الفصل الأول
The New Global Economic Order
النظام الاقتصادي الشامل الجديد
يحلل هذا الكتاب عولمة الاقتصاد العالمي و تأثيراتها الحقيقية أو المفترضة على العلاقات الاقتصادية الدولية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت العولمة الظاهرة الأبرز على مسرح الأحداث الاقتصادية الدولية، و إلى حد ما على الأحداث السياسية كذالك. لكن و كما سأناقش خلال هذا الكتاب، بالرغم من كون العولمة اصبحث الظاهرة الأكثر تأثيرا على الاقتصاد العالمي في قرنه الحادي و العشرين، فان مدى و أهمية العولمة الاقتصادية قد بولغ فيها و أسيء فهمها في كل من النقاشات العامة و المتخصصة؛ العولمة في حقيقتها ليست بذاك المد و الاجتياح في نتائجها ( سلبية أم ايجابية) الذي يعتقده العديد من الملاحظين المعاصرين. لا يزال عالمنا تشكل فيه السياسات الوطنية و الاقتصاديات المحلية المحددات الأساسية للأحداث الاقتصادية. العولمة و ازدياد الاعتماد المتبادل الاقتصادي فيما بين اقتصاديات الدول هي تأكيدا ذات أهمية كبرى؛ لكنه و كما تمت الإشارة له من قبل فينسنت كايبل من المؤسسة الملكية للأحداث الدولية ، فان الانجازات الاقتصادية الكبرى لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمثلت في الرجوع إلى مستوى الاندماج الاقتصادي الدولي الذي تم بلوغه قبيل الحرب العالمية الأولى.1
افتقد كتابي، لسنة 1987، إلى بعد داخلي. لقد حلل الاقتصاد الدولي في شبه تجاهل للتطورات الاقتصادية المحلية( الداخلية) معتبرا تأثيراتها غير ذات أهمية. يعود سبب هذا التجاهل في احد جوانبه إلى رغبتي في المساعدة على تطوير حقل علاقات اقتصادية دولية مستقل و متكامل. هذا الكتاب يسعى إلى تجاوز ذاك النقص غير المقصود من خلال التركيز على ما أسميته " الأنظمة الوطنية للاقتصاد السياسي" و أهميتها لكل من الأحداث الاقتصادية المحلية و الدولية. فمع تزايد اندماج الاقتصاديات الوطنية فان أهمية الاختلافات الجوهرية فيما بين الاقتصاديات ازدادت بشكل كبير. كما أن كتابي لسنة 1987 اتصف بالعديد من النقائص، بما في ذالك تعاطيه مع الشركات المتعددة الجنسيات، النمو الاقتصادي، و الاقتصاد الجهوي؛ فبالرغم من أني قد ناقشت كل هذه المواضيع المهمة آن ذاك ، لكن ما زال الكثير ليقال على ضوء ما استجد من تطورات .
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي حدثت ثورة في الشؤون الاقتصادية الدولية سببتها الشركات المتعددة الجنسيات و الاستثمار الأجنبي المباشر بتأثيراتهما القوية على كل مظاهر الاقتصاد العالمي تقريبا. في الستينيات و السبعينيات غير تنامي التجارة الدولية الشؤون الاقتصادية الدولية. ما ترتب عنه، في الثمانينيات، توسعا للشركات الكبرى ما وراء البحار، هذا التوسع زاد في إدماج تدريجي للاقتصاديات الوطنية فيما بينها إلى أن أصبح كليا. و أكثر من هذا، ففي الوقت الذي كان فيه مصطلح " متعدد الجنسيات" مرادفا لتوسع الشركات الأمريكية، انضمت في الثمانينيات شركات من جنسيات أخرى إلى ركب تعدد الجنسيات. و أهم ما برز هو أن الشركات المتعددة الجنسيات فتحت الطريق لتدويل كل من الخدمات و الإنتاج الصناعي.
مناقشتي للتطورات الاقتصادية في كتاب 1987 تجاوزها الزمن كليا؛ فالدارسون آن ذاك ركزوا اهتماما جديا على نظرية التبعية الماركسية و على الانقسام العميق فيما بين الدول الأقل تطورا و العالم المتقدم. أما اليوم فان النقاش حول التطور الاقتصادي يركز على الدور المناسب للدولة و السوق في سيرورة التطور. في خاتمة كتاب 1987 أشرت إلى الاقليمية الاقتصادية على أنها موجة المستقبل. و اليوم فان تلك الاقليمية الاقتصادية قد بلغت مرحلة الطوفان الجارف و أصبح لها تأثيرا مميزا على الاقتصاد الدولي. كما أن التطورات المالية لأواسط الثمانينيات زادت بشكل كبير من اندماج الاقتصاد العالمي، لذا فإنها تحتاج إلى التركيز و الاهتمام. كما أن هذا الكتاب يتناول مسالة ما إذا كان تنامي دور السوق في تنظيم و عمل الاقتصاد الشامل يعني نهاية الدولة- الأمة و العلاقات الاقتصادية الدولية كما تم التعريف لهذا المصطلح في هذا الكتاب. أولئك المطلعون على أعمالي القديمة لن يتفاجؤوا كوني انفي ذالك.
The principal purpose of this book is to draw upon these real worlds
الغاية الأساسية لهذا الكتاب هي امتصاص ما في هذا العالم من حقائق و استنتاج ما في النظريات الحديثة من تطورات من اجل تشكيل صورة أكثر وضوحا مما ورد في منشوراتي السابقة عن العلاقات الاقتصادية الدولية. في الكتاب المتنوع ل 1987 قدمت ما اعتبرت أهم مقاربات ثلاث للعلاقات الاقتصادية الدولية- الليبرالية ،و الماركسية ، و الوطنية؛ أما هذا الكتاب فهو يعتمد صراحة مقاربة واقعية أو مقاربة الدولة-المركز في تحليله للاقتصاد الدولي. بخلاف العديد من الكتابات المعاصرة حول الاقتصاد الشامل، فانا اعتقد بان الدولة-الأمة تبقى الفاعل المسيطر في كل من الأحداث الاقتصادية المحلية و الدولية. مقتنعا بان كلا التحليلين الاقتصادي و السياسي ضروريان لفهم آليات عمل الاقتصاد الدولي ، فان هذا الكتاب يدمج فيما بين النمطين المختلفين في التحري الأكاديمي ( البحث الدراسي).
تغيرات في الاقتصاد العالمي
المحفزات الكبرى لهذا الكتاب تمثلت في التغيرات الهائلة التي حدثت في الاقتصاد الدولي منذ 1987. بطبيعة الحال تمثل التغير الأهم في انتهاء الحرب الباردة و معها التهديد السوفيتي على الولايات المتحدة و حلفائها الأوربيين و اليابان.ففي خلال النصف الأخير من القرن العشرين، شكلت الحرب الباردة و التحالفات المنجرة عنها الإطار الذي من خلاله تم توظيف الاقتصاد العالمي. فالولايات المتحدة و حلفاؤها الكبار اخضعوا خلافاتهم الاقتصادية لمتطلبات الحفاظ على التعاون السياسي و الأمني. فالتركيز على المصالح الأمنية و نسق التحالف شكل الاسمنت السياسي الجامع الذي مكن من الإبقاء على تلاحم الاقتصاد العالمي و سهل التفاهم حول الخلافات الوطنية المهمة المرتبطة بالقضايا الاقتصادية. مع انتهاء الحرب الباردة، ضعفت القيادة الأمريكية و التعاون الاقتصادي فيما بين القوى الرأسمالية. و بالموازاة اتسع العالم المتجه نحو اعتماد (قانون) السوق بشكل كبير بفعل رغبة العديد من الدول الشيوعية السابقة و دول العالم الثالث المشاركة في نظام السوق؛ و لقد تمثل هذا في ازدياد نشاط الدول المتخلفة في منظمة التجارة العالمية. و في الوقت الذي رحب بهذا التطور، فانه زاد في صعوبة تسيير النظام الاقتصادي الشامل.
ترتب عن العولمة الاقتصادية عدة تطورات مهمة بفعل الشركات المتعددة الجنسيات2 في ميادين التجارة ، و المال ، و الاستثمار الأجنبي المباشر. لقد نمت التجارة الدولية بوتيرة أسرع من الإنتاج الاقتصادي الشامل(العالمي). فإلى جانب التوسع الكبير في تجارة المنتجات (السلع)، فان التجارة في الخدمات (البنوك، المعلومات، الخ.) سجلت نموا معتبرا. مع انخفاض تكاليف النقل، العديد من السلع أصبح "يتاجر بها." مع الاتساع الكبير في التجارة العالمية، ازدادت المنافسة الدولية بشكل كبير. و بالرغم من ان المستهلكين و قطاعات التصدير داخل الدولة الواحدة تستفيد من الانفتاح المتزايد، فان العديد من الأعمال تجد نفسها في منافسة ضد شركات أجنبية طورت فاعليتها. إبان الثمانينيات و التسعينيات صارت المنافسة التجارية أكثر حدة لان عددا اكبر من الاقتصاديات الحديثة التصنيع من شرق أسيا و مناطق أخرى غيرت إستراتجيتها التنموية من إحلال الواردات إلى التصدير. لكن و على الرغم من هذا فان المنافسين الكبار للشركات الأمريكية هي شركات أمريكية أخرى.
هناك مجموعة من التطورات التي مهدت للتوسع التجاري الشامل. فمنذ الحرب العالمية الثانية، تراجعت الحواجز تراجعا معتبرا أمام التجارة بفعل الجولات المتتالية للمباحثات حول التجارة. ففي خلال النصف الأخير من القرن العشرين انخفض متوسط التعاريف الجمركية للولايات المتحدة و الدول الصناعية الأخرى من حوالي أربعين بالمائة إلى ستة في المائة ، كما أن الحواجز أمام المتاجرة في الخدمات تم تخفيضها كذالك3. زيادة على هذا، فمن أواخر السبعينيات فما فوق فتحت، مراجعة القوانين و الخصخصة، الاقتصاديات الوطنية بشكل أكثر للاستيراد. كما أن التطور التكنولوجي في وسائل النقل و الاتصال خفض من التكاليف و بالتالي شجع بشكل كبير التوسع التجاري. مستغلين هذه التغيرات الاقتصادية و التكنولوجية، زادت مشاركة العديد من أرباب الأعمال في الأسواق الدولية. لكنه و بالرغم من هذه التغيرات، فان غالبية التبادل التجاري يتم فيما بين الاقتصاديات الصناعية المتطورة الثلاث- الولايات المتحدة، أوروبا الغربية و اليابان بالإضافة إلى الأسواق التي ظهرت حديثا في شرق آسيا و أمريكا اللاتينية و مناطق أخرى. أما غالبية الدول المتخلفة فهي مستثناة عدا المصدرة للأغذية و المواد الأولية. مثلا قدرت مساهمة إفريقيا جنوب الصحراء في التجارة العالمية الكلية بحوالي واحد في المائة طيلة فترة التسعينات.
منذ أواسط السبعينيات، ساهم كل من إعادة التقنين، و خلق أدوات مالية جديدة، كالتفريعات، التطور التكنولوجي في الاتصالات، في اندماج النظام المالي الدولي بشكل كبير. فحجم الاتجار بالعملة الصعبة(بيع وشراء العملات الوطنية) بلغ أواخر التسعينات حوالي 1.5 تريليون دولار في اليوم، أي انه تضاعف بمقدار ثماني مرات منذ العام 1986؛ على النقيض من ذالك فان حجم الصادرات الكلي (للسلع و الخدمات) لمجمل سنة 1997 كان 6.6 تريليون دولار ، أو 25 مليار دولار في اليوم! إضافة إلى هذا فان القيمة المالية للرأسمال الاستثماري الباحث على المردود الكبير ازداد ضخامة؛ فمع منتصف التسعينيات بلغت القيمة المالية للصناديق المشتركة و صناديق التقاعد و ما شابهها 20 تريليون دولار ، أي أنها تضاعفت بثماني مرات عن قيمة ما كانت عليه في 1980. و الأكثر، هو أن معنى هذه الاستثمارات الكبيرة زاد تضخيمه بفعل كون جزء كبير منه (الاستثمار الأجنبي) مقترض؛ أي أنها استثمارات مقترضة من صناديق مالية. أخيرا فان التفرعات أو الضمانات المحددة و أرصدة مالية أخرى تلعب دورا هاما في (النظام) المالي الدولي. لقد قيمت بحوالي 360 تريليون دولار( أي أكثر من القيمة الكلية للاقتصاد العالمي)، و زادت في تعقيد و عدم استقرار النظام المالي الدولي. من البديهي إذن أن يكون للنظام المالي الدولي تأثير عميق على الاقتصاد الشامل.
لقد ربطت الثورة المالية الاقتصاديات الوطنية فيما بينها بشكل أكثر وزادت من توفير الرساميل للدول النامية. و بما أن هذه التدفقات المالية قصيرة المدى، و عديمة الاستقرار و مضارباتية، فان النظام المالي الدولي أصبح، يتسم بسمة عدم استقراره، و هي الظاهرة الأبرز في النظام الاقتصادي الرأسمالي الشامل. إن الحجم الكبير و السرعة و الطبيعة المضارباتية لحركية الأموال فيما بين حدود الدول جعل الحكومات أكثر تعرضا للتقلبات المفاجئة لمثل تلك التحركات المالية. لذا فان الحكومات تصبح فريسة سهلة للمضاربين بالعملات ، على غرار ما حدث في الأزمة المالية الأوروبية لسنة 1992 ، و التي كانت السبب وراء انسحاب بريطانيا العظمى من آلية مستوى التبادل الأوروبي، و كذالك في الانهيار العقابي للبيزو المكسيكي سنة 1994/95 ، و كذالك أثناء الأزمة المالية الرهيبة لشرق آسيا أواخر التسعينيات. و في الوقت الذي بدا للبعض بان العولمة المالية تجسيد لنجاح رأسمالية شاملة صحية و مفيدة للجميع، فانه تراءى لآخرين بان النظام المالي الدولي قد خرج عن السيطرة و ينبغي إعادة ضبطه. و في كلتا الحالتين ، فان النظام المالي الدولي هو الميدان الأجدر بمصطلح "العولمة".
ظهر مصطلح "العولمة" في الاستعمال العام في النصف الثاني من الثمانينيات مرتبطا بالبروز الكبير للاستثمار الأجنبي المباشر من قبل الشركات المتعددة الجنسيات. لكن كلا من الشركات المتعددة الجنسيات و الاستثمار الأجنبي المباشر كانا متواجدان منذ قرون في شكل شركة الهند الشرقية و "التجار المغامرون". في العقود الأولى لما بعد الحرب، فان غالبية الاستثمار الأجنبي المباشر كان من صنع الشركات الأمريكية، و الولايات المتحدة كانت تستقبل مقادير قليلة منه من شركات غير أمريكية. لكن و في الثمانينات، توسع الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير و بوتيرة أسرع من توسع التجارة العالمية و الناتج الاقتصادي الشامل. ففي العقود الأولى لما بعد الحرب، أصبح اليابانيون و الأوروبيون الغربيون و جنسيات أخرى مستثمرون كبار و أصبحت الولايات المتحدة الدولة الأكبر اقتصاديا و الأكثر استقبالا للاستثمار. و كنتيجة لهذه التطورات ، فان تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من الدول الصناعية الكبرى إلى الدول السائرة في طريق التصنيع ارتفع بحوالي 15% سنويا. و النصيب الأكبر للاستثمار الأجنبي المباشر ذهب، بطبيعة الحال، للدول الصناعية، خاصة الولايات المتحدة و دول أوروبا الغربية. و القيمة التراكمية للاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغت مئات الملايير من الدولارات. إن الشطر الأكبر من هذه الاستثمارات كان في الخدمات، و خاصة في الصناعات ذات التقنية العالية كالسيارات و تكنولوجيا المعلومات. و في واقع الأمر، فان المعلومة ذاتها أصبحت أداة "للاتجار"، و هو ما يطرح مسائل جديدة في التجارة الدولية كحماية حقوق الملكية الفكرية و سبل دخول السوق بالنسبة للخدمات الصناعية. بالتناسق مع التوسع التجاري و التدفق المالي ، فان ازدياد أهمية الشركات المتعددة الجنسيات غير و بشكل كبير الاقتصاد الدولي.
بالرغم من أن نهاية الحرب الباردة هي من وفرت المتطلبات السياسية الضرورية لإقامة اقتصاد شامل حقيقي، فان التطورات الاقتصادية و السياسية و التكنولوجية هي من كانت الدافع خلف العولمة الاقتصادية. فالتقنيات المتجددة في ميدان النقل تسببت في خفض التكاليف، و خاصة النقل عبر المحيطات، الذي انخفضت تكاليفه بشكل كبير، ما فتح المجال لإمكانية قيام نظام تجاري شامل. اظافة إلى هذا ، فان تطورات الحاسوب و الاتصالات زادت و بشكل كبير في التدفقات المالية الشاملة ؛ و كانت لهذه التطورات الأهمية القصوى في تمكين الشركات المتعددة الجنسيات من اتباع و انتهاج نشاطات و استراتيجيات اقتصادية ذات بعد شامل. إن تحجيم الزمن و المساحة بفعل هذه التغيرات التكنولوجية خفض و بشكل لافت، في تكاليف التبادل السلعي فيما بين الدول. كما أن العولمة هي نتاج التعاون الاقتصادي الدولي و السياسات الاقتصادية الجديدة. فتحت القيادة الأمريكية، اتخذت الاقتصاديات الصناعية و الحديثة التصنيع مبادرات عدة لتخفيض الحواجز أمام التجارة و الاستثمار. فثماني جولات من المباحثات الجماعية حول التجارة تحت مسمى الاتفاقية العامة للتجارة و التعاريف الجمركية، المنتدى الأساس من اجل تحرير التجارة، خفض و بشكل واضح الحواجز أمام التجارة. تزامنا مع هذا فان عددا اكبر من الأمم انتهج سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة كإعادة التقنين و الخصخصة. نتج عن كل هذه التطورات توجها واضحا للاقتصاد الشامل نحو(اعتماد) مبدء السوق(في تعاملاته).
يؤمن العديد من الملاحظين بان انتقالا عميقا بدا يأخذ مجراه ، فمن اقتصاد عالمي تتحكم الدولة في السيطرة عليه إلى اقتصاد عالمي تتحكم السوق في دواليبه. و يحاجج الكثير، بان البشرية تسير بسرعة نحو عالم بدون حدود سياسية.4 فسقوط الاقتصاد السوفيتي الموجه، و فشل إستراتيجية إحلال الواردات (لدول) العالم الثالث، و النجاحات الاقتصادية الباهرة للاقتصاد الأمريكي في التسعينيات شجعت على القبول بأسواق غير مقيدة على أنها الحل للإمراض الاقتصادية في المجتمع المعاصر. و على اعتبار أن إعادة التقنين و إصلاحات أخرى حدت من دور الدولة في الاقتصاد، امن العديد بان الأسواق أصبحت هي الإلية الأهم المحددة لكل من الاقتصاد المحلي (الداخلي) و الدولي ، بل أنها محددة للشؤون السياسية كذالك. ففي ظل اقتصاد شامل عالي الاندماج ، أصبحت الدولة-الأمة، بحسب هذا التفسير شيئا من الماضي و في تراجع مستمر. يعتقد كثيرون بان تراجع (دور) الدولة سيؤدي إلى اقتصاد رأسمالي مفتوح و شامل في حقيقته ، مواصفاته تجارة غير مقيدة، تدفقات مالية، و نشاطات عالمية للشركات المتعددة الجنسيات.
على الرغم من أن غالبية الاقتصاديين و كثيرون من غيرهم رحبوا بهذا التطور، فان النقاد يركزون على " التكاليف المرتفعة" للعولمة الاقتصادية، و التي من ضمن ما تشتمل عليه الزيادات غير المتكافئة في المداخيل سواء فيما بين الدول أو داخل الدول نفسها، أي فيما بين الأفراد، و ارتفاع نسب البطالة المزمنة في أوروبا الغربية و مناطق أخرى، و الأكثر من هذا كله، الإضرار بالبيئة، ،و انتشار الاستغلال،إلى جانب الأضرار المترتبة على الاقتصاديات الوطنية و الناجمة عن التدفقات المالية الدولية غير المضبوطة. هذه الانتقادات تجزم بان المجتمعات الوطنية هي بصدد الاندماج القصري في نظام اقتصادي شامل، أين تتقاذفها قوى اقتصادية و تكنولوجية يصعب فيها التحكم أو لا يتحكم فيها أصلا.إنهم يعتبرون مشاكل الاقتصاد الشامل على أنها الدليل على أن تكاليف العولمة أعلى بكثير من منافعها. بتبصرتهم لعالم يتصف بالصراع الاقتصادي الحاد على كلتا المستويين الداخلي و الدولي، و بإيمانهم في أن اقتصادا عالميا مفتوحا سينتج حتما خاسرين أكثر من رابحين، فان المنتقدين يحاججون بان إطلاق اليد الطولى للأسواق و لقوى اقتصادية أخرى أدى إلى زيادة حدة الصراع فيما بين الأمم، و فيما بين الطبقات الاقتصادية، و فيما بين الفئات القوية. و يصر الكثيرون على ما اسماه المستشار الألماني السابق هلموت شميث "بالصراع على المنتوج العالمي" سيترتب عنه تجمعات جهوية متنافسة تسيطر عليها إحدى القوى الاقتصادية الكبرى.
إن فكرة كون العولمة هي المسؤولة عن غالبية مشاكل العالم الاقتصادية و السياسية و غيرها هي إما أنها مقولة خاطئة من الأساس أو أنها فكرة مبالغ فيها. و حقيقة الأمر هي ان عوامل أخرى، كالتطورات التكنولوجية و السياسات الوطنية غير الحذرة، هي العوامل الأكثر أهمية من العولمة كمتسبب لكثير، إن لم يكن لغالبية المشاكل التي تتهم العولمة أنها المتسببة فيها. لكن المؤسف هو أن سوء فهم العولمة و تأثيراتها، أسهم في تنامي الإحباط في ظل انفتاح الحدود أمام التجارة و الاستثمار، و هو ما أدى إلى تنامي الاعتقاد بان للعولمة تأثيرات سلبية كبيرة على العمال، و المحيط و الدول المتخلفة. فبحسب استبيان أمريكي للرأي اخذ في ابريل 1999، كانت ل 52% من المشاركين وجهة نظر سلبية حول العولمة5. لكنه و برغم كون العولمة ظاهرة مهمة في الاقتصاد الدولي، بإسهامها في تغيير العديد من مواضيع العلاقات الاقتصادية الدولية، تبقى الحقيقة هي كون العولمة ليست بالانقلابية ولا الواسعة الانتشار ولا ذات الأهمية التي يريد الكثير إقناعنا به. فغالبية الاقتصاديات الوطنية ما زالت مقيدة بحدودها و ليست معولمة؛ كما أن العولمة ما زالت محصورة في حيز ضيق، و لو انه في اتساع مستمر، من القطاعات الاقتصادية. و أكثر من هذا هو أن العولمة محصورة بشكل كبير في ثلاثية من الدول الصناعية- الولايات المتحدة و أوروبا الغربية، و إلى حد اقل، اليابان- و إلى الأسواق البازغة في شرق آسيا. و الأكثر أهمية هو أن العديد من التهجمات على العولمة من قبل منتقديها ليست في محلها؛ الكثير ، بل أن غالبية، "المساوئ " هي في حقيقتها نتاج تغيرات ذات علاقة محدودة ، إن لم تكن منعدمة مع العولمة.
تزامنت نهاية الحرب الباردة و تنامي العولمة الاقتصادية مع ثورة صناعية جديدة قاعدتها الحاسوب و بروز المعلوماتية أو اقتصاد الشبكة (العنكبوتية). فالتطورات التكنولوجية هي تقريبا بصدد إعادة تشكيل كل المظاهر السياسية و الاقتصادية و الشؤون الاجتماعية، لان قوة الحاسوب أمدت الاقتصاد العالمي بحافز قد يرقى في تأثيراته إلى تلك التي أحدثتها قوة البخار، الطاقة الكهربائية، و الطاقة النفطية. لكن المختصين الاقتصاديين منقسمون حول ما إذا كانت قوة الحاسوب تشكل ثورة تكنولوجية ترقى إلى مستوى الثورات السابقة. فعلى الرغم من كون الحاسوب يبدو انه زاد في سرعة وتيرة الاقتصاد و وتيرة تنامي الإنتاجية ، فانه لم يئن الأوان بعد لمعرفة ما إذا كان تأثيره النهائي قادر على التأثير على الاقتصاد عامة بالشكل الذي اثر به اكتشاف و استعمال الدينامو . لكن عددا متزايدا من الاقتصاديين يعتقدون بان للحاسوب تأثيرات عميقة لا على الإنتاجية فحسب بل على الشؤون الاقتصادية عامة. و مثال ذالك أن بعضا من الاقتصاديين يعتقدون بان تنظيم و عمل الاقتصاديات الوطنية تقوم بتغيرات كبيرة تجاوبا مع الحاسوب و الشبكة العنكبوتية. و على الرغم من انه لم يحن الوقت بعد لقياس التأثير الكلي للحاسوب على الاقتصاد ، فانه يمكن الجزم بان الحاسوب و اقتصاد المعلوماتية يغيران بشكل كبير العديد من مظاهر الشؤون الاقتصادية. و التأثيرات الأهم هي تلك الحاصلة في الدول الصناعية، أين تم تسريع الانتقال من التصنيع إلى الخدمات ( مالية ، برمجية ، و تبادلية ، الخ.). إن إعادة ترتيب الاقتصاد في جميع مظاهره في الدول الصناعية هو مكلف اقتصاديا و صعب سياسيا.
خلال العقود الأخيرة للقرن العشرين ، حدث تحول مهم في توزيع الصناعة العالمية من الاقتصاديات الصناعية القديمة- الولايات المتحدة ، أوروبا الغربية، و اليابان – باتجاه آسيا (المحيط) الهادي، و أمريكا اللاتينية، و الاقتصاديات الأخرى السريعة التصنيع. و على الرغم من ان الولايات المتحدة و الاقتصاديات الصناعية الأخرى ما زالت تمتلك النسبة الأكبر من الثروة الكلية و الصناعة، فإنها تراجعت بالمقارنة (و ليس في أسسها) مع (الدول الحديثة التصنيع) ، في حين إن الاقتصاديات الصناعية حديثا، خاصة الصين، ازدادت أهميتها الاقتصادية. فقبل الأزمة المالية التي بدأت في تايلندا و أدت إلى جر جنوب شرق آسيا في دوامة سياسية و اقتصادية، كانت النجاحات الاقتصادية لآسيا (المحيط) الهادي جد معتبرة، و العديد من تلك الاقتصاديات حقق معدلات نمو سنوية قاربت في متوسطها 6 إلى 8 في المائة. و بالرغم من الأزمة المالية ، فان "الأسس" الاقتصادية، كمستويات الادخار المرتفعة و القوى العاملة الجيدة، تدعم القناعة في كون هذه الأسواق البازغة ستستمر في لعب دورها الفعال في الاقتصاد الشامل.
انتشرت الجهوية الاقتصادية (التجمعات الاقتصادية الإقليمية) بفعل التطورات السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية.فمقارنة مع الحركات الجهوية السابقة للخمسينيات و الستينيات (و التجمع الاقتصادي الأوروبي هو المثال الوحيد الباقي من تلك الحركات)، فان التجمعات الإقليمية الجديدة لها التأثير الأهم على الاقتصاد الشامل.فهذه الحركة في بداية القرن الحادي و العشرين هي جامعة؛ و الاقتصاديات الأساسية،مع استثناءات قليلة من ضمنها الصين اليابان و روسيا، كلها أطراف في ترتيبات جهوية رسمية. فالتجمعات الإقليمية و هي على عتبة القرن الحادي و العشرين يترتب عنها ازدياد في جهوية الاستثمار الخارجي و في الإنتاج و في نشاطات اقتصادية أخرى. و بالرغم من انه لا يوجد تفسير واحد لهذه التطورات ، فان كل ترتيب جماعي إقليمي يمثل مجهدات تعاونية من قبل الدول فرادى لترقية أهدافهم السياسية و الاقتصادية الفردية و الجماعية. الترتيبات الإقليمية الاقتصادية تشكل رد فعل مهم من قبل الدول-الأمم (لمعالجة) المسائل السياسية المشتركة و (لمواجهة) اعتماد متبادل أوسع، و اقتصاد شامل أكثر تنافسا.فمع تزايد اندماج الاقتصاد الدولي، فان التجمعات الجهوية للدول زادت من تعاونها بهدف تقوية استقلاليتها و تحسين مواقعها أثناء المساومات و ترقية أهداف سياسية/اقتصادية أخرى.التجمعات الإقليمية ليست بديلا للدولة-الأمة، كما قد يعتقد البعض، بل أنها تتقمص مجهودات الدول فرادى في تعاون جماعي لترقية مصالحهم الوطنية الأساسية و تجسيد طموحاتهم.
هذه التطورات جعلت من مسالة التسيير الراشد للاقتصاد الشامل مطلبا ملحا. فحكم راشد و فعال يتطلب اتفاقا حول أهداف الاقتصاد الدولي.في أثناء الحرب الباردة ، كان الهدف الأساس للاقتصاد العالمي هو تقوية الاقتصاديات المناهضة للتحالف السوفيتي و تمتين اتحاد الولايات المتحدة و حلفائها؛ و هذا الهدف تطلب في العديد من المرات القبول بالتمييز التجاري و سياسات غير ليبرالية أخرى. أما اليوم فان عديدا من الأمريكيين و آخرين معهم، يصرون على أن هدف التسيير الراشد ينبغي أن يهدف إلى ترقية حرية لا محدودة لأسواق مفتوحة. فهم يعتقدون بان القواعد التي تحكم الاقتصاد الشامل، لابد أن تكون مقودة بالمواصفات السياسية للاقتصاد النيوكلاسيكي(الحديث) و قائمة على قاعدة قانون السوق. فحرية التجارة و حرية انتقال رؤوس الأموال و حرية نشاط الشركات المتعددة الجنسيات في جميع أسواق العالم، ينبغي لها أن تشكل أهداف التسيير الراشد الدولي. فمع انتصار السوق، فان المنطق الاقتصادي و الفاعلية المرتبطة بالاقتصاديات الوطنية لابد أن تحدد كيفية توزيع النشاطات الاقتصادية و الثروة ( و بطبيعة الحال، القوة) حول العالم. و في الجهة المقابلة، فان منتقدي العولمة يتحدون هذا التركيز على أهمية الحرية الاقتصادية و انفتاح الأسواق.
على الرغم من تزايد أهمية السوق، فان التجربة التاريخية تشير إلى أن غاية النشاطات الاقتصادية لا تحددها في آخر المطاف الأسواق و لا الوصفات الاقتصادية التقنية فقط، و لكن كذالك (إن بطريقة ضمنية أو علنية) عادات و قيم و مصالح الأنظمة الاجتماعية و السياسية التي تتجذر فيها النشاطات الاقتصادية. و بالرغم من أن العوامل الاقتصادية سيكون لها دور مهما في تحديد طبيعة الاقتصاد الشامل، فان العوامل السياسية ستكون في مستوى أهمية ، و ربما تكون ذات الأهمية الأكبر. فطبيعة النظام الاقتصادي الشامل ستتأثر بصفة كبيرة بالمصالح الأمنية و السياسية ، و بالعلاقة فيما بين، القوى الاقتصادية المسيطرة، بما في ذالك الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، اليابان، الصين و روسيا. فمن المستبعد جدا أن تدع هذه القوى توزيع المنتوج الاقتصادي الشامل و تأثيرات القوى الاقتصادية على مصالحها الوطنية في مجملها، لعامل السوق. إن كلا من الفاعلية الاقتصادية و الطموحات الوطنية هي قوى دافعة في الاقتصاد الشامل للقرن الحادي و العشرين.
في هذا الكتاب انتهجت مقاربة "ّالاقتصاد السياسي" التي تدمج التحليل السياسي و الاقتصادي بنماذج دراسية تحليلية أخرى. فالنظريات الاقتصادية القديمة تمدنا بالأدوات الضرورية التي تسهل تفهم التطورات الاقتصادية؛ فنظرية التجارة الدولية التقليدية، استفادت من الأغوار الجديدة لنظرية التنظيم الصناعي، كما أن التطورات النظرية في علم الاقتصاد تمدنا بأفكار إضافية مهمة. لكن النظريات الاقتصادية لوحدها غير كافية لفهم التطورات، و مدلولاتها، على الشؤون الاقتصادية و السياسية. علينا أن نستمد كذالك من أفكار و أغوار التاريخ و علم السياسة و العلوم الاجتماعية الأخرى. باختصار ، فان "ّاقتصاد سياسي" حقيقي هو مطلب ضروري من اجل فهم متطور لما قد يترتب من تطورات جديدة لشؤون اقتصادية دولية، و داخلية عند الضرورة.
إن كثافة و أهمية المناقشة حول تغيرات طبيعة الاقتصاد العالمي تجرنا لمفارقة مقلقة. ففي نفس الوقت الذي تصدرت فيه المسائل الاقتصادية الاهتمامات الوطنية، نجد أن الاقتصاد، كاختصاص، تراجع الاهتمام به من واقع الأحداث الدولية. إن ازدياد تركيز العلوم الاقتصادية على النماذج المجردة، و على النظريات الرياضية ، خلال عقود عديدة، قلص بشكل تدريجي من أهمية الاقتصاد في المناقشات العامة بحيث أصبح صعب الفهم، لا من على العامة فحسب بل حتى على الفر قاء الأكاديميين كذالك. و يعد هذا شيئا مؤسفا لان الاقتصاد، رغم طبيعته الغامضة، هو في لب أو يجب إن يكون في صميم المناقشات العامة. و هذا المشكل مقلق لان الفراغ الفكري الذي يخلفه الاقتصاديون غالبا ما يملؤه أفراد يسيئون استعمال الاقتصاد أو بالأحرى يسيئون استعمال الاستنتاجات الاقتصادية أثناء ترقيتهم لهذا الحل أو ذاك، حين التطرق لمشاكل الاقتصادية التي تظهر على المستوى الداخلي أو الدولي.
تصورات اكاديمية
في 1987، حددت ثلاث اديولوجيات أو مقاربات متعلقة بطبيعة و وظيفة الاقتصاد الدولي: الليبرالية و الماركسية و الوطنية. لكن و منذ منتصف الثمانينيات تغيرت هذه المقاربات بشكل دراماتيكي. فمع زوال كل من الشيوعية و إستراتيجية "إحلال الواردات" التي انتهجتها العديد من الدول المتخلفة، فان أهمية الماركسية تراجعت بشكل كبير، بينما الليبرالية، على الأقل إلى حد الآن، توسع تأثيرها بشكل لافت. عدد أكثر فأكثر من دول العالم أصبح متقبلا للمبادئ الليبرالية بانفتاح اقتصادهم على الاستيراد و الاستثمار الخارجي، وكذالك على الحد من دور الدولة التدخلي في الاقتصاد و التحول إلى إستراتيجية النمو من خلال التصدير. أما الماركسية، كمبدأ حول كيفية تسيير الاقتصاد، فقد تبث عدم جدواها، بحيث إن قلة قليلة من أفقر الدول ككوبا فيدال كاسترو و كوريا الشمالية لكيم يانق ايل هي من يتشبث بهذا المعتقد الذي كان قويا في ما مضى. لكن الماركسية كأداة تحليل و نقد للرأسمالية باقية، و ستبقى طالما أن سلبيات النظام الرأسمالي، كما حللها ماركس و أتباعه، باقية: كدورات "الفقاعات ثم الانفجار" التي تتصف بها الرأسمالية، و تزامن انتشار الفقر و الثراء الفاحش جنبا إلى جنب، و المنافسة الشرسة فيما بين الاقتصاديات الرأسمالية حول تقاسم الأسواق. لكنه سواء اكان الوضع تحت امرة الماركسية نفسها او أي مسمى اخر، فان التعاطي مع هذه المسائل سيطفو دائما خلال النقاشات التي تتناول الاقتصاد العالمي.
احد الانتقادات الموجهة لكتابي لسنة 1987 هو أني لم أوضح موقفي العلمي بجلاء: هل كنت ليبراليا أو ماركسيا أو وطنيا؟ و الجواب الابلغ (هو أني لست) " أيا مما سبق". لكن و قبل ان ابدي جوابي الاوسع، علي ان اعلق على المقاربات الثلاث و على سلبية في كتابي لعام 1987. لقد فشلت في التوضيح الكافي بان تلك المقاربات تتكون من شقين احدهما تحليلي و الاخر قيمي (معياري). مثال ذالك ان الاقتصاد الليبيرالي ليس اداة تحليلية تعتمد فقط على نظريات و فرضيات الاقتصاد النيوكلاسيكي(الحدث)،بل لها كذالك التزامات معيارية و قيمية تجاه السوق أو الاقتصاد الراسمالي. و كما قد ذكرت فان كارل ماركس نفسه تقبل الافكار التحليلية القاعدية للاقتصاد الليبيرالي في زمانه، لكنه مقت الراسمالية- المصطلح الذي اختاره (المدروسة)- و طرح اسئلة اعتبرها اكثر جذرية من تلك التي طرحها سابقوه من الاقتصاديين الكلاسكيين للقرن التاسع عشر: اسئلة عن مصادر النظام الراسمالي، القوانين التي تحكم تطوره و منتهاه. و على غرار ما أكده جوزف شومبيتر، ففي الوقت الذي كان اهتمام الاقتصاديين منصبا على الوظائف اليومية للنظام الرأسمالي، فان ماركس و شومبيتر نفسه كان اهتمامهما منصب على الحركية البعيدة المدى للنظام الرأسمالي.
و الوطنية، و بالتدقيق الوطنية الاقتصادية، كذالك تتشكل من الشقين التحليلي و المعياري.و هي تعترف في جوهرها التحليلي، بالطبيعة الفوضوية للأحداث الدولية، و أولوية الدولة و مصالحها في العلاقات الدولية وكذالك أهمية عامل القوة في العلاقات القائمة فيما بين الدول. لكن الوطنية كذالك التزام معياري تجاه الدولة –الأمة، و تجاه بناء الدولة و تجاه التفوق الأخلاقي لدولة الانتماء مقارنة مع باقي الدول الأخرى. و على الرغم من أني اقبل "بالاقتصاد الوطني"، أو ما اسميه لاحقا بمقاربة "الدولة-المركز"، كمقاربة تحليلية، لكني لا أتبنى الالتزام المعياري و الوصفات السياسية المرتبطة بالاقتصاد الوطني. إن التزامي القيمي هو للاقتصاد الليبرالي، أي، للحرية التجارية مع الحد الأدنى من الحواجز أمام تدفق السلع و الخدمات و رأس المال فيما بين الحدود الوطنية، و لو انه و تحت ظروف محددة يمكن تبرير سياسات وطنية كحماية التجارة أو السياسة الصناعية.
لو قدر لي أن أعود لما سبق، لكنت ميزت بوضوح فيما بين الاقتصاد الوطني كموقف معياري و الواقعية السياسية كمقاربة تحليلية. أو بتعبير أخر، ففي الوقت الذي يعتبر كل الوطنيون واقعيين من خلال تركيزهم على الدور الأساس للدولة، و المصالح الأمنية، و القوة في علاقات الدول، فليس كل الواقعيون وطنيين في نظرتهم المعيارية لعلاقات الدول. لهذا استعمل في كتابي هذا المصطلح العام "واقعي" ، أو بشيء من الدقة، "واقعية الدولة-المركز" لوصف مقاربتي في تحليل العلاقات الاقتصادية الدولية. لكن حتى مصطلح "واقعي" ذاته يحتاج إلى توضيح أوسع.
تصوري: واقعية الدولة-المركز
الواقعية موقف فلسفي كما أنها مقاربة تحليلية؛ و هي ليست بالضرورة التزام أخلاقي تجاه الدولة-الأمة. و واقع الحال هو أن العديد من الواقعيين يتحسرون على عالم لا تبدو الدولة فيه أنها مقيدة بما فيه الكفاية بواسطة القواعد الدولية و الاعتبارات الأخلاقية. كما أن الواقعية ليست بالنظرية العلمية. و على اعتبار أنها تصور فلسفي و أكاديمي، فان الواقعية لا تخضع لمبدأ بوبر الداعي لاثباث خطا الفرضية، و على غرار باقي المواقف الفلسفية، كالليبرالية و الماركسية، الواقعية لا يمكن إثباتها أو نفيها عن طريق البحوث التجريبية. لكن الدارسين للتقليد الواقعي في حقل العلاقات الدولية توصلوا لجملة من الفرضيات و النظريات، كنظريات توازن القوى و استقرار الهيمنة التي يمكن، بل و تم، إخضاعها للتجربة المادية من اجل إثبات صلاحيتها.
سنوات من قبل، سئلت عما إذا كان هناك فرق بين الواقعية و الوطنية. حيرني السؤال، لأنه بناء على اعتقادي السابق هو أن أي قارئ لهانز مورقانطاو، و هدلي بول، و البارزون من الكتاب الواقعيين، على دراية تامة بان هؤلاء الدارسين واقعيون في تحاليلهم للأحداث الدولية و الواعون في توقعاتهم فيما يخص الإمكانات البشرية، لم يكونوا وطنيين بالمرة. فالواقعي الكاشف عن الحالة المرضية الإنسانية لا يتقمص ما يراه، تماما مثل، الطبيب الذي لا يتقمص مرض السرطان الذي يكتشفه عند أي مريض. و الحقيقة هي أن، كتابات مرقنطاو، هاجمت الوطنية الزائدة، ففي،السياسة فيما بين الأمم لعام (1972)،سطر بوضوح قواعد السلوك الدبلوماسي الذي يساعد الدول على التعايش في أمان متبادل في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على مصالحهم الوطنية. و كما هاجم النقاد، بدا أن مورقنطاو كان ساذجا في اعتقاده بأنه من الممكن تحديد مبادئ أخلاقية و دبلوماسية بالاستعانة بفرضياته الواقعية.لكن الملاحظ، بالنسبة لمرقنطاو و غيره من الواقعيين ( بمن فيهم أنا)، هو أن الواقعية و الوطنية ليسا متطابقتين. قد يكون الوطنيون واقعيين، لكن ليس الواقعيون بالضرورة وطنيين.
على الرغم من أن الواقعيين يعترفون بمركزية دور الدولة، و الأمن، و القوة في علاقات الدول إلا أنهم لا يتقبلون بالضرورة هذه الوضعية. و أول مدرس علمني الواقعية كتصور تحليلي، الأستاذ جورج ليتل من جامعة فرمونت،كان من الكويكر(الأصحاب) المسالمين، لكنه، و في مرة من المرات، ولما كنت في مستوى ما قبل التدرج، وبخني ليتل لسذاجتي و رآي غير الواقية حول تطور من تطورات السياسة الدولية. كما أن مارتن وايت، كاتب احد أهم الكراسات عن الواقعية لهذا القرن، سياسة القوة (1986)، كان مسيحيا مسالما.8 و حتى هانز مورقنطاو في كتابه الذائع الصيت السياسة فيما بين الأمم،و في إشارة خفية لهتلر، ندد "بالوطنية العارمة"، أي بالسلوكيات الامبريالية، على أنها لا أخلاقية. و إحدى رسائله الأساسية كانت دعوته الدول السعي لاحترام مصالح دول أخرى.9 لهذا فاني، اعتقد بأنه في الإمكان تحليل الاقتصاد العالمي من خلال تصور واقعي في نفس الوقت الذي يمكن تبني التزام قيمي تجاه غايات محددة.
كما ذكرنا به مايكل دويل في كتابه طرق الحرب و السلم (1997)، هناك العديد من التصورات الواقعية.10 لكن جل الواقعيين يشتركون(على الأقل) في قلة من المسائل الأساسية كالطبيعة الفوضوية للنظام العالمي و أسبقية الدولة في الشؤون الدولية، بمعنى، مركزية الدولة و مركزية النظام الواقعي. فواقعية مركزية الدولة هو الشكل التقليدي للواقعية المنسوبة لثيوسديديس، و ماكيافلي، و مورقنطاو و آخرون؛ إنها تركز على الدولة (المدينة، الإمبراطورية أو الدولة-الأمة) كلاعب أساس في الشؤون الدولية و حقيقة عدم وجود سلطة أسمى من هذه الوحدات السياسية السيادية؛ هذا المنطلق يصر على أن التحليل لابد أن يركز على السلوك الفردي للدول. أما واقعية النظام أو ما يطلق عليه أحيانا بالواقعية البنيوية أو الواقعة الجديدة، هي بمثابة النسخة الحديثة للأفكار الواقعية، و المرتبطة أساسا بالتجديد المؤثر في كتاب كناث والتز نظرية السياسة الدولية (1979).11 فعلى عكس تركيز واقعية الدولة المركز على الدولة و مصلحة الدولة، فان النسخة النظامية لوالتز تركز على توزيع القوة فيما بين الدول ضمن نظام دولي كمحدد أساس لسلوك الدولة.
إن التفسير الواقي للشؤون الدولية و المبني على مركزية الدولة يطرح مسلمات أساسية فيما يخص طبيعة الشؤون الدولية. لأنها تسلم بان النظام الدولي فوضوي، فان التفسير يرى في الدولة، في ظل غاب سلطة عليا، أنها الفاعل الأساس في الشؤون الدولية. لكن تواجد الفوضى لا يعني بان السياسة الدولية تتصف بسيمة حرب هوبزية دائمة و شاملة لدولة ما ضد الكل؛ إذ من المسلم به أن الدول تتعاون فيما بيتها و تنشئ لذالك المؤسسات اللازمة في ميادين عدة.12 إن الفوضى تعني بأنه لا توجد سلطة عليا قد تستنجد بها الدولة أوقات الشدة. بالإضافة إلى هذا، و على الرغم من أن الدولة تعتبر اللاعب الأساس في الشؤون الدولية، الواقعية ينبغي لها أن تعترف بالدور المهم للفاعلين الآخرين غير الدول كالشركات المتعددة الجنسيات، و المؤسسات الدولية، و المنظمات غير الحكومية، في التأثير على مجرى الشؤون الدولية. لكن الواقعية تصر على أن الدولة تبقى اللاعب الأساس.
إن الاهتمامات المركزية لدى الدولة هي مصالحها الوطنية المعرفة من خلال الأمن العسكري و الاستقلال السياسي؛ لكن واقعية الدولة المركز لا تستبعد أهمية الاعتبارات الأخلاقية و القيمية في تحديد السلوك. و على الرغم من أن الاستنتاج هو أن القوة و علاقات القوة تلعب الأدوار الأولى في الشؤون الدولية، إلا أن القوة قد تأخذ الصبغة العسكرية، و الاقتصادية و حتى النفسية في العلاقات فيما بين الدول، كما أشار إلى ذالك ا.ه. كار.بل أكثر من هذا، و على الرغم من التركيز على القوة، فان عوامل أخرى كالأفكار و القيم و العادات تلعب دورا مهما في العلاقات فيما بين الدول.13 و مثال ذالك أن النقد القائل بان الواقعيين ليسوا على دراية بدور الأفكار و البناءات الفكرية في الشؤون الدولية خاطئة بجلاء. و كما حاجج مورقنطاو في كتابه (الرائع) الإنسان العلمي في مواجهة سياسة القوة (1946)، إن القناعات الليبرالية للديمقراطيات الغربية جعلتهم غير قادرين على التعرف و التصدي الحازم لتهديدات الفاشية لسنوات 1930. و بعد الاعتراف بأهمية الأفكار، فان مورقنطاو انذر بأنه ليس من الحكمة تسليم مصير احدنا لقوة الأفكار وحدها14
أعرف في هذا الكتاب "الاقتصاد السياسي الشامل" على انه تفاعل السوق مع تلك الفواعل القوية كالدول و الشركات المتعددة الجنسيات و المنظمات الدولية، و هو تعريف اشمل من ذاك الذي ورد في كتابي لعام 1987، الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، و لو أن كلا الكتابين يعتمدان مقاربة الدولة-المركز في معالجة الموضوع.15 و على الرغم من أني اسلم بان الدولة القطرية تبقى الفاعل الأساس في الشؤون الاقتصادية الداخلية و الدولية، إلا أني لا أؤمن بان الدولة هي الفاعل المهم الوحيد. فلاعبون مهمون آخرون يشملون البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و لجنة الاتحاد الأوروبي. لكنه و على الرغم من أهمية هذه الفواعل، تجدني أركز على أن الحكومات الوطنية هي من يتخذ القرارات المهمة فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية؛ إنها هي من يضع القواعد التي تنشط في حيزها الفواعل الأخرى، كما أنها تستعمل قوتها الواسعة للتأثير على النتائج الاقتصادية. فاللاعبون السياسيون المهمون، و بالتحديد ألمانيا و فرنسا و بريطانيا، اساسيون حتى ضمن المؤسسة الدولية الأعلى اندماجا، كالاتحاد الأوروبي. و مهما كان الشكل النهائي للاتحاد الأوروبي، فان الحكومات الوطنية ستبقى اللاعب الأهم ضمن الترتيبات الإقليمية.
إن تفسيري للعلاقات الاقتصادية الدولية افترض أن مصالح و سياسات الدول تحددها النخبة السياسية الحاكمة و الفئات القوية داخل المجتمع الوطني إلى جانب طبيعة "النظام الوطني للاقتصاد السياسي". و كما حاججت في كتابي الحرب و التغيير في السياسة الدولية (1981)، فان السياسة الاقتصادية الخارجية لمجتمع ما، ما هي إلا مرآة للمصالح الوطنية لتلك الأمة كما تحددها النخبة في ذاك المجتمع.16 و كما يجادل أصحاب المصطلحات، و على حق، هناك عاملا ذاتيا في تعريف النخبة للمصلحة الوطنية. لكن العوامل الموضوعية كالموقع الجغرافي لمجتمع ما و المتطلبات المادية للاقتصاد، لها الأهمية الكبرى في تحديد المصلحة الوطنية. و مثال ذالك هو أن العوامل المادية وحدها هي القادرة على تفسير أن المصلحة القصوى لبريطانيا العظمى و لمدة حوالي أربع مائة سنة تمثلت في منع احتلال الأراضي المنخفضة (بلجيكا و هولندا) من قبل قوة مناوئة. يتضح من هذا أن السلوك البريطاني و الحروب العديدة التي خاضها الانكليز لمنع هذا الأراضي من السقوط في أيادي معادية على أن الأمة الانكليزية، و تحت قيادات مختلفة و نظم سياسية متعددة، اشتركت في تصور مصلحة وطنية فاقت التصور الضيق للنخب الحاكمة لفترة ما.
إن موقفي من مركزية الدولة يفترض أن الأمن القومي يشكل الاهتمام الأساس الدائم و الأبدي للدول. ففي نظام دولي يتصف حصرا " بالاعتماد على الذات" ، إذا ما استعملنا مصطلح كنات والتز المناسب، فعلى الدول دائما اخذ الحيطة من الأخطار الممكنة و المحتملة التي تهدد استقلالها السياسي و الاقتصادي. و القلق الأمني يعني بان القوة- العسكرية و الاقتصادية و/أو النفسية- ستكون ذات أهمية قصوى في الشؤون الدولية؛ على الدول أن تكون على دراية مستمرة بعلاقات القوة و ما قد يترتب عنها من مس بمصالحها الوطنية، و كذا بتغيرات موازين القوى الدولي. فبالرغم من محاججة ريشار روزكرانس السليمة القائلة، بان "الدولة التجارية" أصبحت مظهرا بارزا في الشؤون الدولية، فانه من الأهمية بمكان الاعتراف بان التطورات الايجابية للاقتصاد الدولي منذ 1945 كانت ممكنة بفعل ترتيبات النظام الأمني الناتجة عن التحالف فيما بين الولايات المتحدة و حلفائها في أوروبا و آسيا. فالدول التجارية كاليابان و ألمانيا (الغربية) برزت و نمت تحت حماية القوة العسكرية الأمريكية؛ بل أكثر من هذا ، انه مع نهاية القرن العشرين، فإنهما أقاما وحافظا على بديل عسكري مستقل.17 و عمليا فان هذه الدول التجارية تمتلك حاليا قوة عسكرية دفاعية مهمة و كذالك صناعات عسكرية كسياسة وقائية؛ حتى اليابان بدستورها " المسالم" أصبحت إحدى أعتا القوى العسكرية في العالم.
إحدى أهم النظريات المعاصرة و المنتقدة للواقعية هي "البنائية"18. فبحسب هذا الموقف المتنامي التأثير، فان السياسية الدولية ما هي إلا "بناء اجتماعيا" عوض أن تكون واقعا موضوعيا. فبحسب تعريف الكسندر وانت، فان المعتقدين الأساس للبنائية هما(1) أن البناءات (الهياكل) الإنسانية تحددها بالأساس الأفكار المشتركة عوض القوى المادية، و(2) أن هويات و مصالح البشر تبنى أو بالأحرى هي نتاج هذه الأفكار المشتركة عوض أن تكون نتاجا طبيعيا. إذا كانت هذه الأفكار هي الأصدق ، فإنها لا تضحد الواقعية و الرأسمالية و الليبرالية فقط، بل حتى الاقتصاد النيوكلاسيكي (أي الحديث) و مجمل العلوم السياسة. بالرغم من أن البنائية تصحيح مهم لبعض مواقف الواقعية و لمنهجية الاختيار العقلاني الفردي في الاقتصاد الحديث، فان فرضية البنائية الموحاة، و التي تطالبنا بالتخلي عن معارفنا عن السياسة الدولية و البداية من المنطلقات الجديدة التي حددتها البنائية، هي دعوة غير ملزمة بتاتا.
النقد الأساس من البنائية للواقعية هو أن هذه الأخيرة مادية محضة، و أنها تحلل العالم السياسي من خلال القوى التكنولوجية فقط، و من الظروف الحسية، و من عوامل موضوعي
The New Global Economic Order
النظام الاقتصادي الشامل الجديد
يحلل هذا الكتاب عولمة الاقتصاد العالمي و تأثيراتها الحقيقية أو المفترضة على العلاقات الاقتصادية الدولية. فمنذ نهاية الحرب الباردة، أصبحت العولمة الظاهرة الأبرز على مسرح الأحداث الاقتصادية الدولية، و إلى حد ما على الأحداث السياسية كذالك. لكن و كما سأناقش خلال هذا الكتاب، بالرغم من كون العولمة اصبحث الظاهرة الأكثر تأثيرا على الاقتصاد العالمي في قرنه الحادي و العشرين، فان مدى و أهمية العولمة الاقتصادية قد بولغ فيها و أسيء فهمها في كل من النقاشات العامة و المتخصصة؛ العولمة في حقيقتها ليست بذاك المد و الاجتياح في نتائجها ( سلبية أم ايجابية) الذي يعتقده العديد من الملاحظين المعاصرين. لا يزال عالمنا تشكل فيه السياسات الوطنية و الاقتصاديات المحلية المحددات الأساسية للأحداث الاقتصادية. العولمة و ازدياد الاعتماد المتبادل الاقتصادي فيما بين اقتصاديات الدول هي تأكيدا ذات أهمية كبرى؛ لكنه و كما تمت الإشارة له من قبل فينسنت كايبل من المؤسسة الملكية للأحداث الدولية ، فان الانجازات الاقتصادية الكبرى لفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية تمثلت في الرجوع إلى مستوى الاندماج الاقتصادي الدولي الذي تم بلوغه قبيل الحرب العالمية الأولى.1
افتقد كتابي، لسنة 1987، إلى بعد داخلي. لقد حلل الاقتصاد الدولي في شبه تجاهل للتطورات الاقتصادية المحلية( الداخلية) معتبرا تأثيراتها غير ذات أهمية. يعود سبب هذا التجاهل في احد جوانبه إلى رغبتي في المساعدة على تطوير حقل علاقات اقتصادية دولية مستقل و متكامل. هذا الكتاب يسعى إلى تجاوز ذاك النقص غير المقصود من خلال التركيز على ما أسميته " الأنظمة الوطنية للاقتصاد السياسي" و أهميتها لكل من الأحداث الاقتصادية المحلية و الدولية. فمع تزايد اندماج الاقتصاديات الوطنية فان أهمية الاختلافات الجوهرية فيما بين الاقتصاديات ازدادت بشكل كبير. كما أن كتابي لسنة 1987 اتصف بالعديد من النقائص، بما في ذالك تعاطيه مع الشركات المتعددة الجنسيات، النمو الاقتصادي، و الاقتصاد الجهوي؛ فبالرغم من أني قد ناقشت كل هذه المواضيع المهمة آن ذاك ، لكن ما زال الكثير ليقال على ضوء ما استجد من تطورات .
في منتصف ثمانينيات القرن الماضي حدثت ثورة في الشؤون الاقتصادية الدولية سببتها الشركات المتعددة الجنسيات و الاستثمار الأجنبي المباشر بتأثيراتهما القوية على كل مظاهر الاقتصاد العالمي تقريبا. في الستينيات و السبعينيات غير تنامي التجارة الدولية الشؤون الاقتصادية الدولية. ما ترتب عنه، في الثمانينيات، توسعا للشركات الكبرى ما وراء البحار، هذا التوسع زاد في إدماج تدريجي للاقتصاديات الوطنية فيما بينها إلى أن أصبح كليا. و أكثر من هذا، ففي الوقت الذي كان فيه مصطلح " متعدد الجنسيات" مرادفا لتوسع الشركات الأمريكية، انضمت في الثمانينيات شركات من جنسيات أخرى إلى ركب تعدد الجنسيات. و أهم ما برز هو أن الشركات المتعددة الجنسيات فتحت الطريق لتدويل كل من الخدمات و الإنتاج الصناعي.
مناقشتي للتطورات الاقتصادية في كتاب 1987 تجاوزها الزمن كليا؛ فالدارسون آن ذاك ركزوا اهتماما جديا على نظرية التبعية الماركسية و على الانقسام العميق فيما بين الدول الأقل تطورا و العالم المتقدم. أما اليوم فان النقاش حول التطور الاقتصادي يركز على الدور المناسب للدولة و السوق في سيرورة التطور. في خاتمة كتاب 1987 أشرت إلى الاقليمية الاقتصادية على أنها موجة المستقبل. و اليوم فان تلك الاقليمية الاقتصادية قد بلغت مرحلة الطوفان الجارف و أصبح لها تأثيرا مميزا على الاقتصاد الدولي. كما أن التطورات المالية لأواسط الثمانينيات زادت بشكل كبير من اندماج الاقتصاد العالمي، لذا فإنها تحتاج إلى التركيز و الاهتمام. كما أن هذا الكتاب يتناول مسالة ما إذا كان تنامي دور السوق في تنظيم و عمل الاقتصاد الشامل يعني نهاية الدولة- الأمة و العلاقات الاقتصادية الدولية كما تم التعريف لهذا المصطلح في هذا الكتاب. أولئك المطلعون على أعمالي القديمة لن يتفاجؤوا كوني انفي ذالك.
The principal purpose of this book is to draw upon these real worlds
الغاية الأساسية لهذا الكتاب هي امتصاص ما في هذا العالم من حقائق و استنتاج ما في النظريات الحديثة من تطورات من اجل تشكيل صورة أكثر وضوحا مما ورد في منشوراتي السابقة عن العلاقات الاقتصادية الدولية. في الكتاب المتنوع ل 1987 قدمت ما اعتبرت أهم مقاربات ثلاث للعلاقات الاقتصادية الدولية- الليبرالية ،و الماركسية ، و الوطنية؛ أما هذا الكتاب فهو يعتمد صراحة مقاربة واقعية أو مقاربة الدولة-المركز في تحليله للاقتصاد الدولي. بخلاف العديد من الكتابات المعاصرة حول الاقتصاد الشامل، فانا اعتقد بان الدولة-الأمة تبقى الفاعل المسيطر في كل من الأحداث الاقتصادية المحلية و الدولية. مقتنعا بان كلا التحليلين الاقتصادي و السياسي ضروريان لفهم آليات عمل الاقتصاد الدولي ، فان هذا الكتاب يدمج فيما بين النمطين المختلفين في التحري الأكاديمي ( البحث الدراسي).
تغيرات في الاقتصاد العالمي
المحفزات الكبرى لهذا الكتاب تمثلت في التغيرات الهائلة التي حدثت في الاقتصاد الدولي منذ 1987. بطبيعة الحال تمثل التغير الأهم في انتهاء الحرب الباردة و معها التهديد السوفيتي على الولايات المتحدة و حلفائها الأوربيين و اليابان.ففي خلال النصف الأخير من القرن العشرين، شكلت الحرب الباردة و التحالفات المنجرة عنها الإطار الذي من خلاله تم توظيف الاقتصاد العالمي. فالولايات المتحدة و حلفاؤها الكبار اخضعوا خلافاتهم الاقتصادية لمتطلبات الحفاظ على التعاون السياسي و الأمني. فالتركيز على المصالح الأمنية و نسق التحالف شكل الاسمنت السياسي الجامع الذي مكن من الإبقاء على تلاحم الاقتصاد العالمي و سهل التفاهم حول الخلافات الوطنية المهمة المرتبطة بالقضايا الاقتصادية. مع انتهاء الحرب الباردة، ضعفت القيادة الأمريكية و التعاون الاقتصادي فيما بين القوى الرأسمالية. و بالموازاة اتسع العالم المتجه نحو اعتماد (قانون) السوق بشكل كبير بفعل رغبة العديد من الدول الشيوعية السابقة و دول العالم الثالث المشاركة في نظام السوق؛ و لقد تمثل هذا في ازدياد نشاط الدول المتخلفة في منظمة التجارة العالمية. و في الوقت الذي رحب بهذا التطور، فانه زاد في صعوبة تسيير النظام الاقتصادي الشامل.
ترتب عن العولمة الاقتصادية عدة تطورات مهمة بفعل الشركات المتعددة الجنسيات2 في ميادين التجارة ، و المال ، و الاستثمار الأجنبي المباشر. لقد نمت التجارة الدولية بوتيرة أسرع من الإنتاج الاقتصادي الشامل(العالمي). فإلى جانب التوسع الكبير في تجارة المنتجات (السلع)، فان التجارة في الخدمات (البنوك، المعلومات، الخ.) سجلت نموا معتبرا. مع انخفاض تكاليف النقل، العديد من السلع أصبح "يتاجر بها." مع الاتساع الكبير في التجارة العالمية، ازدادت المنافسة الدولية بشكل كبير. و بالرغم من ان المستهلكين و قطاعات التصدير داخل الدولة الواحدة تستفيد من الانفتاح المتزايد، فان العديد من الأعمال تجد نفسها في منافسة ضد شركات أجنبية طورت فاعليتها. إبان الثمانينيات و التسعينيات صارت المنافسة التجارية أكثر حدة لان عددا اكبر من الاقتصاديات الحديثة التصنيع من شرق أسيا و مناطق أخرى غيرت إستراتجيتها التنموية من إحلال الواردات إلى التصدير. لكن و على الرغم من هذا فان المنافسين الكبار للشركات الأمريكية هي شركات أمريكية أخرى.
هناك مجموعة من التطورات التي مهدت للتوسع التجاري الشامل. فمنذ الحرب العالمية الثانية، تراجعت الحواجز تراجعا معتبرا أمام التجارة بفعل الجولات المتتالية للمباحثات حول التجارة. ففي خلال النصف الأخير من القرن العشرين انخفض متوسط التعاريف الجمركية للولايات المتحدة و الدول الصناعية الأخرى من حوالي أربعين بالمائة إلى ستة في المائة ، كما أن الحواجز أمام المتاجرة في الخدمات تم تخفيضها كذالك3. زيادة على هذا، فمن أواخر السبعينيات فما فوق فتحت، مراجعة القوانين و الخصخصة، الاقتصاديات الوطنية بشكل أكثر للاستيراد. كما أن التطور التكنولوجي في وسائل النقل و الاتصال خفض من التكاليف و بالتالي شجع بشكل كبير التوسع التجاري. مستغلين هذه التغيرات الاقتصادية و التكنولوجية، زادت مشاركة العديد من أرباب الأعمال في الأسواق الدولية. لكنه و بالرغم من هذه التغيرات، فان غالبية التبادل التجاري يتم فيما بين الاقتصاديات الصناعية المتطورة الثلاث- الولايات المتحدة، أوروبا الغربية و اليابان بالإضافة إلى الأسواق التي ظهرت حديثا في شرق آسيا و أمريكا اللاتينية و مناطق أخرى. أما غالبية الدول المتخلفة فهي مستثناة عدا المصدرة للأغذية و المواد الأولية. مثلا قدرت مساهمة إفريقيا جنوب الصحراء في التجارة العالمية الكلية بحوالي واحد في المائة طيلة فترة التسعينات.
منذ أواسط السبعينيات، ساهم كل من إعادة التقنين، و خلق أدوات مالية جديدة، كالتفريعات، التطور التكنولوجي في الاتصالات، في اندماج النظام المالي الدولي بشكل كبير. فحجم الاتجار بالعملة الصعبة(بيع وشراء العملات الوطنية) بلغ أواخر التسعينات حوالي 1.5 تريليون دولار في اليوم، أي انه تضاعف بمقدار ثماني مرات منذ العام 1986؛ على النقيض من ذالك فان حجم الصادرات الكلي (للسلع و الخدمات) لمجمل سنة 1997 كان 6.6 تريليون دولار ، أو 25 مليار دولار في اليوم! إضافة إلى هذا فان القيمة المالية للرأسمال الاستثماري الباحث على المردود الكبير ازداد ضخامة؛ فمع منتصف التسعينيات بلغت القيمة المالية للصناديق المشتركة و صناديق التقاعد و ما شابهها 20 تريليون دولار ، أي أنها تضاعفت بثماني مرات عن قيمة ما كانت عليه في 1980. و الأكثر، هو أن معنى هذه الاستثمارات الكبيرة زاد تضخيمه بفعل كون جزء كبير منه (الاستثمار الأجنبي) مقترض؛ أي أنها استثمارات مقترضة من صناديق مالية. أخيرا فان التفرعات أو الضمانات المحددة و أرصدة مالية أخرى تلعب دورا هاما في (النظام) المالي الدولي. لقد قيمت بحوالي 360 تريليون دولار( أي أكثر من القيمة الكلية للاقتصاد العالمي)، و زادت في تعقيد و عدم استقرار النظام المالي الدولي. من البديهي إذن أن يكون للنظام المالي الدولي تأثير عميق على الاقتصاد الشامل.
لقد ربطت الثورة المالية الاقتصاديات الوطنية فيما بينها بشكل أكثر وزادت من توفير الرساميل للدول النامية. و بما أن هذه التدفقات المالية قصيرة المدى، و عديمة الاستقرار و مضارباتية، فان النظام المالي الدولي أصبح، يتسم بسمة عدم استقراره، و هي الظاهرة الأبرز في النظام الاقتصادي الرأسمالي الشامل. إن الحجم الكبير و السرعة و الطبيعة المضارباتية لحركية الأموال فيما بين حدود الدول جعل الحكومات أكثر تعرضا للتقلبات المفاجئة لمثل تلك التحركات المالية. لذا فان الحكومات تصبح فريسة سهلة للمضاربين بالعملات ، على غرار ما حدث في الأزمة المالية الأوروبية لسنة 1992 ، و التي كانت السبب وراء انسحاب بريطانيا العظمى من آلية مستوى التبادل الأوروبي، و كذالك في الانهيار العقابي للبيزو المكسيكي سنة 1994/95 ، و كذالك أثناء الأزمة المالية الرهيبة لشرق آسيا أواخر التسعينيات. و في الوقت الذي بدا للبعض بان العولمة المالية تجسيد لنجاح رأسمالية شاملة صحية و مفيدة للجميع، فانه تراءى لآخرين بان النظام المالي الدولي قد خرج عن السيطرة و ينبغي إعادة ضبطه. و في كلتا الحالتين ، فان النظام المالي الدولي هو الميدان الأجدر بمصطلح "العولمة".
ظهر مصطلح "العولمة" في الاستعمال العام في النصف الثاني من الثمانينيات مرتبطا بالبروز الكبير للاستثمار الأجنبي المباشر من قبل الشركات المتعددة الجنسيات. لكن كلا من الشركات المتعددة الجنسيات و الاستثمار الأجنبي المباشر كانا متواجدان منذ قرون في شكل شركة الهند الشرقية و "التجار المغامرون". في العقود الأولى لما بعد الحرب، فان غالبية الاستثمار الأجنبي المباشر كان من صنع الشركات الأمريكية، و الولايات المتحدة كانت تستقبل مقادير قليلة منه من شركات غير أمريكية. لكن و في الثمانينات، توسع الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير و بوتيرة أسرع من توسع التجارة العالمية و الناتج الاقتصادي الشامل. ففي العقود الأولى لما بعد الحرب، أصبح اليابانيون و الأوروبيون الغربيون و جنسيات أخرى مستثمرون كبار و أصبحت الولايات المتحدة الدولة الأكبر اقتصاديا و الأكثر استقبالا للاستثمار. و كنتيجة لهذه التطورات ، فان تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر من الدول الصناعية الكبرى إلى الدول السائرة في طريق التصنيع ارتفع بحوالي 15% سنويا. و النصيب الأكبر للاستثمار الأجنبي المباشر ذهب، بطبيعة الحال، للدول الصناعية، خاصة الولايات المتحدة و دول أوروبا الغربية. و القيمة التراكمية للاستثمارات الأجنبية المباشرة بلغت مئات الملايير من الدولارات. إن الشطر الأكبر من هذه الاستثمارات كان في الخدمات، و خاصة في الصناعات ذات التقنية العالية كالسيارات و تكنولوجيا المعلومات. و في واقع الأمر، فان المعلومة ذاتها أصبحت أداة "للاتجار"، و هو ما يطرح مسائل جديدة في التجارة الدولية كحماية حقوق الملكية الفكرية و سبل دخول السوق بالنسبة للخدمات الصناعية. بالتناسق مع التوسع التجاري و التدفق المالي ، فان ازدياد أهمية الشركات المتعددة الجنسيات غير و بشكل كبير الاقتصاد الدولي.
بالرغم من أن نهاية الحرب الباردة هي من وفرت المتطلبات السياسية الضرورية لإقامة اقتصاد شامل حقيقي، فان التطورات الاقتصادية و السياسية و التكنولوجية هي من كانت الدافع خلف العولمة الاقتصادية. فالتقنيات المتجددة في ميدان النقل تسببت في خفض التكاليف، و خاصة النقل عبر المحيطات، الذي انخفضت تكاليفه بشكل كبير، ما فتح المجال لإمكانية قيام نظام تجاري شامل. اظافة إلى هذا ، فان تطورات الحاسوب و الاتصالات زادت و بشكل كبير في التدفقات المالية الشاملة ؛ و كانت لهذه التطورات الأهمية القصوى في تمكين الشركات المتعددة الجنسيات من اتباع و انتهاج نشاطات و استراتيجيات اقتصادية ذات بعد شامل. إن تحجيم الزمن و المساحة بفعل هذه التغيرات التكنولوجية خفض و بشكل لافت، في تكاليف التبادل السلعي فيما بين الدول. كما أن العولمة هي نتاج التعاون الاقتصادي الدولي و السياسات الاقتصادية الجديدة. فتحت القيادة الأمريكية، اتخذت الاقتصاديات الصناعية و الحديثة التصنيع مبادرات عدة لتخفيض الحواجز أمام التجارة و الاستثمار. فثماني جولات من المباحثات الجماعية حول التجارة تحت مسمى الاتفاقية العامة للتجارة و التعاريف الجمركية، المنتدى الأساس من اجل تحرير التجارة، خفض و بشكل واضح الحواجز أمام التجارة. تزامنا مع هذا فان عددا اكبر من الأمم انتهج سياسات اقتصادية ليبرالية جديدة كإعادة التقنين و الخصخصة. نتج عن كل هذه التطورات توجها واضحا للاقتصاد الشامل نحو(اعتماد) مبدء السوق(في تعاملاته).
يؤمن العديد من الملاحظين بان انتقالا عميقا بدا يأخذ مجراه ، فمن اقتصاد عالمي تتحكم الدولة في السيطرة عليه إلى اقتصاد عالمي تتحكم السوق في دواليبه. و يحاجج الكثير، بان البشرية تسير بسرعة نحو عالم بدون حدود سياسية.4 فسقوط الاقتصاد السوفيتي الموجه، و فشل إستراتيجية إحلال الواردات (لدول) العالم الثالث، و النجاحات الاقتصادية الباهرة للاقتصاد الأمريكي في التسعينيات شجعت على القبول بأسواق غير مقيدة على أنها الحل للإمراض الاقتصادية في المجتمع المعاصر. و على اعتبار أن إعادة التقنين و إصلاحات أخرى حدت من دور الدولة في الاقتصاد، امن العديد بان الأسواق أصبحت هي الإلية الأهم المحددة لكل من الاقتصاد المحلي (الداخلي) و الدولي ، بل أنها محددة للشؤون السياسية كذالك. ففي ظل اقتصاد شامل عالي الاندماج ، أصبحت الدولة-الأمة، بحسب هذا التفسير شيئا من الماضي و في تراجع مستمر. يعتقد كثيرون بان تراجع (دور) الدولة سيؤدي إلى اقتصاد رأسمالي مفتوح و شامل في حقيقته ، مواصفاته تجارة غير مقيدة، تدفقات مالية، و نشاطات عالمية للشركات المتعددة الجنسيات.
على الرغم من أن غالبية الاقتصاديين و كثيرون من غيرهم رحبوا بهذا التطور، فان النقاد يركزون على " التكاليف المرتفعة" للعولمة الاقتصادية، و التي من ضمن ما تشتمل عليه الزيادات غير المتكافئة في المداخيل سواء فيما بين الدول أو داخل الدول نفسها، أي فيما بين الأفراد، و ارتفاع نسب البطالة المزمنة في أوروبا الغربية و مناطق أخرى، و الأكثر من هذا كله، الإضرار بالبيئة، ،و انتشار الاستغلال،إلى جانب الأضرار المترتبة على الاقتصاديات الوطنية و الناجمة عن التدفقات المالية الدولية غير المضبوطة. هذه الانتقادات تجزم بان المجتمعات الوطنية هي بصدد الاندماج القصري في نظام اقتصادي شامل، أين تتقاذفها قوى اقتصادية و تكنولوجية يصعب فيها التحكم أو لا يتحكم فيها أصلا.إنهم يعتبرون مشاكل الاقتصاد الشامل على أنها الدليل على أن تكاليف العولمة أعلى بكثير من منافعها. بتبصرتهم لعالم يتصف بالصراع الاقتصادي الحاد على كلتا المستويين الداخلي و الدولي، و بإيمانهم في أن اقتصادا عالميا مفتوحا سينتج حتما خاسرين أكثر من رابحين، فان المنتقدين يحاججون بان إطلاق اليد الطولى للأسواق و لقوى اقتصادية أخرى أدى إلى زيادة حدة الصراع فيما بين الأمم، و فيما بين الطبقات الاقتصادية، و فيما بين الفئات القوية. و يصر الكثيرون على ما اسماه المستشار الألماني السابق هلموت شميث "بالصراع على المنتوج العالمي" سيترتب عنه تجمعات جهوية متنافسة تسيطر عليها إحدى القوى الاقتصادية الكبرى.
إن فكرة كون العولمة هي المسؤولة عن غالبية مشاكل العالم الاقتصادية و السياسية و غيرها هي إما أنها مقولة خاطئة من الأساس أو أنها فكرة مبالغ فيها. و حقيقة الأمر هي ان عوامل أخرى، كالتطورات التكنولوجية و السياسات الوطنية غير الحذرة، هي العوامل الأكثر أهمية من العولمة كمتسبب لكثير، إن لم يكن لغالبية المشاكل التي تتهم العولمة أنها المتسببة فيها. لكن المؤسف هو أن سوء فهم العولمة و تأثيراتها، أسهم في تنامي الإحباط في ظل انفتاح الحدود أمام التجارة و الاستثمار، و هو ما أدى إلى تنامي الاعتقاد بان للعولمة تأثيرات سلبية كبيرة على العمال، و المحيط و الدول المتخلفة. فبحسب استبيان أمريكي للرأي اخذ في ابريل 1999، كانت ل 52% من المشاركين وجهة نظر سلبية حول العولمة5. لكنه و برغم كون العولمة ظاهرة مهمة في الاقتصاد الدولي، بإسهامها في تغيير العديد من مواضيع العلاقات الاقتصادية الدولية، تبقى الحقيقة هي كون العولمة ليست بالانقلابية ولا الواسعة الانتشار ولا ذات الأهمية التي يريد الكثير إقناعنا به. فغالبية الاقتصاديات الوطنية ما زالت مقيدة بحدودها و ليست معولمة؛ كما أن العولمة ما زالت محصورة في حيز ضيق، و لو انه في اتساع مستمر، من القطاعات الاقتصادية. و أكثر من هذا هو أن العولمة محصورة بشكل كبير في ثلاثية من الدول الصناعية- الولايات المتحدة و أوروبا الغربية، و إلى حد اقل، اليابان- و إلى الأسواق البازغة في شرق آسيا. و الأكثر أهمية هو أن العديد من التهجمات على العولمة من قبل منتقديها ليست في محلها؛ الكثير ، بل أن غالبية، "المساوئ " هي في حقيقتها نتاج تغيرات ذات علاقة محدودة ، إن لم تكن منعدمة مع العولمة.
تزامنت نهاية الحرب الباردة و تنامي العولمة الاقتصادية مع ثورة صناعية جديدة قاعدتها الحاسوب و بروز المعلوماتية أو اقتصاد الشبكة (العنكبوتية). فالتطورات التكنولوجية هي تقريبا بصدد إعادة تشكيل كل المظاهر السياسية و الاقتصادية و الشؤون الاجتماعية، لان قوة الحاسوب أمدت الاقتصاد العالمي بحافز قد يرقى في تأثيراته إلى تلك التي أحدثتها قوة البخار، الطاقة الكهربائية، و الطاقة النفطية. لكن المختصين الاقتصاديين منقسمون حول ما إذا كانت قوة الحاسوب تشكل ثورة تكنولوجية ترقى إلى مستوى الثورات السابقة. فعلى الرغم من كون الحاسوب يبدو انه زاد في سرعة وتيرة الاقتصاد و وتيرة تنامي الإنتاجية ، فانه لم يئن الأوان بعد لمعرفة ما إذا كان تأثيره النهائي قادر على التأثير على الاقتصاد عامة بالشكل الذي اثر به اكتشاف و استعمال الدينامو . لكن عددا متزايدا من الاقتصاديين يعتقدون بان للحاسوب تأثيرات عميقة لا على الإنتاجية فحسب بل على الشؤون الاقتصادية عامة. و مثال ذالك أن بعضا من الاقتصاديين يعتقدون بان تنظيم و عمل الاقتصاديات الوطنية تقوم بتغيرات كبيرة تجاوبا مع الحاسوب و الشبكة العنكبوتية. و على الرغم من انه لم يحن الوقت بعد لقياس التأثير الكلي للحاسوب على الاقتصاد ، فانه يمكن الجزم بان الحاسوب و اقتصاد المعلوماتية يغيران بشكل كبير العديد من مظاهر الشؤون الاقتصادية. و التأثيرات الأهم هي تلك الحاصلة في الدول الصناعية، أين تم تسريع الانتقال من التصنيع إلى الخدمات ( مالية ، برمجية ، و تبادلية ، الخ.). إن إعادة ترتيب الاقتصاد في جميع مظاهره في الدول الصناعية هو مكلف اقتصاديا و صعب سياسيا.
خلال العقود الأخيرة للقرن العشرين ، حدث تحول مهم في توزيع الصناعة العالمية من الاقتصاديات الصناعية القديمة- الولايات المتحدة ، أوروبا الغربية، و اليابان – باتجاه آسيا (المحيط) الهادي، و أمريكا اللاتينية، و الاقتصاديات الأخرى السريعة التصنيع. و على الرغم من ان الولايات المتحدة و الاقتصاديات الصناعية الأخرى ما زالت تمتلك النسبة الأكبر من الثروة الكلية و الصناعة، فإنها تراجعت بالمقارنة (و ليس في أسسها) مع (الدول الحديثة التصنيع) ، في حين إن الاقتصاديات الصناعية حديثا، خاصة الصين، ازدادت أهميتها الاقتصادية. فقبل الأزمة المالية التي بدأت في تايلندا و أدت إلى جر جنوب شرق آسيا في دوامة سياسية و اقتصادية، كانت النجاحات الاقتصادية لآسيا (المحيط) الهادي جد معتبرة، و العديد من تلك الاقتصاديات حقق معدلات نمو سنوية قاربت في متوسطها 6 إلى 8 في المائة. و بالرغم من الأزمة المالية ، فان "الأسس" الاقتصادية، كمستويات الادخار المرتفعة و القوى العاملة الجيدة، تدعم القناعة في كون هذه الأسواق البازغة ستستمر في لعب دورها الفعال في الاقتصاد الشامل.
انتشرت الجهوية الاقتصادية (التجمعات الاقتصادية الإقليمية) بفعل التطورات السياسية و الاقتصادية و التكنولوجية.فمقارنة مع الحركات الجهوية السابقة للخمسينيات و الستينيات (و التجمع الاقتصادي الأوروبي هو المثال الوحيد الباقي من تلك الحركات)، فان التجمعات الإقليمية الجديدة لها التأثير الأهم على الاقتصاد الشامل.فهذه الحركة في بداية القرن الحادي و العشرين هي جامعة؛ و الاقتصاديات الأساسية،مع استثناءات قليلة من ضمنها الصين اليابان و روسيا، كلها أطراف في ترتيبات جهوية رسمية. فالتجمعات الإقليمية و هي على عتبة القرن الحادي و العشرين يترتب عنها ازدياد في جهوية الاستثمار الخارجي و في الإنتاج و في نشاطات اقتصادية أخرى. و بالرغم من انه لا يوجد تفسير واحد لهذه التطورات ، فان كل ترتيب جماعي إقليمي يمثل مجهدات تعاونية من قبل الدول فرادى لترقية أهدافهم السياسية و الاقتصادية الفردية و الجماعية. الترتيبات الإقليمية الاقتصادية تشكل رد فعل مهم من قبل الدول-الأمم (لمعالجة) المسائل السياسية المشتركة و (لمواجهة) اعتماد متبادل أوسع، و اقتصاد شامل أكثر تنافسا.فمع تزايد اندماج الاقتصاد الدولي، فان التجمعات الجهوية للدول زادت من تعاونها بهدف تقوية استقلاليتها و تحسين مواقعها أثناء المساومات و ترقية أهداف سياسية/اقتصادية أخرى.التجمعات الإقليمية ليست بديلا للدولة-الأمة، كما قد يعتقد البعض، بل أنها تتقمص مجهودات الدول فرادى في تعاون جماعي لترقية مصالحهم الوطنية الأساسية و تجسيد طموحاتهم.
هذه التطورات جعلت من مسالة التسيير الراشد للاقتصاد الشامل مطلبا ملحا. فحكم راشد و فعال يتطلب اتفاقا حول أهداف الاقتصاد الدولي.في أثناء الحرب الباردة ، كان الهدف الأساس للاقتصاد العالمي هو تقوية الاقتصاديات المناهضة للتحالف السوفيتي و تمتين اتحاد الولايات المتحدة و حلفائها؛ و هذا الهدف تطلب في العديد من المرات القبول بالتمييز التجاري و سياسات غير ليبرالية أخرى. أما اليوم فان عديدا من الأمريكيين و آخرين معهم، يصرون على أن هدف التسيير الراشد ينبغي أن يهدف إلى ترقية حرية لا محدودة لأسواق مفتوحة. فهم يعتقدون بان القواعد التي تحكم الاقتصاد الشامل، لابد أن تكون مقودة بالمواصفات السياسية للاقتصاد النيوكلاسيكي(الحديث) و قائمة على قاعدة قانون السوق. فحرية التجارة و حرية انتقال رؤوس الأموال و حرية نشاط الشركات المتعددة الجنسيات في جميع أسواق العالم، ينبغي لها أن تشكل أهداف التسيير الراشد الدولي. فمع انتصار السوق، فان المنطق الاقتصادي و الفاعلية المرتبطة بالاقتصاديات الوطنية لابد أن تحدد كيفية توزيع النشاطات الاقتصادية و الثروة ( و بطبيعة الحال، القوة) حول العالم. و في الجهة المقابلة، فان منتقدي العولمة يتحدون هذا التركيز على أهمية الحرية الاقتصادية و انفتاح الأسواق.
على الرغم من تزايد أهمية السوق، فان التجربة التاريخية تشير إلى أن غاية النشاطات الاقتصادية لا تحددها في آخر المطاف الأسواق و لا الوصفات الاقتصادية التقنية فقط، و لكن كذالك (إن بطريقة ضمنية أو علنية) عادات و قيم و مصالح الأنظمة الاجتماعية و السياسية التي تتجذر فيها النشاطات الاقتصادية. و بالرغم من أن العوامل الاقتصادية سيكون لها دور مهما في تحديد طبيعة الاقتصاد الشامل، فان العوامل السياسية ستكون في مستوى أهمية ، و ربما تكون ذات الأهمية الأكبر. فطبيعة النظام الاقتصادي الشامل ستتأثر بصفة كبيرة بالمصالح الأمنية و السياسية ، و بالعلاقة فيما بين، القوى الاقتصادية المسيطرة، بما في ذالك الولايات المتحدة، أوروبا الغربية، اليابان، الصين و روسيا. فمن المستبعد جدا أن تدع هذه القوى توزيع المنتوج الاقتصادي الشامل و تأثيرات القوى الاقتصادية على مصالحها الوطنية في مجملها، لعامل السوق. إن كلا من الفاعلية الاقتصادية و الطموحات الوطنية هي قوى دافعة في الاقتصاد الشامل للقرن الحادي و العشرين.
في هذا الكتاب انتهجت مقاربة "ّالاقتصاد السياسي" التي تدمج التحليل السياسي و الاقتصادي بنماذج دراسية تحليلية أخرى. فالنظريات الاقتصادية القديمة تمدنا بالأدوات الضرورية التي تسهل تفهم التطورات الاقتصادية؛ فنظرية التجارة الدولية التقليدية، استفادت من الأغوار الجديدة لنظرية التنظيم الصناعي، كما أن التطورات النظرية في علم الاقتصاد تمدنا بأفكار إضافية مهمة. لكن النظريات الاقتصادية لوحدها غير كافية لفهم التطورات، و مدلولاتها، على الشؤون الاقتصادية و السياسية. علينا أن نستمد كذالك من أفكار و أغوار التاريخ و علم السياسة و العلوم الاجتماعية الأخرى. باختصار ، فان "ّاقتصاد سياسي" حقيقي هو مطلب ضروري من اجل فهم متطور لما قد يترتب من تطورات جديدة لشؤون اقتصادية دولية، و داخلية عند الضرورة.
إن كثافة و أهمية المناقشة حول تغيرات طبيعة الاقتصاد العالمي تجرنا لمفارقة مقلقة. ففي نفس الوقت الذي تصدرت فيه المسائل الاقتصادية الاهتمامات الوطنية، نجد أن الاقتصاد، كاختصاص، تراجع الاهتمام به من واقع الأحداث الدولية. إن ازدياد تركيز العلوم الاقتصادية على النماذج المجردة، و على النظريات الرياضية ، خلال عقود عديدة، قلص بشكل تدريجي من أهمية الاقتصاد في المناقشات العامة بحيث أصبح صعب الفهم، لا من على العامة فحسب بل حتى على الفر قاء الأكاديميين كذالك. و يعد هذا شيئا مؤسفا لان الاقتصاد، رغم طبيعته الغامضة، هو في لب أو يجب إن يكون في صميم المناقشات العامة. و هذا المشكل مقلق لان الفراغ الفكري الذي يخلفه الاقتصاديون غالبا ما يملؤه أفراد يسيئون استعمال الاقتصاد أو بالأحرى يسيئون استعمال الاستنتاجات الاقتصادية أثناء ترقيتهم لهذا الحل أو ذاك، حين التطرق لمشاكل الاقتصادية التي تظهر على المستوى الداخلي أو الدولي.
تصورات اكاديمية
في 1987، حددت ثلاث اديولوجيات أو مقاربات متعلقة بطبيعة و وظيفة الاقتصاد الدولي: الليبرالية و الماركسية و الوطنية. لكن و منذ منتصف الثمانينيات تغيرت هذه المقاربات بشكل دراماتيكي. فمع زوال كل من الشيوعية و إستراتيجية "إحلال الواردات" التي انتهجتها العديد من الدول المتخلفة، فان أهمية الماركسية تراجعت بشكل كبير، بينما الليبرالية، على الأقل إلى حد الآن، توسع تأثيرها بشكل لافت. عدد أكثر فأكثر من دول العالم أصبح متقبلا للمبادئ الليبرالية بانفتاح اقتصادهم على الاستيراد و الاستثمار الخارجي، وكذالك على الحد من دور الدولة التدخلي في الاقتصاد و التحول إلى إستراتيجية النمو من خلال التصدير. أما الماركسية، كمبدأ حول كيفية تسيير الاقتصاد، فقد تبث عدم جدواها، بحيث إن قلة قليلة من أفقر الدول ككوبا فيدال كاسترو و كوريا الشمالية لكيم يانق ايل هي من يتشبث بهذا المعتقد الذي كان قويا في ما مضى. لكن الماركسية كأداة تحليل و نقد للرأسمالية باقية، و ستبقى طالما أن سلبيات النظام الرأسمالي، كما حللها ماركس و أتباعه، باقية: كدورات "الفقاعات ثم الانفجار" التي تتصف بها الرأسمالية، و تزامن انتشار الفقر و الثراء الفاحش جنبا إلى جنب، و المنافسة الشرسة فيما بين الاقتصاديات الرأسمالية حول تقاسم الأسواق. لكنه سواء اكان الوضع تحت امرة الماركسية نفسها او أي مسمى اخر، فان التعاطي مع هذه المسائل سيطفو دائما خلال النقاشات التي تتناول الاقتصاد العالمي.
احد الانتقادات الموجهة لكتابي لسنة 1987 هو أني لم أوضح موقفي العلمي بجلاء: هل كنت ليبراليا أو ماركسيا أو وطنيا؟ و الجواب الابلغ (هو أني لست) " أيا مما سبق". لكن و قبل ان ابدي جوابي الاوسع، علي ان اعلق على المقاربات الثلاث و على سلبية في كتابي لعام 1987. لقد فشلت في التوضيح الكافي بان تلك المقاربات تتكون من شقين احدهما تحليلي و الاخر قيمي (معياري). مثال ذالك ان الاقتصاد الليبيرالي ليس اداة تحليلية تعتمد فقط على نظريات و فرضيات الاقتصاد النيوكلاسيكي(الحدث)،بل لها كذالك التزامات معيارية و قيمية تجاه السوق أو الاقتصاد الراسمالي. و كما قد ذكرت فان كارل ماركس نفسه تقبل الافكار التحليلية القاعدية للاقتصاد الليبيرالي في زمانه، لكنه مقت الراسمالية- المصطلح الذي اختاره (المدروسة)- و طرح اسئلة اعتبرها اكثر جذرية من تلك التي طرحها سابقوه من الاقتصاديين الكلاسكيين للقرن التاسع عشر: اسئلة عن مصادر النظام الراسمالي، القوانين التي تحكم تطوره و منتهاه. و على غرار ما أكده جوزف شومبيتر، ففي الوقت الذي كان اهتمام الاقتصاديين منصبا على الوظائف اليومية للنظام الرأسمالي، فان ماركس و شومبيتر نفسه كان اهتمامهما منصب على الحركية البعيدة المدى للنظام الرأسمالي.
و الوطنية، و بالتدقيق الوطنية الاقتصادية، كذالك تتشكل من الشقين التحليلي و المعياري.و هي تعترف في جوهرها التحليلي، بالطبيعة الفوضوية للأحداث الدولية، و أولوية الدولة و مصالحها في العلاقات الدولية وكذالك أهمية عامل القوة في العلاقات القائمة فيما بين الدول. لكن الوطنية كذالك التزام معياري تجاه الدولة –الأمة، و تجاه بناء الدولة و تجاه التفوق الأخلاقي لدولة الانتماء مقارنة مع باقي الدول الأخرى. و على الرغم من أني اقبل "بالاقتصاد الوطني"، أو ما اسميه لاحقا بمقاربة "الدولة-المركز"، كمقاربة تحليلية، لكني لا أتبنى الالتزام المعياري و الوصفات السياسية المرتبطة بالاقتصاد الوطني. إن التزامي القيمي هو للاقتصاد الليبرالي، أي، للحرية التجارية مع الحد الأدنى من الحواجز أمام تدفق السلع و الخدمات و رأس المال فيما بين الحدود الوطنية، و لو انه و تحت ظروف محددة يمكن تبرير سياسات وطنية كحماية التجارة أو السياسة الصناعية.
لو قدر لي أن أعود لما سبق، لكنت ميزت بوضوح فيما بين الاقتصاد الوطني كموقف معياري و الواقعية السياسية كمقاربة تحليلية. أو بتعبير أخر، ففي الوقت الذي يعتبر كل الوطنيون واقعيين من خلال تركيزهم على الدور الأساس للدولة، و المصالح الأمنية، و القوة في علاقات الدول، فليس كل الواقعيون وطنيين في نظرتهم المعيارية لعلاقات الدول. لهذا استعمل في كتابي هذا المصطلح العام "واقعي" ، أو بشيء من الدقة، "واقعية الدولة-المركز" لوصف مقاربتي في تحليل العلاقات الاقتصادية الدولية. لكن حتى مصطلح "واقعي" ذاته يحتاج إلى توضيح أوسع.
تصوري: واقعية الدولة-المركز
الواقعية موقف فلسفي كما أنها مقاربة تحليلية؛ و هي ليست بالضرورة التزام أخلاقي تجاه الدولة-الأمة. و واقع الحال هو أن العديد من الواقعيين يتحسرون على عالم لا تبدو الدولة فيه أنها مقيدة بما فيه الكفاية بواسطة القواعد الدولية و الاعتبارات الأخلاقية. كما أن الواقعية ليست بالنظرية العلمية. و على اعتبار أنها تصور فلسفي و أكاديمي، فان الواقعية لا تخضع لمبدأ بوبر الداعي لاثباث خطا الفرضية، و على غرار باقي المواقف الفلسفية، كالليبرالية و الماركسية، الواقعية لا يمكن إثباتها أو نفيها عن طريق البحوث التجريبية. لكن الدارسين للتقليد الواقعي في حقل العلاقات الدولية توصلوا لجملة من الفرضيات و النظريات، كنظريات توازن القوى و استقرار الهيمنة التي يمكن، بل و تم، إخضاعها للتجربة المادية من اجل إثبات صلاحيتها.
سنوات من قبل، سئلت عما إذا كان هناك فرق بين الواقعية و الوطنية. حيرني السؤال، لأنه بناء على اعتقادي السابق هو أن أي قارئ لهانز مورقانطاو، و هدلي بول، و البارزون من الكتاب الواقعيين، على دراية تامة بان هؤلاء الدارسين واقعيون في تحاليلهم للأحداث الدولية و الواعون في توقعاتهم فيما يخص الإمكانات البشرية، لم يكونوا وطنيين بالمرة. فالواقعي الكاشف عن الحالة المرضية الإنسانية لا يتقمص ما يراه، تماما مثل، الطبيب الذي لا يتقمص مرض السرطان الذي يكتشفه عند أي مريض. و الحقيقة هي أن، كتابات مرقنطاو، هاجمت الوطنية الزائدة، ففي،السياسة فيما بين الأمم لعام (1972)،سطر بوضوح قواعد السلوك الدبلوماسي الذي يساعد الدول على التعايش في أمان متبادل في نفس الوقت الذي يحافظون فيه على مصالحهم الوطنية. و كما هاجم النقاد، بدا أن مورقنطاو كان ساذجا في اعتقاده بأنه من الممكن تحديد مبادئ أخلاقية و دبلوماسية بالاستعانة بفرضياته الواقعية.لكن الملاحظ، بالنسبة لمرقنطاو و غيره من الواقعيين ( بمن فيهم أنا)، هو أن الواقعية و الوطنية ليسا متطابقتين. قد يكون الوطنيون واقعيين، لكن ليس الواقعيون بالضرورة وطنيين.
على الرغم من أن الواقعيين يعترفون بمركزية دور الدولة، و الأمن، و القوة في علاقات الدول إلا أنهم لا يتقبلون بالضرورة هذه الوضعية. و أول مدرس علمني الواقعية كتصور تحليلي، الأستاذ جورج ليتل من جامعة فرمونت،كان من الكويكر(الأصحاب) المسالمين، لكنه، و في مرة من المرات، ولما كنت في مستوى ما قبل التدرج، وبخني ليتل لسذاجتي و رآي غير الواقية حول تطور من تطورات السياسة الدولية. كما أن مارتن وايت، كاتب احد أهم الكراسات عن الواقعية لهذا القرن، سياسة القوة (1986)، كان مسيحيا مسالما.8 و حتى هانز مورقنطاو في كتابه الذائع الصيت السياسة فيما بين الأمم،و في إشارة خفية لهتلر، ندد "بالوطنية العارمة"، أي بالسلوكيات الامبريالية، على أنها لا أخلاقية. و إحدى رسائله الأساسية كانت دعوته الدول السعي لاحترام مصالح دول أخرى.9 لهذا فاني، اعتقد بأنه في الإمكان تحليل الاقتصاد العالمي من خلال تصور واقعي في نفس الوقت الذي يمكن تبني التزام قيمي تجاه غايات محددة.
كما ذكرنا به مايكل دويل في كتابه طرق الحرب و السلم (1997)، هناك العديد من التصورات الواقعية.10 لكن جل الواقعيين يشتركون(على الأقل) في قلة من المسائل الأساسية كالطبيعة الفوضوية للنظام العالمي و أسبقية الدولة في الشؤون الدولية، بمعنى، مركزية الدولة و مركزية النظام الواقعي. فواقعية مركزية الدولة هو الشكل التقليدي للواقعية المنسوبة لثيوسديديس، و ماكيافلي، و مورقنطاو و آخرون؛ إنها تركز على الدولة (المدينة، الإمبراطورية أو الدولة-الأمة) كلاعب أساس في الشؤون الدولية و حقيقة عدم وجود سلطة أسمى من هذه الوحدات السياسية السيادية؛ هذا المنطلق يصر على أن التحليل لابد أن يركز على السلوك الفردي للدول. أما واقعية النظام أو ما يطلق عليه أحيانا بالواقعية البنيوية أو الواقعة الجديدة، هي بمثابة النسخة الحديثة للأفكار الواقعية، و المرتبطة أساسا بالتجديد المؤثر في كتاب كناث والتز نظرية السياسة الدولية (1979).11 فعلى عكس تركيز واقعية الدولة المركز على الدولة و مصلحة الدولة، فان النسخة النظامية لوالتز تركز على توزيع القوة فيما بين الدول ضمن نظام دولي كمحدد أساس لسلوك الدولة.
إن التفسير الواقي للشؤون الدولية و المبني على مركزية الدولة يطرح مسلمات أساسية فيما يخص طبيعة الشؤون الدولية. لأنها تسلم بان النظام الدولي فوضوي، فان التفسير يرى في الدولة، في ظل غاب سلطة عليا، أنها الفاعل الأساس في الشؤون الدولية. لكن تواجد الفوضى لا يعني بان السياسة الدولية تتصف بسيمة حرب هوبزية دائمة و شاملة لدولة ما ضد الكل؛ إذ من المسلم به أن الدول تتعاون فيما بيتها و تنشئ لذالك المؤسسات اللازمة في ميادين عدة.12 إن الفوضى تعني بأنه لا توجد سلطة عليا قد تستنجد بها الدولة أوقات الشدة. بالإضافة إلى هذا، و على الرغم من أن الدولة تعتبر اللاعب الأساس في الشؤون الدولية، الواقعية ينبغي لها أن تعترف بالدور المهم للفاعلين الآخرين غير الدول كالشركات المتعددة الجنسيات، و المؤسسات الدولية، و المنظمات غير الحكومية، في التأثير على مجرى الشؤون الدولية. لكن الواقعية تصر على أن الدولة تبقى اللاعب الأساس.
إن الاهتمامات المركزية لدى الدولة هي مصالحها الوطنية المعرفة من خلال الأمن العسكري و الاستقلال السياسي؛ لكن واقعية الدولة المركز لا تستبعد أهمية الاعتبارات الأخلاقية و القيمية في تحديد السلوك. و على الرغم من أن الاستنتاج هو أن القوة و علاقات القوة تلعب الأدوار الأولى في الشؤون الدولية، إلا أن القوة قد تأخذ الصبغة العسكرية، و الاقتصادية و حتى النفسية في العلاقات فيما بين الدول، كما أشار إلى ذالك ا.ه. كار.بل أكثر من هذا، و على الرغم من التركيز على القوة، فان عوامل أخرى كالأفكار و القيم و العادات تلعب دورا مهما في العلاقات فيما بين الدول.13 و مثال ذالك أن النقد القائل بان الواقعيين ليسوا على دراية بدور الأفكار و البناءات الفكرية في الشؤون الدولية خاطئة بجلاء. و كما حاجج مورقنطاو في كتابه (الرائع) الإنسان العلمي في مواجهة سياسة القوة (1946)، إن القناعات الليبرالية للديمقراطيات الغربية جعلتهم غير قادرين على التعرف و التصدي الحازم لتهديدات الفاشية لسنوات 1930. و بعد الاعتراف بأهمية الأفكار، فان مورقنطاو انذر بأنه ليس من الحكمة تسليم مصير احدنا لقوة الأفكار وحدها14
أعرف في هذا الكتاب "الاقتصاد السياسي الشامل" على انه تفاعل السوق مع تلك الفواعل القوية كالدول و الشركات المتعددة الجنسيات و المنظمات الدولية، و هو تعريف اشمل من ذاك الذي ورد في كتابي لعام 1987، الاقتصاد السياسي للعلاقات الدولية، و لو أن كلا الكتابين يعتمدان مقاربة الدولة-المركز في معالجة الموضوع.15 و على الرغم من أني اسلم بان الدولة القطرية تبقى الفاعل الأساس في الشؤون الاقتصادية الداخلية و الدولية، إلا أني لا أؤمن بان الدولة هي الفاعل المهم الوحيد. فلاعبون مهمون آخرون يشملون البنك الدولي و صندوق النقد الدولي و لجنة الاتحاد الأوروبي. لكنه و على الرغم من أهمية هذه الفواعل، تجدني أركز على أن الحكومات الوطنية هي من يتخذ القرارات المهمة فيما يتعلق بالمسائل الاقتصادية؛ إنها هي من يضع القواعد التي تنشط في حيزها الفواعل الأخرى، كما أنها تستعمل قوتها الواسعة للتأثير على النتائج الاقتصادية. فاللاعبون السياسيون المهمون، و بالتحديد ألمانيا و فرنسا و بريطانيا، اساسيون حتى ضمن المؤسسة الدولية الأعلى اندماجا، كالاتحاد الأوروبي. و مهما كان الشكل النهائي للاتحاد الأوروبي، فان الحكومات الوطنية ستبقى اللاعب الأهم ضمن الترتيبات الإقليمية.
إن تفسيري للعلاقات الاقتصادية الدولية افترض أن مصالح و سياسات الدول تحددها النخبة السياسية الحاكمة و الفئات القوية داخل المجتمع الوطني إلى جانب طبيعة "النظام الوطني للاقتصاد السياسي". و كما حاججت في كتابي الحرب و التغيير في السياسة الدولية (1981)، فان السياسة الاقتصادية الخارجية لمجتمع ما، ما هي إلا مرآة للمصالح الوطنية لتلك الأمة كما تحددها النخبة في ذاك المجتمع.16 و كما يجادل أصحاب المصطلحات، و على حق، هناك عاملا ذاتيا في تعريف النخبة للمصلحة الوطنية. لكن العوامل الموضوعية كالموقع الجغرافي لمجتمع ما و المتطلبات المادية للاقتصاد، لها الأهمية الكبرى في تحديد المصلحة الوطنية. و مثال ذالك هو أن العوامل المادية وحدها هي القادرة على تفسير أن المصلحة القصوى لبريطانيا العظمى و لمدة حوالي أربع مائة سنة تمثلت في منع احتلال الأراضي المنخفضة (بلجيكا و هولندا) من قبل قوة مناوئة. يتضح من هذا أن السلوك البريطاني و الحروب العديدة التي خاضها الانكليز لمنع هذا الأراضي من السقوط في أيادي معادية على أن الأمة الانكليزية، و تحت قيادات مختلفة و نظم سياسية متعددة، اشتركت في تصور مصلحة وطنية فاقت التصور الضيق للنخب الحاكمة لفترة ما.
إن موقفي من مركزية الدولة يفترض أن الأمن القومي يشكل الاهتمام الأساس الدائم و الأبدي للدول. ففي نظام دولي يتصف حصرا " بالاعتماد على الذات" ، إذا ما استعملنا مصطلح كنات والتز المناسب، فعلى الدول دائما اخذ الحيطة من الأخطار الممكنة و المحتملة التي تهدد استقلالها السياسي و الاقتصادي. و القلق الأمني يعني بان القوة- العسكرية و الاقتصادية و/أو النفسية- ستكون ذات أهمية قصوى في الشؤون الدولية؛ على الدول أن تكون على دراية مستمرة بعلاقات القوة و ما قد يترتب عنها من مس بمصالحها الوطنية، و كذا بتغيرات موازين القوى الدولي. فبالرغم من محاججة ريشار روزكرانس السليمة القائلة، بان "الدولة التجارية" أصبحت مظهرا بارزا في الشؤون الدولية، فانه من الأهمية بمكان الاعتراف بان التطورات الايجابية للاقتصاد الدولي منذ 1945 كانت ممكنة بفعل ترتيبات النظام الأمني الناتجة عن التحالف فيما بين الولايات المتحدة و حلفائها في أوروبا و آسيا. فالدول التجارية كاليابان و ألمانيا (الغربية) برزت و نمت تحت حماية القوة العسكرية الأمريكية؛ بل أكثر من هذا ، انه مع نهاية القرن العشرين، فإنهما أقاما وحافظا على بديل عسكري مستقل.17 و عمليا فان هذه الدول التجارية تمتلك حاليا قوة عسكرية دفاعية مهمة و كذالك صناعات عسكرية كسياسة وقائية؛ حتى اليابان بدستورها " المسالم" أصبحت إحدى أعتا القوى العسكرية في العالم.
إحدى أهم النظريات المعاصرة و المنتقدة للواقعية هي "البنائية"18. فبحسب هذا الموقف المتنامي التأثير، فان السياسية الدولية ما هي إلا "بناء اجتماعيا" عوض أن تكون واقعا موضوعيا. فبحسب تعريف الكسندر وانت، فان المعتقدين الأساس للبنائية هما(1) أن البناءات (الهياكل) الإنسانية تحددها بالأساس الأفكار المشتركة عوض القوى المادية، و(2) أن هويات و مصالح البشر تبنى أو بالأحرى هي نتاج هذه الأفكار المشتركة عوض أن تكون نتاجا طبيعيا. إذا كانت هذه الأفكار هي الأصدق ، فإنها لا تضحد الواقعية و الرأسمالية و الليبرالية فقط، بل حتى الاقتصاد النيوكلاسيكي (أي الحديث) و مجمل العلوم السياسة. بالرغم من أن البنائية تصحيح مهم لبعض مواقف الواقعية و لمنهجية الاختيار العقلاني الفردي في الاقتصاد الحديث، فان فرضية البنائية الموحاة، و التي تطالبنا بالتخلي عن معارفنا عن السياسة الدولية و البداية من المنطلقات الجديدة التي حددتها البنائية، هي دعوة غير ملزمة بتاتا.
النقد الأساس من البنائية للواقعية هو أن هذه الأخيرة مادية محضة، و أنها تحلل العالم السياسي من خلال القوى التكنولوجية فقط، و من الظروف الحسية، و من عوامل موضوعي
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام