في قرارات المؤتمر والتي انعكست بمجملها في أقرار توازن دولي جديد يأخذ على عاتقة مهمة الأمن والاستقرار في أوربا.
المرحلة الثالثة : من انتهاء الحرب العالمية الأولى عام 1919 حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية. وتميزت ببروز نظام الأمن الجماعي، حيث تبلور هذا المفهوم بإنشاء عصبة الأمم بمقتضى معاهدة فرساي في 28 يونيو 1919.
المرحلة الرابعة : من عام 1945 (انتهاء الحرب العالمية الثانية وتأسيس منظمة الأمم المتحدة في 26 يونيو 1945) حتى انهيار المنظومة الشيوعية وتفسخ الاتحاد السوفيتي ونهاية أزمة الخليج الثانية 1991، والبعض حدده بعام 1989وذلك بانهيار حائط برلين. وأهم ما يميز هذه المرحلة هو ما يسمى بالحرب الباردة الذي تحول أثنائها النظام الدولي إلى القطبية الثنائية (الولايات المتحدة ولاتحاد السوفيتي)، وفي الفكر الأيديولوجي الصدام بين الشيوعية والرأسمالية.
المرحلة الخامسة : من عام 1992، حتى سبتمبر 2001، وهي الفترة التي أعقبت انهيار المنظومة الشيوعية، وتوحيد ألمانيا الشرقية والغربية، وتفسخ الاتحاد السوفيتي، واندلاع أزمة الخليج الثانية 1990-1991، مما يعني اختفاء احد القطبين و بداية تحول النظام إلى نظام أحادي القطبية باستفراد الولايات المتحدة الأمريكية كقوة عظمى على هرم السلطة العالمية.
المرحلة السادسة : من الحادي عشر من سبتمبر 2001 حتى اليوم. حيث تميزت هذه المرحلة بقيام حرب شاملة تقودها القوة العظمى على هرم السلطة العالمية (الولايات المتحدة) ضد ما سمي بالإرهاب الدولي. ولقد توضح وتجلى في هذه الفترة استفراد الولايات المتحدة بالتحكم بالنظام العالمي الجديد " New World Order " (**).
وبما ان هذه المراحل متفق عليها من قبل المختصين في العلاقات الدولية فان هذا الكلام يعني ان هناك اسبقية تاريخية في الظهور ، اي ان مفهوم الاستراتيجية ظهرت قبل مفهوم العلاقات الدولية بفترة طويلة فهل من الممكن ان يكون الاقدم ( الاستراتيجية ) جزء من الاحدث ( العلاقات الدولية ) اي ان الاستراتيجية قد ظهرت قبل العلاقات الدولية بأشواط طويلة ، ودخلت المجالات التطبيقية في الحياة السياسية والعسكرية قبل العلاقات الدولية، على الرغم من ان مفهوم الاستراتيجية قد ظهر ملازماً للمعارك والحروب وادارة وقياة الجيوش في المعارك ، وعلى هذا الاساس اذا ما اردنا ان نضع مقاربة في مجالات العمل والتطبيق والشمول فنلاحظ الأتي :
مجال العمل والتطبيق : تعمل الاستراتيجية في المجالات كافة منها الداخلية والخارجية والتي تشتمل على الامور السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والتقافية ... الخ ، بحيث اصبح هناك استراتيجية عسكرية واستراتيجية سياسية واستراتيجية اقتصادية واستراتيجية اجتماعية وثقافية اضافتاً الى الاستراتيجية العليا الشاملة للدول ، بينما تعمل العلاقات الدولية في الخارج فقط ، على الرغم من ان العلاقات الدولية هي نتاج للشؤون الداخلية ونابعة من الداخل ولكن هي تختص في الخارج فقط ، عكس الاستراتيجية التي تعمل في الداخل والخارج وتشمل كل شي ، فهل من الممكن ان يكون الاشمل جزء من الاصغر .
وهناك نقطة جدا مهمة يجب ذكرها ان العلاقات الدولية لم تنشأ الا بعد نشوء الدول القومية ، بمعنى ان ظهور الدول القومية في منتصف القرن السابع عشر ، صاحب معه ظهور العلاقات بين الدول وهذه العلاقات تطورت مع تطور الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدول مما ادى الى ظهور مصطلح العلاقات الدولية على اسس قانونية نظمتها الشرائع التي ولدت بعد معاهدة وستفاليا ، وهذا الكلم يثبت ان العلاقات الدولية تعد حقلاً حديثاً بالمقارنة مع مصطلح الاستراتيجية الذي يعد تاريخ نشاته تتجاوز العشرين قرن من الان .
ويتفرع من ذلك ضرورة التمييز بين الإستراتيجية والسياسة الخارجية والتي هي جزء من العلاقات الدولية والتي تعبر عن الجانب السياسي الرسمي للدولة ، فالسياسة الخارجية كما يعرفها " علي الدين هلال " مجموعة الأنشطة والتصرفات التي تقوم بها دولة ما إزاء الدول الأخرى بقصد تحقيق أهدافها في ضوء الحدود التي تفرضها قواعد التعامل الدولي وقوة الدولة ، فتحرك السياسة الخارجية - و بضمنها الدبلوماسية والتي هي كلها تنضوي تحت لواء العلاقات الدولية - كأداة من أدوات الإستراتيجية داخل إطار بيئتها الخارجية (الإقليمية والدولية) ، لذلك يرى الدكتور مازن الرمضاني إن العلاقة بين السياسة الخارجية والإستراتيجية هي كالعلاقة بين الوسيلة والهدف ، بوصف الإستراتيجية الإطار الغائي الذي يضم الوسيلة السياسية الخارجية .
واخيرا وبعد هذا الطرح الذي تطرقنا اليه لتوضيح كلى المفهومين من حيث الاسبقية التاريخية للمصطلح ، ومن حيث الشمول و ومجالات الاستخدام والتطبيق ، اقول ان هذا الكلام وعلى هذه البساطة لا يعبر الا عن وجه نظري الشخصية والنابعة من خلال القراءة للحقلين كجزء من الاختصاص في العلوم السياسية .[/size][/size]
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام