الحمدُ للهِ العليمِ الهادي، والصلاةُ والسلامُ على خيرِ الأنامِ محمدٍ المبعوثِ رحمةً للعبادِ، وعلى آلهِ أعلامِ الإسلامِ وأصحابهِ مصابيحِ الظلامِ، وعلى من سلَكَ طريقَهُ واقتفى أثرَهُ وتبعَ سنتَهُ إلى يومِ الدينِ، وبعد :
فاللغةُ هي الوعاء الذي يختزنُ الفكرَ ويحمله، وهي الوسيلة الأمثل للتعبير عن حاجات الفرد ومكنونات نفسهِ ودواخلها، وقد شغلت دراسةُ اللغة المفكرين منذُ أقدم العصور في محاولةٍ للوقوفِ على ماهيتها واكتشاف أسرارها .
وإذا كانت دراسة اللغة في حدّ ذاتها وفي خطها الصفريّ قد شغلت المفكرين والباحثين، فإن دراسة الأدب الذي اتخذ من اللغة صورةً له نالت حظًا أوفر من العناية والاهتمام؛ ذلك أنها لغةٌ ترتبط وحدتها بعلائق متعددة ومتشعبة وتتأثر بمؤثرات داخلية من نفس الأديب وأخرى خارجية؛ ولما كان الدارسون للأدب ينطلقون من تصوراتٍ مختلفة ويحملون أيديولوجيات متعددة تعددت المناهج التي تدرس الأدب، ولعل من أهم هذه المناهج المنهج البنيوي الذي أرسى دعائمه الأولى دس سوسير كمنهج يدرس اللغة، ثم ما لبث هذا المنهج أن أصبح منهجًا علميًا له قواعده وأصوله، فنقله النقاد واستثمروا مبادئه في دراسة الأدب .
كما سرتُ في هذا البحث على المنهج التاريخي، فتناولتُ المنهج البنيوي ابتداءً من تحديد مصطلحهِ عند أصحابه وغيرهم من درسوا هذا المنهج، ثم تناولتُ في المبحث الثاني أصول المنهج وروافده التاريخية، أما المبحث الثالث فخصصته للحديث عن أعلامه الذين أرسوا دعائمه فأصبح بفضلهم منهجًا مستقلاً، أما المبحث الرابع فخصصته للحديث عن مستويات النقد البنيوي، أما المبحث الخامس فتناولتُ فيه منطلقات التحليل البنيوي فحاولتُ في هذا المبحث رسم الخطوط العريضة للمنهج، أما المبحث السادس فتناولتُ فيه الحديث عن شروط النقد البنيوي، أما المبحث السابع فخصصته للحديث عن البعد النقدي للمنهج، وأخيرًا المبحث الثامن والذي تناولتُ فيه الحديث عن ايجابيات المنهج وسلبياته .
النقد البنيوي لغةً واصطلاحًا
قبلَ الشروعِ في الحديثِ عن المنهجِ البنيويِّ كتيّارٍ فكريٍّ ظهرَ ليتجاوزَ النزعةَ التاريخيةَ والفلسفاتِ التي تعتمد الذات كخلفيةٍ مثل الوجوديةِ أو الظاهراتيةِ، لا بدَّ لنا من تحديد مصطلح البنية لغةً واصطلاحًا .
المبحث الأول : تحديد مصطلح البنية .
أولاً : الدلالة اللُغوية لكلمة بنية .
تشتقُّ كلمةُ (بنية) من الفعلِ الثلاثيِّ (بنى) وتُعني البناءَ أو الطريقةَ، وكذلك تدلُّ على معنى التشييدِ والعمارةِ والكيفيةِ التي يكون عليها البناءُ، أو الكيفيةُ التي شُيّد عليها( )، وفي النحو العربي تتأسسُ ثنائيةُ المعنى والمبنى على الطريقةِ التي تُبنى بها وحدات اللغةِ العربيةِ، والتحولات التي تحدثُ فيها .
ولذلك فالزيادةُ في المبنى زيادةٌ في المعنى، فكلُّ تحولٍ في البنيةِ يؤدي إلى تحول في الدلالةِ، والبنيةُ موضوعٌ منتظم، له صورتهُ الخاصةُ ووحدتهُ الذاتيةُ؛ لأنَّ كلمةَ (بنية) في أصلها تحملُ معنى المجموعِ والكلِّ المؤلِّفِ من ظواهرَ متماسكةٍ، يتوقفُ كلٌّ منها على ما عداه، ويتحددُ من خلالِ علاقته بما عداه .
ثانيًا : الدلالة الاصطلاحية .
لقد واجه تحديدَ مصطلحِ البنيةِ مجموعةٌ من الاختلافاتِ ناجمةً عن تمظهرِها وتجليها في أشكالٍ متنوعةٍ لا تسمح بتقديمِ قاسمٍ مشتركٍ؛ لذا فإن جان بياجه ارتأى في كتابه (البنيوية) أن إعطاء تعريف موحد للبنية رهينٌ بالتمييز "بين الفكرة المثالية الإيجابية التي تُغطي مفهوم البنية في الصراعات أو في آفاقٍ مختلفةِ أنواعِ البنياتِ، والنوايا النقديةِ التي رافقتْ نشوءَ وتطورَ كلِّ واحدةٍ منها مقابلَ التياراتِ القائمةِ في مختلفِ التعاليم" .
فجان بياجه يقدم لنا تعريفًا للبينة( ) باعتبارها نسقًا( ) من التحولات :" يحتوي على قوانينهِ الخاصةِ، علمًا بأنَّ من شأنِ هذا النسقِ أن يظلَّ قائمًا ويزدادَ ثراءً بفضلِ الدور الذي تقومُ به هذه التحولاتُ نفسُها، دون أن يكونَ من شأنِ هذه التحولات أن تخرجَ عن حدودِ ذلك النسقِ أو أن تستعينَ بعناصرَ خارجية، وبإيجاز فالبنيةُ تتألفُ من ثلاثِ خصائصَ: هي الكليةُ والتحولاتُ والضبط الذاتي"( ) .
إذن نلاحظ مما سبق أن جان بياجه لا يُعرِّف البنيويةَ بالسلبِ، أي بما تنتقده البنيويةُ؛ لأنه يختلف من فرعِ إلى فرعٍ في العلومِ الحقةِ والانسانيةِ، فهو يُفرّقُ في تعريفهِ للبنيةِ بين ما تنتقده وما تهدف إليه .
ولذلك نلحظ أنه يركز في تعريفهِ للبنيةِ على الهدفِ الأمثلِ الذي يوحدُ مختلفَ فروعِ المعرفةِ في تحديد البنيةِ باعتبارها سعيًا وراءَ تحقيقِ معقوليةٍ كامنةٍ، عن طريقِ تكوينِ بناءاتٍ مكتفيةٍ بنفسِها، لا تحتاج من أجلِ بلوغِها إلى العناصر الخارجيةِ .
كما نلحظ أنَّ التعريفَ السابقَ يتضمنُ جملةً من السّماتِ المميزةِ( )فالبنيةُ أولاً نسقٌ من التحولاتِ الخارجيةِ، وثانيًا لا يحتاجُ هذا النسقُ لأي عنصرٍ خارجيِّ، فهو يتطورُ ويتوسعُ من الداخلِ، مما يضمنُ للبنيةِ استقلالاً ويسـمحُ للباحثِ بتعقلِ هذه البنيةِ .
أما عن خصائصِ البنيةِ التي أشارَ إليها جان بياجه في تعريفهِ فهي ثلاثُ خصائصَ كالتالي( ) :
(1) ـ الكلية أو الشمول :
وتُعني هذه السمةُ خضوعَ العناصرِ التي تُشكِّل البنيةَ لقوانينَ تُميّزُ المجموعةَ كمجموعةٍ، أو الكلَّ ككلٍّ واحد .
ومن هذه الخاصيةِ تنطلقُ البنيويةُ في نقدِها للأدبِ من المسلَّمةِ القائلةِ بأنَّ البنيةَ تكتفي بذاتها، فالنصُّ الأدبيُّ مثلاً هو بنيةٌ تتكونُ من عناصرَ، وهذه العناصرُ تخضعُ لقوانين تركيبيةٍ تتعدى دورَها من حيثُ هي روابطُ تراكميةٌ تشدُّ أجزاءَ الكيانِ الأدبيّ بعضَه إلى بعضٍ، فهي تُضفي على الكلِّ خصائصَ مغايرةً لخصائصِ العناصرِ التي يتألف منها البعض( ) .
كما إن هذه الخاصية تُبرزُ لنا أنَّ البنيةَ لا تتألفُ من عناصرَ خارجيةٍ تراكميةٍ مستقلةٍ عن الكلِّ، بل هي تتكونُ من عناصرَ خارجيةٍ خاضعةٍ للقوانينِ المميزةِ للنسقِ، وليس المهمُّ في النسق العنصرُ أو الكلُّ، بل العلاقاتُ القائمةُ بين هذه العناصرِ .
(2) ـ التحولات :
أما عن خاصيةِ التحولاتِ، فإنها توضحُ القانونَ الداخليَّ للتغيراتِ داخلَ البنيةِ التي لا يمكنُ أن تظلَ في حالةِ ثباتٍ؛ لأنها دائمةُ التحولِ .
وتأكيدًا لذلك ترى البنيويةُ أنَّ كلَّ نصٍّ يحتوي ضمنيًا على نشاطِ داخلي، يجعل من كلِّ عنصرٍ فيه عُنصرًا بانيًا لغيرهِ ومبنيَّاً في الوقت ذاته، ولهذا فقد أخذت البنيويةُ هذه السمةَ بعينِ الاعتبارِ لتُحاصرَ تحوّلَ البنيةِ وما قد يعتريها من بعض التغيير( ) .
كما إن هذه السمةَ تُعبِّرُ عن حقيقةٍ هامةٍ في البنيويةِ، وهي أنَّ البنيةَ لا يمكن أن تظلَّ في حالةِ سكونٍ مطلق، بل هي دائمًا تقبلُ من التغيّراتِ ما يتضمنُ مع الحاجاتِ المحددةِ من قِبل علاقاتِ النسقِ أو تعارضاته، فالأفكارُ التي يحتويها النصُ الأدبيُ مثلاً تُصبح بموجبِ هذا التحولِ سببًا لبزوغِ أفكارٍ جديدة( ) .
(3) ـ التنظيم الذاتي :
أما عن خاصيةِ التنظيمِ الذاتي، فإنها تمكّنُ البنيةَ من تنظيمِ نفسِها كي تُحافظَ على وَحدتِها واستمراريتِها؛ وذلك بخضوعِها لقوانينِ الكلِّ .
وبهذا فيحقق لها نوعًا من " الانقلاب الذاتي " ونُعني به أن تحولاتِها الداخليةَ لا تقودُ إلى أبعدَ من حدودها، وإنّما تُولّدُ دائمًا عناصرَ تنتمي إلى البنيةِ نفسِها، وعلى الرغم من انغلاقها هذا لا يُعني أن تندرج ضمن بنيةٍ أخرى أوسعَ منها، دون أن تفقد خواصها الذاتية( ) .
ونريد أن نضرِبَ مثالاً على ما سبق من خصائصِ البنية، مثلاً نقابة المهندسين بما أنها تجمّعٌ خاص لأشخاصٍ بأعينهم فهي تمثل بنية، هذه البنية تسمح بتنوعِ الأفرادِ داخلَها بين ذكورٍ وإناثٍ، بين شبابٍ وشيوخٍ، بين متزوجينَ وغيرِ متزوجين، تنوعٌ لا يعرفُ الفوارقَ الطبقية أو الاختلافاتِ العقائديةَ، ولكنها في الوقتِ نفسهِ لا تسمح بدخول من لم يحمل مؤهلاً معينًا من الدخول فيها .
كما يوجد داخلَ هذه البنيةِ أي النقابة قوانينُ تُطبقُّ على عناصرِها، ويوجدُ بين هذه العناصرِ صفاتٌ وعلاقاتٌ مشتركةٌ، يركزُ عيها الناقدُ أو الدارسُ البنيويُّ .
وقد اختلف الدارسونَ والنقادُ في تبيانِ مفهومِ البنيويةِ كما ذكرنا سابقًا، حتى البنيويون أنفسُهم نجدُهم يوردون لها تعريفاتٍ مختلفةً( )، وهي في معناها الواسع "طريقةُ بحثٍ في الواقعِ، ليس في الأشياءِ الفرديةِ بل في العلاقاتِ بينَها" وهذا ما ذهب إليه جان بياجه وغيره .
ويرى ( ليفي شتراوس ) أن "البنيةَ مجردُ طريقةٍ أو منهجٍ يمكن تطبيقُها في أي نوعٍ من الدراسات تمامًا كما هي بالنسبةِ للتحليلِ البنيويِّ المستخدمِ في الدراساتِ والعلومِ الأخرى"( ) .
فشتراوس يحددُ البنيةَ بأنها "نسقٌ يتألفُ من عناصرَ يكونُ من شأنِ أيِّ تحولٍ يعرضُ للواحدِ منها أن يُحدثَ تحولاً في باقي العناصرِ الأخرى"( ) .
ونلاحظ من خلالِ التعريفِ السابقِ أنه يتجلى وراءَ الظواهرِ المختلفةِ شيء مشترك يجمع بينها، وهو تلك العلاقاتُ الثابتةُ التجريبيةُ، لذلك ينبغي تبسيطُ هذه الظواهرِ من خلال إدراكِ العلاقاتِ؛ لأن هذه العلاقاتِ أبسطُ من الأشياءِ نفسِها في تعقيدِها وتشتتها .
ويرى ( لوسيان سيف ) أنَّ مفهومَ البنيةِ في أوسع معانيه يشير إلى " نظامٍ من علاقاتٍ داخليةٍ ثابتةٍ، يُحدد السماتِ الجوهريةَ لأيّ كيان، ويشكّل كلاً متكاملاً لا يمكن اختزاله إلى مجرّدِ حاصلِ مجموعِ عناصره، وبكلماتٍ أخرى يشير إلى نظامٍ يَحكُم هذه العناصرَ فيما يتعلّق بكيفيةِ وجودِها وقوانينِ تطوّرِها "( ) .
ولعلّ التعريفَ الأخيرَ يقودُنا إلى العلاقةِ بين الجزءِ والكلِّ في نظرِ البنيويين، فَهم يرون أنَّ العلاقةَ بين الجزءِ والكلِّ ليست مجرّدَ اجتماعِ مجموعةٍ من العناصر المستقلةِ، بل إن هذه العناصرَ تخضعُ لقوانينَ تتحكّمُ في بناءِ العلاقةِ التي تجمعُ الأجزاءَ، وتُضفي هذه القوانينُ على البنيةِ سماتٍ كليّةً تختلفُ عن سماتِ العناصرِ كلٌّ منها على حدةٍ، كما تتميزُ عن مجموعِ هذه العناصر .
ويرى ليونارد جاكسون أن البنيويةَ هي " القيامُ بدراسةِ ظواهرَ مختلفةٍ كالمجتمعاتِ، والعقولِ، واللغاتِ، والأساطيرِ، بوصفِ كلٍّ منها نظامًا تامًا، أو كلاً مترابطًا، أي بوصفِها بنياتٍ، فتتمُ دراستُها من حيثُ أنساقُ ترابِطها الداخليةُ، لا من حيثُ هي مجوعاتٌ من الوحداتِ أو العناصرِ المنعماوالةِ، ولا من حيـثُ تعاقبُها التاريخي "( )
نحن لا نوافق على مقولة البنيوية بأن كل الأشياء تشتمل على أنساق من الترابط بين أجزائها، وهي ما تحتاج إلى الدراسة، وليس العناصر الجوهرية كما ذهب إليه جاكسون .
أما في أدبِنا العربيّ الحديث نجدُ عددًا من النقاد العرب الذين اهتموا بالبنيوية في دراساتِهم وطبقوا مبادئِها وأسسها على النصوص التي درسوها، ونودُّ أن نُشيرَ في هذا المجال إلى ما كتبه موريس أبو ناصر في كتابهِ (الألسنية والنقد الأدبي في النظرية الممارسة)، وخالدة سعيد في كتابها (حركية الإبداع)، وكمال أبو ديب في كتابه (جدلية الخفاء والتجلي)، وعبد الله الغذامي في كتابه (الخطيئة والتفكير من البنيوية إلى التشريحية)، الذي طبق فيه فَهمه للبنيويةِ على شعر حمزة شحاتة .
وكان النقاد العرب ـ شأن النقاد البنيويين الغربيين ـ يعدّون النصّ بنيةٌ مغلقةٌ على ذاتِها ولا يسمحون بتغيرٍ يقع خارج علاقاتهِ ونظامه الداخلي( ) .
فهذا عبد السلام المسدي يُعرِّف المنهج البنيوي بأنه " يعتزم الولوج إلى بنية النص الدلالية من خلال بنيته التركيبية "( ) .
وكما ترى نبيلة إبراهيم أن المنهج البنيوي يعتمد في دراسة الأدب على النظر في العمل الأدبي في حد ذاته بوصفه بناءً متكاملاً بعيدًا عن أية عوامل أخرى أي أن أصحاب هذا المنهج يعكفون من خلال اللغة على استخلاص الوحدات الوظيفية الأساسية التي تحرك العمل الأدبي( ) .
كما عرّفه فائق مصطفى وعبد الرضا على أنه : منهج فكري يقوم على البحثِ عن العلاقات التي تعطي العناصر المتحدة قيمة، ووصفها في مجموع منتظم مما يجعل من الممكن إدراك هذه المجموعات في أوضاعها الدالة( ) .
ويرى كذلك جميل حمداوي بأن البنيوية: طريقة وصفية في قراءة النص الأدبي تستند إلى خطوتين أساسيتين وهما : التفكيك والتركيب، كما إنها لا تهتم بالمضمون المباشر، بل تركز عل شكل المضمون وعناصره وبناه التي تشكل نسقيه النص في اختلافاته وتآلفاته( ) .
ويوافق الباحث إبراهيم السعافين فيما ذهب إليه( )، حين ذكر أن البنيوية ابنة حضارة معينة تنتمي إليها وتحاور منجزاتها المادية والروحية، إنها ذات صلة وثيقة بحركة الحداثة من جانب، وبالدراسات اللغوية الحديثة ومدرسة النقد الجديد( ) من جانـب آخر .
بمعنى إن البنيوية في النقد الأدبي ثمرة من ثمرات التفكير الألسني وآثاره في العلوم الإنسانية المختلفة، مثلما أنّ صورتها الشكلية الأولى ذات قرابة واضحة بحق مدرسة النقد الحديث .
ونلاحظ مما سبق تعدد التعاريف لمصطلح واحد وهو مصطلح البنيوية، وهذا يقودني إلى طرحِ سؤالٍ عن سبب عدم وجودِ تعريفٍ موحدٍ ودقيقٍ متفق عليه بين النقاد الغرب، وكذلك النقاد العرب؟ ويرى الباحث أن سبب ذلك أي غياب تعريف موحد هو غياب ترجمة موحدة للمصطلح نفسه، إلى جانب اختلاف التكوين الفكري والعلمي لمن يقوم بترجمة مصطلح البنيوية، ولذلك كان من الطبيعي أن يختلف مفهوم مصطلح البنيوية من ناقد لآخر .
وأنا ارتأي تعريفًا للبنيوية بناءً على ما سبق ذكره بأنه منهج نقدي يعني بدراسة النصوص الأدبية من داخلها، أي نبدأ بالنص وننتهي به، كما يرى نقاد هذا المنهج أن العلاقة بين الجزء والكل ليست مجرّد اجتماع مجموعة من العناصر المستقلة، بل إنّ هذه العناصر تخضع لقوانين تتحكّم في بناء العلاقة التي تجمع الأجزاء، وهذا كما أشار إليه لوسيان سيف .
المبحث الثاني : المنهج البنيوي ( الأصول، الروافد ) .
الفرع الأول : أصول المنهج البنيوي ( النشأة والتطور ) .
ظهرت البنيوية اللسانية في منتصف العقد الثاني من القرن العشرين مع رائدها (فرديناند دي سوسير)، من خلال كتابهِ "محاضرات في اللسانيات العامة"( )، الذي نُشر في باريس سنة 1916م، وقد أحدثت هذه اللسانيات ابستمولوجية "معرفية" مع فقه اللغة والفيلولوجيا الدياكرونية .
وكان الهدفُ من الدرسِ اللساني هو التعامل مع النص الأدبي من الداخل وتجاوز الخارج المرجعي واعتباره نسقًا لُغويًا في سكونهِ وثباتهِ، وقد حقق هذا المنهج نجاحه في الساحتين اللسانية والأدبية حينما انكب عليه الدارسون بلهفة كبيرة للتسلح به واستعماله منهجًا وتصورًا في التعامل مع الظواهر الأدبية والنصية واللغوية .
وأصبح المنهج البنيوي أقرب المناهج إلى الأدب؛ لأنه يجمع بين الإبداع وخاصيته الأولى وهي اللغة في بوتقةٍ ثقافيةٍ واحدة، أي يقيس الأدب بآليات اللسانيات بقصدِ تحديدِ بُنيات الأثر الأدبي وإبراز قواعده وأبنيته الشكلية والخطابية .
فظهرت البنيوية في بداية الأمر في علم اللغة( )، وبرزت عند فرديناند دي سوسير الذي يعد الرائد الأول للبنيوية اللغوية عندما طبق المنهج البنيوي في دراسته للغة، واكتشاف مفهوم البنية في علم اللغة دفع بارت وتودوروف وغيرهما إلى الكشف عن عناصر النظام في الأدب( ) .
أما عن نظرية دي سوسير في علم اللغة، فهو يرى أنَّ موضوع علم اللغة الصحيح والوحيد هو اللغة في ذاتِها ومن أجلِ ذاتها، وقد فرّق بين اللغةِ والأقوالِ المنطوقةِ والمكتوبةِ، فاللغة أصواتٌ دالةٌ متعارف عليها في مجتمع معين، وإن لم توجد كواقع منطوق لدى أي فرد من أفرادهِ، أما الأقوال فكل الحالات المتحققة من استعمالات اللغة، ولا يكون واحد منها، بل ولا يلزم أن تكون جميعها ممثلة للغة في كمالها ونقائها المثاليين( ) .
إذن ففي دراسة اللغة لا بد من عماوالها واعتبارها مجموعة من الحقائق؛ لأن اللغة بالتحليل السابق هي نظام إشاري (سيميولوجي)، أي إن علم اللغة يهتم باللغة المعينة ولا يلتفت إلى لغة الفرد؛ لأنها تصدر عن وعي ولأنها تتصف بالاختيار الحر .
ومن هنا انطلقت البنيوية من حقلِ علم اللغة إلى حقل علم الأدب، فسوسير في نظريتهِ كان يفرقُ بين اللغةِ والأقوال أو بين اللغة كنظام واللغة كاستعمال كلامًا أو كتابةً، فإن البنيويين يفرقون كذلك في علم الأدب بين الأدب والأعمال الأدبية( ) .
أما عن فكرة النظام أو النسق الذي يتحكم بعناصر وأجزاء النص مجتمعة، والذي يمكن أن يظهر من خلال شبكة العلاقات العميقة بين المستويات النحوية الأسلوبية والإيقاعية، فهي مستمدة من فكرة العلاقات اللغوية التي تعد أساسًا من أسس نظرية دي سوسير والتي وضحها حين قال بأن اللغة ليست مفردات محددة المعاني ولكنها مجموعة علاقات .
بمعنى إن الكلمة لا يتحددُ معناها إلا بعلاقتِها مع عدد من الكلماتِ، بما سبقها وما لحقها، كما إن العلاقة بين صوت الكلمة ومفهومها كما يرى دي سوسير هي علاقة تعسفية بمعنى أنه لا علاقة لمفهوم الكلمة بصوتها بدليل اختلاف صوت هذا الشيء بين لغة وأخرى، إذن فبناء اللغة أو نظامها لا يتمثل إلا في العلاقات بين الكلمات، وهي تمثل نظامًا متزامنًا حيث أن هذه العلاقات مترابطة( ) .
ونودُ أن نشيرَ إلى أن البنيويةَ كانت في أول ظهورها تهتم بجميع نواحي المعرفة الإنسانية( )، ثم تبلورت في ميدان البحث اللغوي والنقد الأدبي .
والسؤال الذي أودُّ أن أطرحه هنا إذا كانت هذه العلوم الإنسانية كلها علوم بنيوية، فلماذا تبدو البنيوية الفرنسية جديدة ومثيرة ؟ أعتقدُ إن الجواب عن هذا السؤال يكمن في المعنى الجديد الذي أضفته البنيوية على كلمة بنية .
إذن فالمنهج البنيوي هو نموذج تصوري مستعار من علم اللُّغة( )، عند دي سوسير في المحل الأول بكل ما يلزم من هذا النموذج من نظرة كليّة تبحث عن العلاقات الآنية التي تُشكل النسق، وتسلم كل التسليم بثنائيات متعارضة تعارض اللغة، والكلام، والآنية، والتعاقب، وعلاقات الجمهور، وعلاقات الغياب( ) .
فاللغة هي الرحم الأوّل لنشأة المعيار البنيوي، إذ هي عبر هندستها المتجدّدة وتلازمها الوظيفي مع اللحظة التاريخية تمثل صورة الانبناء كأحسن ما يكون التصوير، فإن المعرفة اللسانية قد استوعبت الفكرة البنيوية فجلت ملامحها ووضعت المفاهيم المؤدية لها( ) .
ومن أبرز ما استحدثته البنيوية هو إدخال عامل النسبية في تقدير الظواهر والتخلي نهائيًا عن ناموس الإطلاق الذي قيّد العلم اللغوي تاريخًا طويلاً، أما مِفتاح هذا التحول وهذا التغيير فيتمثل في التمييز الذي علينا أن نعتبر به في تحليلنا للغة بين الزمن الطبيعي، وهو البعد الموضوعي لتوالي الأحداث وتعاقب أجزاء الكلام المعبّر عن تلك الأحداث، والزمن التقديري الذي هو موقف افتراضي يقوم على القيمة الاعتبارية للأشياء كما تعبر عناه اللغة، وهو الزمن التقديري وهو بالتحديد جوهر الفكرة البنيوية وهو بالتالي المعين الذي تستمد منه سطوتها المنهجية( ) .
وهنالك من النقاد العرب من يرى أن البنيوية لها جذور عند نقادنا القدامى( )، فعبد القاهر الجرجاني هو صاحب نظرية النظم، وهو يرى أن ليس للفظة في ذاتِها ـ لا في جرسِها ولا في دلالتِها ـ بين الألفاظ والمعاني والمعاني هي المقصودة في إحداث النظم والتأليف( ) .
ويعقب جودت الركابي بعد هذا الحديث بقوله: "ما رأيكم في هذا الكلام الذي قيل قبل قرون سحيقة على لسان عبقري من عباقرة لغتنا، وأية نظرة صائبة في بيان علاقة اللفظ بالمعنى أو بما يسميه نقادنا العرب بـ ( السياق )"( ) .
إذن فالأجزاء لا معنى لها دون هذه النظرة العلائقية التي يحكمها النظم، فعلينا أن نُدرك هذه العلاقة في النص لندرك قيمته، فقيمة النص تكمن في قيمة علاقة عناصره وأجزاءه ببعضها البعض وترابطها، والخصائص التي تضفي على تلك العـلاقات ككل.
فنخلص مما سبق بأن أوّل من طبق البنيوية اللسانية على النص الأدبي في الثقافة الغربية نذكر كلا من رومان جاكبسون وكلود ليفي شتراوس على قصيدة (القطط) للشاعر الفرنسي بودلير في منتصف الخمسينات، وبعد ذلك طُبقت البنيوية على السرد مع رولان بارت وكلود بريموند و تودوروف، كما ستتوسع ليدرس الأسلوب بنيويًا وإحصائيا مع بيير غيرو دون أن ننسى التطبيقات البنيوية على السينما والتشكيل والسينما والموسيقا والفنون والخطابات الأخرى .
أما بالنسبةِ إلى استقبالها في الساحة العربية فجاء في أواخر الستينات وبداية السبعينات وذلك عبر الثقافة والترجمة والتبادل الثقافي والتعلم في جامعات أوروبا، وكانت بداية تمظهر البنيوية في عالمنا العربي في شكل كتب مترجمة ومؤلفات تعريفية للبنيوية .
كما كان تطورها في البلاد العربية تطورًا غير متكافئ فلم يكن النقاد مطلعين في كثيرٍ من الأحيان على ما يقوم به إخوتهم في الأقطار الأخرى، ونتيجة لذلك تعددت مشارب أخذهم عند النقد الغربي فبعضهم يرجع إلى ترجمات انجليزية ككمال أبو ديب، أو اسبانية مثل صلاح فضل، والبعض إلى النصوص الفرنسية وهو الأكثر( ) .
فكان استقبالها إذن غير متكافئ كما كان في الوقتِ نفسه متفاوتًا من قطر لأخر حسب العلاقات التاريخية التي تربط كل بلد عربي بالبلدان الغربية، وقد عُرف هذا التيار في مصر مع الناقد صلاح فضل من خلال كتابهِ (النظرية البنائية في النقد الأدبي عام 1977م)، وكتابه (علم الأسلوب مبادئه وإجراءاته)، وفي الأردن أعطى الناقد كمال أبو ديب دفعًا لهذا التيار من خلال نشره لكتابه (جدلية الخفاء والتجلي، دراسة بنيوية في الشعر الجاهلي)، وكتابه (البنية الإيقاعية في الشعر المعاصر عام 1974م)، وفي تونس والمغرب تكونت مجموعات من النقاد حول مفهوم البنيوية .
ففي تونس عبد السلام المسدي من خلال كتابه (الأسلوب والأسلوبية نحو بديل البنى في نقد الأدب)، وكتابه (النقد والحداثة) وكتابه (قضية البنيوية، دراسة ونماذج)، أما في المغرب فتوجد كذلك مجموعة من النقاد لهم ترجمات كثير لبارت وتودوروف وجنت، وهنالك مقالات حول الحداثة العربية في مجال الأدب والنقد، ومن هؤلاء محمد برادة في كتابه (محمد مندور والتنظير النقد)( ) .
أما في لبنان فتمثل هذا التيار الناقدتان يُمنى العيد وكتابها (في معرفة النص)، وخالدة سعيد، وإن تفاوتتا في استخدام المنهج البنيوي نظرًا؛ لأنهما أقبلتا على هذا النقد بعد أن تمرستا مناهج النقد التي سبقت زمنيًا المنهج البنيوي .
فحاول النقاد العرب الجدد من مثل كمال أبو ديب ويمنى العيد إلى فتح طرق للبحث من أجل مقارنة التيار البنيوي بما قدمه التراث العربي من جهد في مجال علم اللغة كالجرجاني، والخليل بن أحمد الفراهيدي .
الفرع الثاني : الروافد التاريخية للبنيوية .
لعل ما ذكرناه في الفرع الأوّل من خطوطٍ أولية لظهور البنيوية، وبالأخص ما سنذكره في المبحث الذي يتحدث عن المنطلقات البنيوية، فكلها تُشير إلى أن الروافد التاريخية للبنيوية هي مدرسة الشكليين الروس التي ظهرت في عشرينات وثلاثينات هذا القرن، وما سمي بمدرسة النقد الجديد في أمريكيا .
فمدرسة الشكليين الروس دعت إلى ضرورة التركيز على العلاقات الداخلية للنص وقالت بأن موضوع الدراسة التاريخية ينبغي أن ينحصر في ما أسماه جاكبسون أدبية الأدب، وتتكون الأدبية بشكلٍ عام من الأساليب والأدوات التي تميز الأدب عن غيره، أي الخصائص التي تميز ذلك الأدب( ) .
فمن هنا انطلقت في مفهومها للأدب بأنه صورة رمزية، أو وسائط إشارية للواقع وليس انعكاسًا له بأي حال، كما إنها درست النص بمنعزل عن سياقه التاريخي والجغرافي والاجتماعي وعماوالته عن الأديب أو الكاتب نفسه .
ويقول ياكبسون وهو أنشط أعضاء حلقة موسكو اللغوية والتي أسست المنهج الشكلاني: "إن هدف علم الأدب ليس هو الأدب في عموميتهِ وإنما أدبيتهِ أي تلك العناصر المحددة التي تجعل منه عملاً أدبيًا"( ) .
وعلى الرغم من أنها لم تتحدث عن الواقع الاجتماعي للأدب، ودرست الأدب من الداخل وليس من الخارج ولكنها مقابل ذلك حددت وظيفة الأدب بالإجهاز على الألفة والعادية في العالم، أي أن تنسيق عناصر العمل الأدبي وأدواته يستهدف خلق علاقة مغايرة كيفيًا للعلاقات المألوفة بين الإنسان والعالم .
ويرى بعض النقاد بأن الفروض والمعطيات التي أبرزتها مدرسة الشكليين الروس بخاصة الأدبية، جاءت البنيوية لتطورها وتؤكد صحتها على الصعيدين النظري والتطبيقي، وكما تتضح العلاقات الحميمة بين البنيوية ومدرسة النقد الجديد من خلال مفاهيم أعلامها للأدب( ) .
مثلاً إن (عزرا باوند) يرى أن الشاعر كالعالم والشعر ما هو إلا نوع من الرياضيات الفنية، أما (هيوم) فقد رفض ما يسمى بالموضوع الشعري وطالب بالتركيز على القالب الشعري، أما (جون كروانوم) يرى بأن هدف الشعر هو الشعر نفسه، وإذا استحق دراسته فلأنه شعر قبل أي شيء، إذن نلحظ مما سبق بأن الناقد في هذه المدرسة يبدأ بالنص وينتهي به وكذلك الناقد البنيوي( ) .
ولكن هنالك فرق لا بد لنا من أن نذكره ما بين المنهج الشكلي والمنهج البنيوي، حيث أن المنهج البنيوي (يختلف عن المنهج الشكلي)، ويؤكد شتراوس أن الفرق بين الشكلية والبنيوية هو أن الأولى تفصل تمامًا بين جانبي الشكل والمضمون؛ لأن الشكل هو القابل للفهم، أما المضمون لا يتعدى أن يكون بقايا خالية من القيمة الدالة. أما البنيوية فهي ترفض هذه الثنائية، فليس ثمة جانب تجريدي واحد محدد واقعي، حيث الشكل والمضمون لهما نفس الطبيعة ويستحقان نفس العناية في التحليل، فالمضمون يكتسب واقعه من البنية، وما يسمى بالشكل ليس سوى تشكيل هذه البنية من أبنية موضعية أخرى تشمل فكرة المضمون نفسها. ونتيجة لهذا التصور فإن البنية لا تبتر الواقع، وإنما هي على العكس من ذلك تتيح الفرصة لإدراكه بجميع مظاهره( ) .
المبحث الثالث :
( أعلام المنهج البنيوي )
أولاً : فرديناند دي سوسير( ) .
ولد سوسير في جنيف عام (1857م) والتحق بجامعتها عام (1875م)، ليتخصص في دراسة الفيزياء واختلف بين الحين والآخر إى حلقات البحث في النحو الإغريقي واللاتيني، وقد شجعته هذه البحوث على قطع دراسته ومغادرته إلى جامعة ليبرغ ليتخصص في اللغات الهندو أوروبية .
ويصدر بعد ذلك بأعوام أو كتاب له في اللغات وهو كتاب (النظام الصوتي في اللغات الهندو أوروبية القديمة) عام 1887م، وبعد أربع سنوات أصبح عضوًا في الجمعية الألسنية الفرنسية، وعند عودته إلى جنيف شغل كرسي أستاذ اللغات كسنوات طويلة، قدم من خلالها سلسة من المحاضرات نُشرت بعد وفاته، وقد طُبع الكتاب بعناية من تلاميذه سنة 1916م، أي بعد وفاته بثلاث سنوات، وقد تُرجم إلى العربية بعنوان (محاضرات في الألسنية)( ) .
وقد بدأ سوسير كتابه المذكور آنفًا بتعريف اللغة ذاتها مميزًا بين ثلاث مستويات من النشاط اللغوي (اللغة، واللسان، والكلام)، فاللغة عنده "نظام من الرموز المختلفة التي تُشير إلى أفكار مختلفة، وهي مجموعة المصطلحات التي تتخذها هيئة المجتمع بأكمله؛ لإتاحة الفرصة أمام الأفراد لممارسة ملكاتهم"( )، أما اللسان فإنه عنده يُعني نظام اللغة التي من خلاله تُنتج عملية المحادثة، ( )، أما الكلام يُعرف بأنه "التحقق الفردي لهذا النسق في الحالات الفعلية من اللغة"( ).
إذن فاللغة هي العنصر الاجتماعي للكلام، والكلام هو المظهر الفردي للغة . واللغة رموز تعبر عن أفكار، ولا علاقة للغة بأخطاء الكلام فهي الهياكل التي تخضع لها عمليات التنفيذ الكلامية .
وهذا أول تعريف للغة نعثر عليه في الدراسات اللسانية، ويمكن تبسيط هذا التعريف بالقول بأن اللغة عنده هي الحاضر الأوسع فالظروف النفسية والجسدية ونظام النطق ونظام الإشارة وتاريخ اللغة هو ما يشكل عنده اللغة بذاتها .
إذن فيعدُّ دي سوسير هو عالم لغويات، والأب المؤسس لمدرسة البنيوية في اللسانيات فهو من أشهر علماء اللغة في العصر الحديث، حيث اتجه تفكيره نحو دراسة اللغات دراسة وصفية باعتبار اللغة( ) ظاهرة اجتماعية، حيث كانت اللغات تدرس دراسة تاريخية .
فكان فرديناند دي سوسير مساهمًا كبيرًا في تطوير العديد من نواحي اللسانيات في القرن العشرين، فكأن أول من أعتبر اللسانيات كفرع من علم أشمل يدرس الإشارات الصوتية حيث اقترح تسميته بالسيميوتيك أو علم الإشارات( ) .
فقد توصل دي سوسير إلى أربعة كشوف هامة تتضمن: أولاً مبدأ ثنائية العلاقات اللفظية أي (التفرقة بين الدال والمدلول)، ثانيًا مبدأ أولوية النسق أو النظام على العناصر، ثالثًا مبدأ التفريق بين اللغة والكلام، رابعًا مبدأ التفرقة بين التزامـن والتعاقب( ) .
فلو رأينا المبدأ الأول لوجدناه يتحدث عن الكلمة، فالكلمة عنده هي إشارة وليست أسمًا لمسمى بل هي كل مركب يربط الصورة السمعية والمفهوم، وهو يقصد بذلك الدال وهو الصورة السمعية، وأما المدلول فهو المفهوم( ) .
إذن فاللغة عند سوسير هي نظامًا من الإشارات التي تُعبر عن اللغة، وإن العلاقة بين تلك الإشارات ومدلولاتها علاقة اعتباطية، بدليل اختلاف الإشارة وهذا ما قاده إلى تأسيس على السيمولوجيا( ) .
أما المبدأ الثاني الذي اكتشفه سوسير، وهو أولوية النسق( ) أو النظام على العناصر، فهو يُشير بذلك على أن اللغة نظامًا، ويُريد بنية هذا النظام وذلك لكونه مؤلف من وحدات لها تأثير متبادل على بعضها( ) .
فهو يدعو إلى تحليل البنية (النظام) وكشف عناصرها كالرموز والصور والموسيقى في نسيج العلاقات اللغوية أي في أنساقها؛ لمعرفة ملابسات بُنيتها من الداخل والخارج، فيريد البحث عن مجموعة العناصر وعلاقاتها المتشابكة داخل هذا النظام .
أما المبدأ الثالث وهو التفرقة بين اللغة والكلام، وتحدثنا في المبدأ الأول عن اللغة بأنه يعتبرها نظامًا من الإشارات التي تعبر عن تلك اللغة، فهو بذلك يُفرق بينهما فاللغة مجموعة القواعد والوسائل التي يتم التعرف اللغوي طبقًا لها، أما الكلام فهو الطريقة التي تتجسد من خلالها تلك القواعد والوسائل في موقف بعينه، ولوظيفة بعينها( ) .
ولكن كان اهتمام دي سوسير في معالجتهِ لمكونات العملية الإبداعية الكلامية باللغة دون الكلام؛ لأن الكلام في رأيه فعل فردي لا يمثل سوى بداية اللسان أو الجزء الفيزيائي، وهو مستوى خارج الواقعة الاجتماعية .
ولو تقدمنا إلى الأمام خطوة ورأينا من جاء بعد سوسير( )، لاتضح لنا أن ما كان هامشيًا عند دي سوسير تحوّل إلى موضوع رئيسي عند المتأخرين، ومثال ذلك الكلام حيث أضحى نصًّا أو إنجازًا أو رسالةً أو خطابًا في الدراسات الأسلوبية .
أما المبدأ الرابع والأخير وهو التفرقة بين التعاقب والتزامن، حيث يرى سوسير أنه من الممكن أن تكون دراسة نسق اللغة أما تزامنية أو تعاقبية، ويعرِّف سوسير هذين المصطلحين بقولهِ: "يمكن أن نصف كل شيء يرتبط بالجانب السكوني من عملنا بأنه تزامني، في حين يمكن أن نصف كل شيء له علاقة بالتطور يوصف بأنه تـعاقبي"( ) .
وهكذا نلحظ بأن التزامنية تختص بوصف حالة اللغة، في حين أن التعاقبية تختص بوصف المرحلة التطورية للغة .
ولعل من إسهامات سوسير المهمة بأنه بيّن ثلاثة مستويات للغة: أولاً اللغة كنظام، وثانيًا اللغة كصياغة، وثالثًا اللغة كمنطق( ) .
أما اللغة كنظام فتُدرس بوصفها نظامًا كونيًا، شأنها شأن أي نظام كوني آخر، ومعنى هذا بأن النظام يختص بوصف اللغة كظاهرة اجتماعية، أما اللغة كصياغة فهي التي تميز قدرة الفرد على استغلال كل طاقات اللغة في إطار نظامها، بمعنى أن اللغة كصياغة تكشفُ لنا عن طاقتين: طاقة فردية، وطاقة لغوية عام، وأما اللغة كمنطق، فتمثل مستوى من مستويات اللغة، فهي تخرج تلقائيًا بوصفها عملية توصيل مباشر للفكر .
والذي يهمنا في هذه المستويات هو اعتباره اللغة نظامًا وذلك النظام ينقسم إلى قسمين: نظامًا زمنيًا ونظامًا وصفيًا، أما من الناحية الزمنية فقد شبه اللغة بلعبة الشطرنج إذ إن انتقال هذه اللعبة من الهند إلى أوروبا أو غيرها لا علاقة له بنظام اللعبة ووضع الأحجار في زمن معين، بين اللاعبين تحدده اللعبة السابقة واللعبة اللاحقة، إذن وضع الأحجار متغير غير ثابت، وكذلك وضع اللغة، فاللغة في كل فترة زمنية تختلف عنها في الفترة الزمنية السابقة؛ لأنها تأخذ وضعًا جديدًا( ) .
وبهذا نستنتج بأن الكلمة بناءً على ذلك هي جزء في سياق زمني خاضعة له، لها علاقة بما سبقها وبما سيسبقها من كلماتٍ .
أما من الجانب الوصفي فإنه يتطرق في ذلك إلى العلاقة السياقية( ) في الكلمة يقول سوسير: "بمعنى أنني أدرس وظيفة الكلمة في حالها الذي تقدم فيه اللحظة الراهنة، وليس في إطارها التاريخي، أي أنها تُدرس في علاقاتها المنطقية بينها وبين الكلمات الأخرى المستخدمة في سياق التعبير"( ) .
والمجال الوصفي للغة هو الذي يُفيد في دراسة لغة الأدب؛ لأن النص الأدبي نظام من الكلمات العاملة مع بعضها البعض لإعطاء الدلالة ويمكن أن يكون هذا العمل من خلال التضاد أو الترادف أو الانسجام الصوتي، ويمكن أن تكون تلك الدراسة طريقًا لدراسة قيمة العمل الأدبي من خلال نفسه لا من خلال السياق التاريخي له .
وربما كانت هذه الإضافة لسوسير التي مهدت لما سُمي فيما بعد بـ "موت المؤلف"( ) .
أما المستوى الثاني من مستويات اللغة عند سوسير وهو اللغة كصياغة أي الإشارة، والذي أفاد منه دارسو الأدب كل الإفادة في تحليل العمل الأدبي، وذلك في تطوير علم الدلالة اللغوي المكون من المستوى الصوتي والدلالة اللذان يشكلان الدلالة النهائية للتركيب؛ لأن قواعد اللغة غير كافية لفهم التركيب، وفي هذا السياق تضرب لنا نبيلة إبراهيم مثالاً الجملة الفعلية :
فتقول "ضرب علي حسامًا" فحسام هنا هو المفعول به الذي وقع عليه الفعل، وفي جملة "ضُرب حسامُ" فحسام هنا نائب فاعل وهو مفعول به في المعنى، وفي جملة "حسام ضربه علي" فيكون حسام مبتدأ وهو مفعول به، بمعنى أن حسامًا لم يتغير في كل التراكيب من حيث أنه وقع عليه الضرب، أي أنه يضل مفعولاً به، ومن هنا أفادت دراسات الأدب في النظر إلى البطولة في القصة فقد يكون البطل فاعلاً أو مفعولاً به، حرّك وعمل شيئًا أم وقعت عليه أعمال وعبّر عنها( ) .
ومن إسهامات سوسير أيضًا في مجال علم اللغة أنه فرَّق بين اللغة (باعتبارها منظومة من الأصوات الدالة متعارفًا عليها في مجتمع معين وإن لم توجد كواقع منطوق لدى أي فرد من أفراده)، وبين الأقوال (وهي كل الحالات المتحققة من استعمالات اللغة ولا يكون واحد منها بل ولا يلزم أن تكون جميعها ممثلة للغة في كمالها ونقائها المثاليين) .( )
فانتقلت تلك الفكرة من علم اللغة إلى علم الأدب فأخذوا يفرِّقون بين الأدب (باعتباره نظامًا رمزيًا تحته نظم فرعية يمكن أن تُسمى الأنواع الأدبية، وبين الأعمال الأدبية (باعتبارها نصـوص متحققة يمكن أن تمثل هذه النـظم بكيفية ما أو بدرجة ما) .( )
ولا بدُّ لنا من الإشارةِ إلى ما قدمه سوسير بالنسبة إلى التحليل اللغوي، فلديه طريقتين متكاملتين غير متعارضتين، وهما في إطار العلاقات العمـودية والأفقية للغة .
فالعلاقة الأفقية هي وجود الكلمة داخل سياق معين، وغايتها معرفة ارتباط بعض الكلمات ببعض، أما العمودية أو الرأسية فهي إيجاد الكلمة أي ما تستثيره الكلمة من معنى خارج السياق من خلال علاقة هذه الكلمة بكلمات أخرى في الذاكرة، وغايتها معرفة علاقة الكلمة المذكورة في النص بالكلمات التي من واديها( ) .
ولكن نودُّ أن نُشيرَ في النهايةِ إلى أن سوسير ـ الأب الروحي للبنيوية ـ لم يكن منكرًا لقيمة الدراسة التاريخية، ولكنه رأى أن الدراسة التاريخية للظواهر اللغوية يجب أن تأتي تابعة لدراسة اللغة كنظام مستقل بفترة زمنية معينة وجماعة بشرية معينة، فمعرفة النظام يجب منطقيًا أن تسبقَ معرفة التغيرات التي تطرأ عليه( ) .
ويرى الباحث أنه كذلك، لم يهمل القيمة التاريخية بل رأى أن المناهج السابقة كانت تدرس الأدب من الخارج فتدرس الظاهرة الأدبية من خارجها ومرد ذلك الشروط التاريخية أو العوامل الباطنية للمؤلف، ومعنى هذا وإن صح التعبير في أن نقوله بأن الأدب كان أرضًا لا مالك، لذلك كان عرضه للعديد من المناهج والاختصاصات بعيدة كل البعد عن طبيعة الموضوع المدروس .
ومن تلك النقطة الجوهرية في رأي الباحث أصبح لزامًا أن يستقل الأدب بموضوعهِ وبمنهجهِ، فالمنهج الذي تقلد على عاتقهِ تخليص الأدب من تطاول مناهج العلوم على أرضهِ هو المنـهج البنيوي وكان صاحب الفضل في ذلك العالم دي سوسير .
وهكذا نجد تأثير إسهامات ( فرديناند دي سوسير )، العالم اللغوي من خلال كتابهِ "دروس في علم اللغة العام" في تطور النظرية البنائية فيما بعد .
ثانيًا : رومان جاكبسون( ) .
يعد جاكبسون الرجل المثال الذي فعل أكثر من غيره للحفاظ على دعوى المناهج اللغوية البنيوية في دراسة الأدب، والاعتماد على مقولات الألسُنيّة لوصف لغة النصوص الأدبية وإظهار خصائصها وتوسيع تلك الخصائص وإعادة تنظيمها .
وتنطلق مقولاته من أن الأدب في مقامه الأول لغة، وأن البنيوية منهج يتخذ من علم اللغة أساسًا له؛ لذلك يعمد إلى تطوير ثنائيات (التأليف والاختيار)، وينصب عمله بشدة في البحثِ عن تحقق الوظيفة الشعرية( ) في اللغة داخل الأدب .
ولهذا كانت من الأمور المهمة التي ظهرت عند جاكبسون، بأنه يدرس علاقة اللسانيات كما ظهرت عند دي سوسير بالشعرية( )، فيقول أن موضوع الشعرية تهتم بقضايا البنية اللسانية، وبما أن اللسانيات هي العلم الشامل للبنيات اللسانية، فإنه يمكن اعتبار الشعرية جزءًا لا يتجزأ من اللسانيات( ) .
ولعل هذا يقودنا إلى أن جاكبسون فعلاً هو مؤسس البنيوية الأدبية، كما حاول أن يدرسها في ضوء الشعرية وله دراسات وأبحاث على ذلك( )، ومما يؤكد ما ذهبنا إليه العالم ليونارد جاكسون حيث يرى أن جاكبسون هو مؤسس البنيوية الأدبية في أطروحته عام 1928، ويورد لنا جاكسون نصًا لجاكبسون يعود إلى فترة حلقة براغ، يقول فيه: "إذا كان علينا أن نحدد الفكرة التي تقود العلم الجمالي، بتجلياته الأشدّ تنوعًا، فمن الصعب أن نقع على خيار أنسب من البنيوية ...الخ"( ) .
ومن إسهاماته أيضًا في ذلك المجال، حيث وضع نظرية الاتصال والتي مفادها أن أي كلام أو قول نتفحصه نجد فيه رسالة تنطلق من مرسل إلى متلقٍ (مرسل إليه)( )، وهذه الرسالة هي سياق لا يمكن فَهمه إلا من خلال شيفره التماس اللغوي، وقد أثرت هذه النظرية في حركة النقد البنائي فيما بعد وخاصة عن شتراوس( ) .
ولا ننسى بأنه هو واضع علم الأصوات وهو تابًعا لعم اللغة، وذلك العلم الذي أضاف إلى علم اللغة البنيوي أبحاثًا جديدةً، حيث قالوا بأن علم الأصوات يؤكِّدُ نفس النظرية البنيوية من أن النسق الصوتي ليس مجموع من العناصر، ولكن ما يوجد بينها من علاقات( ) .
ثالثًا : فلاديمير بروب .
يعد (بروب) من الشكلانيين الذين بشروا ومهدوا الطريق للحركة البنائية في النقد، ويتميز بأنه ـ في المقام الأول ـ خصص كل أبحاثه لدراسة جنس أدبي شعبي هي الحكاية الخرافية أو حكايات الجن، وترجع أهمية هذه الأبحاث؛ إلى أنها ربما كانت الأولى لوضع قواعد عامة لقص الخرافي الجمعي الذي يعد بالنسبة إلى القص الفردي بمثابة اللغة بالنسبة للكلام على حد تعبير دي سوسير( ) .
إن بحث بروب الذي تناول جهد سلفه( )، بالنقد سار بالتحليل الشكلي للقصص شوطًا كبيرًا، يُعد البداية الحقيقة لمرحلة جديدة من تاريخ "علم القص"، حيث وضع أسس المنهج البنيوي عندما كشف عن وجود نموذج فريد للبنية الحكائية الخرافية الروسـية( ) .
يعد كتاب (مورفولوجية الحكاية الخرافية)، لبروب حصيلة هذا التخصص والذي أثار ضجة كبيرة لدى ترجمته إلى الانجليزية عام 1985م وذلك؛ لأن مفكرًا كبيرًا مثل شتراوس فقد كان قد أخذ في معالجته الأساطير بمنهج شديد الشبه بذلك المنهج لبروب، ونشر كتابه عن (الانثربولوجيا البنائية) مما جعل بعض النقاد يعتبره امتدادًا لمنهج بروب( ) .
لقد درس بروب محاولات تبويب القصص الخرافي ووجد أن معظم التبويبات التي سبقته( )، قد انصبت على الموضوعات والعناصر بناءً على دراسة مستفيضة لمائة قصة روسية، ووجد أن الوظائف( ) التي تقوم بها الشخصيات ثابتة بينما تتغير الشخصيات فقط، وهذا ما قاده إلى تعريف الوظيفة( ) قبل بدئه بدراسة الوظيفة في القصص، ووضع قوانين بنية الحكاية( ) .
فبروب حسب رأي نبيلة إبراهيم في كتابها (فن القص في النظرية والتطبيق)، يقترب في تحليله من البنيويين عندما يفرغ من التحليل الأفقي ويتجه إلى التحليل الرأسي، جامعًا بين المتعارضات في شكل حزم دلالية، فمغامرة البطل مثلاً لا تبدأ في الحكاية إلا الشعور بنقص أو تهديد والنقص قد يكون ماديًا، وقد يتمثل كذلك في غياب أحد أفراد الأسرة، وسواء بدأت الحكاية بنقص أو تهديد فإنها لا تنتهي إلا بزوال أسباب النقص أو التهديد .
ومعنى هذا أن هناك بنية أساسية في هذين النقيضين، تجمع بين النقيضين وهما التهديد أو النقص وزوالهما، وعلى هذا النحو تجتمع وحدتا انهزام البطل أمام القوة الشريرة وانتصاره، وكذلك وحدتا تسلط القوة الشريرة ثم القضاء عليها، ووحدتا خروج البطل وعودته( ).
ويعطينا هذا الرأي من نبيلة إبراهيم صورة جلية عن مساهمة بروب في وضع لبنات الثنائيات الضدية، التي أُغرقت فيها البنيوية فيما بعد التي أسسها بروب متزامنًا مع جهود ناقد بنيوي آخر وهو ( شتراوس ) .
رابعًا : كلود ليفي شتراوس( ) .
ومن أهم إسهاماته أنه نشر كتابه (الأبنية الأولية للقرابة) في باريس سنة 1948م، حيث درس فيه عن علاقات المحارم التي افتتحت عصر البنائية، حيث حدد أن الهدف من دراسته هذه هو ليس معرفة المجتمعات في نفسها، وإنما اكتشاف كيفية اختلافها عن بعضها البعض، فمحورها إذن هو مثل علم اللغة هو القيم الأخلاقية( ) .
وهذا يقودنا إلى أن شتراوس قد اعتمد اعتمادًا واضحًا على فكرة تقابل اللغة والكلام التي نادى بها رائد البنيوية الأول، حيثُ أننا نحس أنه ينقل كلام دي سوسير عن نظام اللغة واصطلاحاته مباشرة إلى المجال الأنثروبولوجي والاجتماعي .
فليفي شتراوس يتحدث مثلاً عن الوحدة ( سلوكًا كانت أو نظامًا اجتماعيًا أم وحدة لغوية )، التي تعد في حد ذاتها نظامًا مغلقًا ومتجانسًا من الإشارات، ثم تتجانس الوحدات من حيث إن كل إشارة أو مصطلح يكون موضوعًا لإشارة أخرى، ولا يكتشف مغزى هذه الإشارات إلا عندما تتحد داخل نظام كلي، وهذا الكلام كما نلاحظ يتفق مع فكرة نظام اللغة عند دي سوسير( ) .
وكما نلاحظه بأنه قد طبق المنهج الصوتي عند سوسير على دراسته الأنثروبولوجية فيرى أن علاقات القرابة مثلها مثل الحروف في الصوتيات في أنها عناصر للدلالة، كما أنه لا تكتسب دلالتها إلا بشرط أن تنخرط في نظم خاصة كالحروف تمامًا( ) .
وهو بهذا يستلهم صرخة علم اللغة السوسيري في دراسة الأساطير والشعائر وأبنية القرابة، ويقدم كما يقول كللر: " أشمل وأروع نموذج للتحليل البنيوي ظـهر حتى الآن )") .
وله كتاب آخر بعنوان (ميثولوجيات)، يعمد فيه إلى محاولةٍ لجمع أساطير( ) قارات أمريكا الشمالية والجنوبية؛ بغرض إظهار علاقاتها وإثبات قواها الموحدة للعقل البشري ووحدة منتجاته( ) .
إن شتراوس يرى أن الأساطير كلام (نظام رمزي) الذي يمكن اكتشاف وحداته وقواعده التركيبية، ومن ثم فإن جزءًا من اللغة (مجموعة جمل) يمكنها أن تعرفنا نظام اللغة كله، فإن الأساطير كذلك حيث هي لا تُمثل سوى أداء جزئي خاص وعفوي لأسطورة مثالية كلية ذات هيكل عام يُعتبر كاللغة بالنسبة لمظـاهر القول المتعددة، وهذا النظام يهدف العالِم في دراسته إلى البحث عن بنيته محللاً الأساطير التي تعد مظاهر تنفيذية محددة له( ) .
وقد كانت مساهمة شتراوس المهمة في الدراسات اللاحقة تتمثل في نظريته التي تقوم على أساس أن بناء الكون يتمثل في مجموعات من الثنائيات التي تبدو متعارضة، ولكنها متكاملة في الوقت نفسه، إذ لا يمكن أن يتم هذا التكامل إلا من خلال هذا التناقض والحياة المبنية على أساس من هذا التكامل( ) .
ومن هذه الرؤية ينطلق التحليل البنائي في تفتيت العمل الأدبي وتحليله إلى تلك الثنائيات، مثل: (الموت والحياة، والنقص والكمال، والهرم والشباب، والنور والظلام)، وإلى موقف الإنسان من هذه الثنائيات وصراعه معها وقد تأثر شتراوس في ثنائيات سوسير كما اشرنا في الدراسات الصوتية في صياغة نظريته هذه( ) .
أما المنطلق الفكري لهذه الثنائيات ترجع وتعود إلى الخلفية الفكرية لشتراوس القائمة على أبحاثه المستفيضة في دراسة المقابلة بين الطبيعة والحضارة .
ويرى كلود ليفي شتراوس، أن المنهج البنياني (الألسنيات، أو الإناسة)، يقوم على تعيين أشكال ثابتة في صلب مضامين مختلفة، أما التحليل البنياني، فهو يقوم على البحث عن مضامين متواترة خلف أشكال متبدّلة( ) .
إذن فهو يفرق بين المنهج وتحليله، وهذا يدفعنا إلى القول بأنه ينقد ويعيب على النقد الأدبي البنيوي؛ لأنه ينحصر النقد ضمن نسبية متعادلة بين الدراسة
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام