الديمقراطية: مفهومها... نشأتها... مقوماتها
عارف عادل مرشد الجامعة الأردنية
مفهوم اليموقراطبة:
يُعتبر مفهوم الديمقراطية من أكثر المفاهيم اتساعاً إلى الحد الذي تكاد فيه الكلمة أن تفقد معناها الأصلي. فتلك الكلمة التي تعني في الأصل اللفظي لها (حكم الشعب) قد أصبح لها على مستوى الاستخدام الاصطلاحي والسياسي ما لا يقل عن ثلاثمائة تعريف مختلف. وقد عملت الأنظمة السياسية المختلفة على هذا الخلط، فتلك الأنظمة بالرغم من الاختلاف فيما بينها إلا أنها لا تكاد تتردد في أن تعلن عن نفسها أنها أنظمه ديمقراطية(1).
من المعلوم أن القدماء من اليونانيين أطلقوا اسم الديمقراطية على نوع من الحكم اختاروه لأنفسهم تمييزاً له عن نوع آخر كانت أكثر الشعوب التي تجاورهم ترضخ له وتعيش في ظله. والكلمة مشتقة من لفظتين تعنيان حكم الشعب – في الأصل اليوناني Demos تعني الشعب وKratos تعني السلطة – أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه - بينما معظم الشعوب التي كانت تعيش في آسيا الصغرى وعلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط في ذلك العهد القديم كان يحكمها ملوك وأمراء مبشرون زعموا أن سلطتهم مستمدة من الآلهة.
إن الذي يفهمه معظم الناس عن الديمقراطية هو حق العدد الكبير من أفراد الشعب العاديين في بلد من البلاد أن يستبدلوا بحاكمهم حاكماً آخر. ويشرفوا بعض الاشراف على طريقة حكمهم. ويتناقشوا علناً في كل طرائق الحكم وقرارات الحكومة مناقشة مصحوبة بحريتهم في انتقاد جميع ولاة الأمور(2).
ونستطيع تعريف الديمقراطية بأنها مجموعة ممارسات لصناعة القرار السياسي تتم بطريقة مشاركة الغالبية من أفراد الأمة، وهذه الممارسات تتم من خلال إعطاء الحق لكل المواطنين في المشاركة في السلطة السياسية، الأمر الذي يعني عملياً حق الأفراد في التصويت والتشريع لمواقع القرار والحكم السياسي. فالنظام الديمقراطي هو الذي يعطي الحق لكل المواطنين بدون استثناء في ممارسة العمل السياسي حتى يمنع أي شخص أو فئة تحت أي شعار مثل (الحق الإلهي) من احتكار السلطة والاستئثار بها. ويعتبر المفكرون الذين دعوا إلى الديمقراطية أن هذا الحق هو طبيعي لكل أفراد البشر لا يمكن لأي سلطة أو قوة باسم القانون أو الدين أدن تصادر هذا الحق(3).
نشأة الديمقراطية:
تُعتبر أثينا هي المكان الأول الذي تم فيه تطبيق الحكم الديمقراطي والتي منها جاء استعمال مصطلح الديمقراطية . وهي في حقيقتها تجربة محدودة بالمعنى المتعارف عليه الآن، فلم يكن لكل أفراد المجتمع الحق في المشاركة في صناعة القرار السياسي آنذاك. فالعبيد والأجانب المقيمين في أثينا لم تشملهم الديمقراطية وهاتان الطبقتان كانتا تشكلان أغلبية سكان المدينة فضلاً عن عدم مشاركة النساء. فالحياة السياسية محصورة بالعرق والجنس المحددين والحالة الاقتصادية للفرد أي ممن يملكون الأراضي والعقارات. وهذه التجربة للديمقراطية لم تستمر لفترة طويلة حيث تغلبت مدينة سبارطة على أثينا عسكريا عام (404) ق.م.
ومما هو جدير بالذكر أن فلاسفة اليونان العظام لم يعتبروا النظام الديمقراطي تجربة صحيحة للمجتمع «فأفلاطون» مثلاً كان يدعو إلى نظام حكم الفرد الواحد. هذا الحاكم على معرفة تامة بمصالح الناس أكثر من معرفتهم هم بأنفسهم. وهكذا فإن هذا الحاكم هو الفيلسوف الذي ينتخب من قبل الفلاسفة فقط فالديمقراطية بالنسبة لافلاطون هي حكم الرعاع الذي لا يعرفون مصالحهم أو مصلحة المجتمع بصورة عامة.
أما «أرسطو» فإنه كان يعتقد أن الديمقراطية دائماً تنحدر إلى نوع من أنواع الديكتاتورية إما الجماعية أو الفردية. ومن هنا نلاحظ أن واضعي الفكر الفلسفي الأغريقي لم يكونوا من أنصار الديمقراطية(4. وبدخول المسيحية إلى أوروبا دخلت فكرة إلغاء نظريه السادة والعبيد لصالح فكرة المساواة والحرية وللطبيعة المادية للفكر الأوروبي تحولت المسيحية فيها إلى مؤسسة سلطوية عُرفت بمؤسسة الكنيسة وتحولت مع ذلك مسألة الحرية والمساواة من الوجهة العملية (وليس الفكرية) إلى حرية الكنيسة واتباعها.
وقد اتسع نطاق هذا الموقف ليشمل أيضاً حركة الفكر وحركة العلوم المادية حيث أصبحت الحرية في هذين المجالين هي ما تقره الكنيسة فقط. ونتيجة طبيعية نشأ الصراع مع الكنيسة ثم ما بين اتباع الكنائس المختلفة ثم مع سلطة الكنيسة كفكرة إلى أن وصل الصراع إلى نهايته المحتومة في فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة وبالتالي تحرير حركة الفكر المجتمعي والعلمي.
وقد أدى هذا التحرر إلى الأفضل فيما يتصل بمفهوم الشعب والسلطة والعلاقة بينهما وكذلك مفهوم الحرية والحق والالتزام, فعادت بذلك الحيوية النهضوية إلى الحركة الفكرية القانونية الرومانية لتتطور من جديد. فتطورت مع هذا مفاهيم العديد من المرتكزات الأساسية للفكر المجتمعي وعلاقته بالحياة المجتمعية وبالدولة.
ومن خلال صراع الأوروبيين مع الملوك المستبدين الذين حكموا القارة منذ بداية الحضارة الغربية جاء الأيمان بالديمقراطية تدريجياً كأسلوب ناجح في الحياة السياسية. هذا الصراع الذي برمج فلسفته مفكرو عصر التنوير من أمثال «روسو» و «فولتير» و «جون لوك» و»مونتسيكو» كانت حصيلته الثورة الأمريكية والفرنسية التي أدت إلى إرساء القواعد السياسية والاجتماعية لمشاركة أفراد المجتمع في صناعة القرار السياسي(5).
فإذا اعتبرنا أن الثورة الفرنسية وثورة «كورمويل» البريطانية والثورة الأمريكية علامات فارقة في عملية التطور الذي فرض نفسه بالعنف لإحداث التغيير في مخلفات الكنيسة. فان نقطة التحول الفكري في هذا المجال وقعت بنظرية العقد الاجتماعى لجان جاك روسو الذي حدد العلاقة بين الشعب والسلطة على أساس تعاقدي بحيث تكون مهمة السلطة تنفيذ موقف غالبية الشعب.
وفي عصر الثورة الصناعية تبلور الفكر الاقتصادي الفردي الذي يعرف الآن بالرأسمالية إلى جانب المسيحية كنظام أخلاقي فردي فأصبحت مصلحة الشعب في مصلحة الأفراد المنتمين إليه عرقياً، وأصبحت حرية الشعب في إطار الدولة هي محصلة حرية الفرد وحماية حرية الشعب تكمن في حماية حرية الفرد. وقد ترتب على ذلك استئناف التعددية في الفلسفات، مما زاد في حدة مواجهة مشكلة تبني الفكر الواحد والتشريع الواحد للمجتمع فتكشفت الحاجة إلى رأي الأغلبية وازدادت قوة تبني الديمقراطية التي أصبحت الآن نظاماً للحكم .
فقد كان من الحتميات بلورة معنى الفكر الديمقراطي هذا إلى ما يعرف حالياً بالديمقراطية الليبرالية إلى شمولية وحرية الرأي والانتخاب للوصول إلى معرفة موقف الأغلبية من الآراء المطروحة وتبنيه والالتزام به، وأصبحت هذه القاعدة الفكرية الأساسية في العالم الليبرالي وفي كل مجتمع ينطلق من التعددية. فقيام الديمقراطية الليبرالية اقتضى قيام ديمقراطية الفرد في الشعب والحرب والنقابة والتزام الجميع في تنفيذ قرار السلطة التشريعية والتنفيذية مع حق كل معارض في إبداء رأيه علناً والدفاع عنه والعمل من أجل إقناع الناس به(6).
مقومات الديمقراطية:
أن مقومات الديمقراطية الراهنة وهي «الديمقراطية الغربية» مستوحاة من الثورة الفرنسية وهي ديمقراطية ذات صبغة سياسية وروحية محضة. تستهدف تحرير الفرد من سيطرة الملوك والكنيسة والطوائف الأخرى التي كانت تهيمن على الدولة، وتلتزم باحترام حقوق الأفراد وهوياتهم الأساسية وتقرّر المساواة في الحقوق السياسية. وقد ارتكزت تلك الديمقراطية على المذهب الفردي الحر الذي كان بمثابة الأساس الفلسفي لها طوال القرن التاسع عشر. ومضمون هذا المذهب أن دور الدولة يجب أن يكون هو حماية الأفراد في ممارسة حقوقهم وحرياتهم وضمان تمتعهم بها خاصة الاقتصادية7.
وأول المبادئ التي تنهض عليها الديمقراطية هو مبدأ السيادة الشعبية, فالسيادة لا تكون لفرد كما هو الحال في النظم الفردية، ولا لقلة كما هو الحال في حكم الأقلية، وإنما لأبناء الدولة أنفسهم, وهو ما يعبر عنه بمبدأ حكم الأغلبية، بمعنى قيام حكومة تمثل أغلبية الشعب، لأن قيام حكومة تمثل الإجماع الشعبي أمر يكاد يكون مستحيلاً، وفي المراحل الأولى لفكرة السيادة كانت من حق الملوك ولم يكن للشعوب نصيب فيها، بيد أن مفهومها قد تغير بفضل ظهور نظريات العقد الاجتماعي الذي نادى بها فقهاء القرنين السابع عشر والثامن عشر التي أسندت السيادة للشعب وحده, أما الحكام فهم ممثلون للشعب صاحب السيادة.
ويعتبر عدم اللجوء إلى العنف أهم مقومات إنجاح النظام الديمقراطي. فالديمقراطية نظام سياسي نشأ أساساً لحل الصراعات السياسية والطبقية والاجتماعية بغير اللجوء إلى العنف. فلا بد للديمقراطية لكي تعمل بكفاءة واقتدار أن تتضمن الوسائل الفعالة التي تستطيع عن طريقها التوفيق السلمي بين المصالح الطبقية المتعارضة والاتجاهات السياسية المختلفة. وذلك يطلب وجود ثقافة سياسيه تؤمن بالديمقراطية فهي مطلب أساسي لإنجاح أي نظام وبالذات النظام الديمقراطي(.
كما أنه لابد للديمقراطية، كنظام، من بيئة فكرية تتصف بالحرية. فالديمقراطية تتحرك في هامش ضيق في العقائد الشمولية أو تلك التي يتكثف حضورها إلى حدود مقاربة التفاصيل. فهامش إجراء الديمقراطية يتسع في الأنظمة ذات الأفكار الحرة أو غير الشمولية، أي تلك التي تكتفي بالضوابط العامة وتترك أمر التفاصيل للناس، وهو ما يقود إلى الاختلاف، وبالتالي يفرض استدعاء الخيار الديمقراطي لتوظيف هذه الاختلاف والافادة منه والحيلولة دون وقوع الشقاق. وهكذا نرى أنه في الأنظمة الشمولية القائمة على الأيديولوجيات والخيارات الفكرية الحاسمة لا ترفع الديمقراطية قناعة ولا تضع أخرى للتوافق المسبق على تلك الخيارات(9).
وفي النهاية يمكن تلخيص أهم مقومات الديمقراطية في النقاط الآتية:
1) أن يسعى النظام السياسي إلى تنظيم انتخابات دورية يشارك فيها المواطنون كافة لاختيار الأفراد المسؤولين عن صناعة القرار السياسي في الدولة.
2) حق المواطنين في تنظيم أنفسهم ضمن مؤسسات سياسية واجتماعية أو غيرها لخدمة مصالحهم وإفساح المجال للأشخاص المؤهلين لترشيح أنفسهم للمراكز والمواقع السياسية.
3) عدم احتكار السلطة من قبل أي جهة فرداً كانت أو فئة معينة تحت أي شعار كان. بمعنى آخر إفساح المجال لمعارضه حقيقية ضمن النظام السياسي تعمل بالطرق السليمة لاستلام الحكم10).
الهوامش:
1- نيفين عبد الخالق مصطفى، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ط1، القاهرة: مكتبة الملك فيصل الإسلامية، 1985، ص38-39.
2- دليل بيرنر، «الديمقراطية»، ترجمة: محمد بدران، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1938، ص18.
3- عزيز الحمداني، «عقد الديمقراطية» مجلة المنطلق، العدد 115، ربيع/صيف 1996، ص41.
4- خالد الحسن، «إشكالية الديمقراطية والبديل الإسلامي في الوطن العربي»، ط1، عمان: دار الجيل، 1988، ص154-155.
5- عاصم أحمد عجيلة، محمد رفعت عبد الوهاب، «النظم السياسية»، ط5، القاهرة: دار الطباعة الحديثة، 1992، ص36، ص52-53.
6- عزيز الحمداني، مرجع سابق، ص46.
7- خالد الحسن، مرجع سابق، ص156.
8- السيد ياسين، «الديمقراطية في الوطن العربي بين النظرية والتطبيق»، ورقة قدمت إلى مؤتمر الديمقراطية في الوطن العرب الذي عقد في عمان بين (9-10تموز/يوليو 1994) ص2.
9- حسن جابر، «الدين وحق الاختلاف: معالجة لاشكاليات المقاربة بين الدين والديمقراطية»، مجلة المنطلق، عدد 115/ ربيع/صيف 1996، ص2.
10- عزيز الحمداني، مرجع سابق، ص50.
المرجع عارف عادل مرشد الجامعة الأردنية المتاح في الموقع :https://30dz.yoo7.com/
عارف عادل مرشد الجامعة الأردنية
مفهوم اليموقراطبة:
يُعتبر مفهوم الديمقراطية من أكثر المفاهيم اتساعاً إلى الحد الذي تكاد فيه الكلمة أن تفقد معناها الأصلي. فتلك الكلمة التي تعني في الأصل اللفظي لها (حكم الشعب) قد أصبح لها على مستوى الاستخدام الاصطلاحي والسياسي ما لا يقل عن ثلاثمائة تعريف مختلف. وقد عملت الأنظمة السياسية المختلفة على هذا الخلط، فتلك الأنظمة بالرغم من الاختلاف فيما بينها إلا أنها لا تكاد تتردد في أن تعلن عن نفسها أنها أنظمه ديمقراطية(1).
من المعلوم أن القدماء من اليونانيين أطلقوا اسم الديمقراطية على نوع من الحكم اختاروه لأنفسهم تمييزاً له عن نوع آخر كانت أكثر الشعوب التي تجاورهم ترضخ له وتعيش في ظله. والكلمة مشتقة من لفظتين تعنيان حكم الشعب – في الأصل اليوناني Demos تعني الشعب وKratos تعني السلطة – أي أن الشعب يحكم نفسه بنفسه - بينما معظم الشعوب التي كانت تعيش في آسيا الصغرى وعلى شاطئ البحر الأبيض المتوسط في ذلك العهد القديم كان يحكمها ملوك وأمراء مبشرون زعموا أن سلطتهم مستمدة من الآلهة.
إن الذي يفهمه معظم الناس عن الديمقراطية هو حق العدد الكبير من أفراد الشعب العاديين في بلد من البلاد أن يستبدلوا بحاكمهم حاكماً آخر. ويشرفوا بعض الاشراف على طريقة حكمهم. ويتناقشوا علناً في كل طرائق الحكم وقرارات الحكومة مناقشة مصحوبة بحريتهم في انتقاد جميع ولاة الأمور(2).
ونستطيع تعريف الديمقراطية بأنها مجموعة ممارسات لصناعة القرار السياسي تتم بطريقة مشاركة الغالبية من أفراد الأمة، وهذه الممارسات تتم من خلال إعطاء الحق لكل المواطنين في المشاركة في السلطة السياسية، الأمر الذي يعني عملياً حق الأفراد في التصويت والتشريع لمواقع القرار والحكم السياسي. فالنظام الديمقراطي هو الذي يعطي الحق لكل المواطنين بدون استثناء في ممارسة العمل السياسي حتى يمنع أي شخص أو فئة تحت أي شعار مثل (الحق الإلهي) من احتكار السلطة والاستئثار بها. ويعتبر المفكرون الذين دعوا إلى الديمقراطية أن هذا الحق هو طبيعي لكل أفراد البشر لا يمكن لأي سلطة أو قوة باسم القانون أو الدين أدن تصادر هذا الحق(3).
نشأة الديمقراطية:
تُعتبر أثينا هي المكان الأول الذي تم فيه تطبيق الحكم الديمقراطي والتي منها جاء استعمال مصطلح الديمقراطية . وهي في حقيقتها تجربة محدودة بالمعنى المتعارف عليه الآن، فلم يكن لكل أفراد المجتمع الحق في المشاركة في صناعة القرار السياسي آنذاك. فالعبيد والأجانب المقيمين في أثينا لم تشملهم الديمقراطية وهاتان الطبقتان كانتا تشكلان أغلبية سكان المدينة فضلاً عن عدم مشاركة النساء. فالحياة السياسية محصورة بالعرق والجنس المحددين والحالة الاقتصادية للفرد أي ممن يملكون الأراضي والعقارات. وهذه التجربة للديمقراطية لم تستمر لفترة طويلة حيث تغلبت مدينة سبارطة على أثينا عسكريا عام (404) ق.م.
ومما هو جدير بالذكر أن فلاسفة اليونان العظام لم يعتبروا النظام الديمقراطي تجربة صحيحة للمجتمع «فأفلاطون» مثلاً كان يدعو إلى نظام حكم الفرد الواحد. هذا الحاكم على معرفة تامة بمصالح الناس أكثر من معرفتهم هم بأنفسهم. وهكذا فإن هذا الحاكم هو الفيلسوف الذي ينتخب من قبل الفلاسفة فقط فالديمقراطية بالنسبة لافلاطون هي حكم الرعاع الذي لا يعرفون مصالحهم أو مصلحة المجتمع بصورة عامة.
أما «أرسطو» فإنه كان يعتقد أن الديمقراطية دائماً تنحدر إلى نوع من أنواع الديكتاتورية إما الجماعية أو الفردية. ومن هنا نلاحظ أن واضعي الفكر الفلسفي الأغريقي لم يكونوا من أنصار الديمقراطية(4. وبدخول المسيحية إلى أوروبا دخلت فكرة إلغاء نظريه السادة والعبيد لصالح فكرة المساواة والحرية وللطبيعة المادية للفكر الأوروبي تحولت المسيحية فيها إلى مؤسسة سلطوية عُرفت بمؤسسة الكنيسة وتحولت مع ذلك مسألة الحرية والمساواة من الوجهة العملية (وليس الفكرية) إلى حرية الكنيسة واتباعها.
وقد اتسع نطاق هذا الموقف ليشمل أيضاً حركة الفكر وحركة العلوم المادية حيث أصبحت الحرية في هذين المجالين هي ما تقره الكنيسة فقط. ونتيجة طبيعية نشأ الصراع مع الكنيسة ثم ما بين اتباع الكنائس المختلفة ثم مع سلطة الكنيسة كفكرة إلى أن وصل الصراع إلى نهايته المحتومة في فصل سلطة الكنيسة عن سلطة الدولة وبالتالي تحرير حركة الفكر المجتمعي والعلمي.
وقد أدى هذا التحرر إلى الأفضل فيما يتصل بمفهوم الشعب والسلطة والعلاقة بينهما وكذلك مفهوم الحرية والحق والالتزام, فعادت بذلك الحيوية النهضوية إلى الحركة الفكرية القانونية الرومانية لتتطور من جديد. فتطورت مع هذا مفاهيم العديد من المرتكزات الأساسية للفكر المجتمعي وعلاقته بالحياة المجتمعية وبالدولة.
ومن خلال صراع الأوروبيين مع الملوك المستبدين الذين حكموا القارة منذ بداية الحضارة الغربية جاء الأيمان بالديمقراطية تدريجياً كأسلوب ناجح في الحياة السياسية. هذا الصراع الذي برمج فلسفته مفكرو عصر التنوير من أمثال «روسو» و «فولتير» و «جون لوك» و»مونتسيكو» كانت حصيلته الثورة الأمريكية والفرنسية التي أدت إلى إرساء القواعد السياسية والاجتماعية لمشاركة أفراد المجتمع في صناعة القرار السياسي(5).
فإذا اعتبرنا أن الثورة الفرنسية وثورة «كورمويل» البريطانية والثورة الأمريكية علامات فارقة في عملية التطور الذي فرض نفسه بالعنف لإحداث التغيير في مخلفات الكنيسة. فان نقطة التحول الفكري في هذا المجال وقعت بنظرية العقد الاجتماعى لجان جاك روسو الذي حدد العلاقة بين الشعب والسلطة على أساس تعاقدي بحيث تكون مهمة السلطة تنفيذ موقف غالبية الشعب.
وفي عصر الثورة الصناعية تبلور الفكر الاقتصادي الفردي الذي يعرف الآن بالرأسمالية إلى جانب المسيحية كنظام أخلاقي فردي فأصبحت مصلحة الشعب في مصلحة الأفراد المنتمين إليه عرقياً، وأصبحت حرية الشعب في إطار الدولة هي محصلة حرية الفرد وحماية حرية الشعب تكمن في حماية حرية الفرد. وقد ترتب على ذلك استئناف التعددية في الفلسفات، مما زاد في حدة مواجهة مشكلة تبني الفكر الواحد والتشريع الواحد للمجتمع فتكشفت الحاجة إلى رأي الأغلبية وازدادت قوة تبني الديمقراطية التي أصبحت الآن نظاماً للحكم .
فقد كان من الحتميات بلورة معنى الفكر الديمقراطي هذا إلى ما يعرف حالياً بالديمقراطية الليبرالية إلى شمولية وحرية الرأي والانتخاب للوصول إلى معرفة موقف الأغلبية من الآراء المطروحة وتبنيه والالتزام به، وأصبحت هذه القاعدة الفكرية الأساسية في العالم الليبرالي وفي كل مجتمع ينطلق من التعددية. فقيام الديمقراطية الليبرالية اقتضى قيام ديمقراطية الفرد في الشعب والحرب والنقابة والتزام الجميع في تنفيذ قرار السلطة التشريعية والتنفيذية مع حق كل معارض في إبداء رأيه علناً والدفاع عنه والعمل من أجل إقناع الناس به(6).
مقومات الديمقراطية:
أن مقومات الديمقراطية الراهنة وهي «الديمقراطية الغربية» مستوحاة من الثورة الفرنسية وهي ديمقراطية ذات صبغة سياسية وروحية محضة. تستهدف تحرير الفرد من سيطرة الملوك والكنيسة والطوائف الأخرى التي كانت تهيمن على الدولة، وتلتزم باحترام حقوق الأفراد وهوياتهم الأساسية وتقرّر المساواة في الحقوق السياسية. وقد ارتكزت تلك الديمقراطية على المذهب الفردي الحر الذي كان بمثابة الأساس الفلسفي لها طوال القرن التاسع عشر. ومضمون هذا المذهب أن دور الدولة يجب أن يكون هو حماية الأفراد في ممارسة حقوقهم وحرياتهم وضمان تمتعهم بها خاصة الاقتصادية7.
وأول المبادئ التي تنهض عليها الديمقراطية هو مبدأ السيادة الشعبية, فالسيادة لا تكون لفرد كما هو الحال في النظم الفردية، ولا لقلة كما هو الحال في حكم الأقلية، وإنما لأبناء الدولة أنفسهم, وهو ما يعبر عنه بمبدأ حكم الأغلبية، بمعنى قيام حكومة تمثل أغلبية الشعب، لأن قيام حكومة تمثل الإجماع الشعبي أمر يكاد يكون مستحيلاً، وفي المراحل الأولى لفكرة السيادة كانت من حق الملوك ولم يكن للشعوب نصيب فيها، بيد أن مفهومها قد تغير بفضل ظهور نظريات العقد الاجتماعي الذي نادى بها فقهاء القرنين السابع عشر والثامن عشر التي أسندت السيادة للشعب وحده, أما الحكام فهم ممثلون للشعب صاحب السيادة.
ويعتبر عدم اللجوء إلى العنف أهم مقومات إنجاح النظام الديمقراطي. فالديمقراطية نظام سياسي نشأ أساساً لحل الصراعات السياسية والطبقية والاجتماعية بغير اللجوء إلى العنف. فلا بد للديمقراطية لكي تعمل بكفاءة واقتدار أن تتضمن الوسائل الفعالة التي تستطيع عن طريقها التوفيق السلمي بين المصالح الطبقية المتعارضة والاتجاهات السياسية المختلفة. وذلك يطلب وجود ثقافة سياسيه تؤمن بالديمقراطية فهي مطلب أساسي لإنجاح أي نظام وبالذات النظام الديمقراطي(.
كما أنه لابد للديمقراطية، كنظام، من بيئة فكرية تتصف بالحرية. فالديمقراطية تتحرك في هامش ضيق في العقائد الشمولية أو تلك التي يتكثف حضورها إلى حدود مقاربة التفاصيل. فهامش إجراء الديمقراطية يتسع في الأنظمة ذات الأفكار الحرة أو غير الشمولية، أي تلك التي تكتفي بالضوابط العامة وتترك أمر التفاصيل للناس، وهو ما يقود إلى الاختلاف، وبالتالي يفرض استدعاء الخيار الديمقراطي لتوظيف هذه الاختلاف والافادة منه والحيلولة دون وقوع الشقاق. وهكذا نرى أنه في الأنظمة الشمولية القائمة على الأيديولوجيات والخيارات الفكرية الحاسمة لا ترفع الديمقراطية قناعة ولا تضع أخرى للتوافق المسبق على تلك الخيارات(9).
وفي النهاية يمكن تلخيص أهم مقومات الديمقراطية في النقاط الآتية:
1) أن يسعى النظام السياسي إلى تنظيم انتخابات دورية يشارك فيها المواطنون كافة لاختيار الأفراد المسؤولين عن صناعة القرار السياسي في الدولة.
2) حق المواطنين في تنظيم أنفسهم ضمن مؤسسات سياسية واجتماعية أو غيرها لخدمة مصالحهم وإفساح المجال للأشخاص المؤهلين لترشيح أنفسهم للمراكز والمواقع السياسية.
3) عدم احتكار السلطة من قبل أي جهة فرداً كانت أو فئة معينة تحت أي شعار كان. بمعنى آخر إفساح المجال لمعارضه حقيقية ضمن النظام السياسي تعمل بالطرق السليمة لاستلام الحكم10).
الهوامش:
1- نيفين عبد الخالق مصطفى، المعارضة في الفكر السياسي الإسلامي، ط1، القاهرة: مكتبة الملك فيصل الإسلامية، 1985، ص38-39.
2- دليل بيرنر، «الديمقراطية»، ترجمة: محمد بدران، القاهرة: لجنة التأليف والترجمة والنشر، 1938، ص18.
3- عزيز الحمداني، «عقد الديمقراطية» مجلة المنطلق، العدد 115، ربيع/صيف 1996، ص41.
4- خالد الحسن، «إشكالية الديمقراطية والبديل الإسلامي في الوطن العربي»، ط1، عمان: دار الجيل، 1988، ص154-155.
5- عاصم أحمد عجيلة، محمد رفعت عبد الوهاب، «النظم السياسية»، ط5، القاهرة: دار الطباعة الحديثة، 1992، ص36، ص52-53.
6- عزيز الحمداني، مرجع سابق، ص46.
7- خالد الحسن، مرجع سابق، ص156.
8- السيد ياسين، «الديمقراطية في الوطن العربي بين النظرية والتطبيق»، ورقة قدمت إلى مؤتمر الديمقراطية في الوطن العرب الذي عقد في عمان بين (9-10تموز/يوليو 1994) ص2.
9- حسن جابر، «الدين وحق الاختلاف: معالجة لاشكاليات المقاربة بين الدين والديمقراطية»، مجلة المنطلق، عدد 115/ ربيع/صيف 1996، ص2.
10- عزيز الحمداني، مرجع سابق، ص50.
المرجع عارف عادل مرشد الجامعة الأردنية المتاح في الموقع :https://30dz.yoo7.com/
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام