المجتمع المدني:وظائفه،و خصائصه
الفصل الأول
أصــل المجـتمـع المـدنــى
منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنماوال أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة…..الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
وقد ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ……الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها .
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
الفصل الأول
أصــل المجـتمـع المـدنــى
منذ فجر التاريخ، كان الهم الأول للإنسان هو البحث عن أفضل الوسائل لإشباع احتياجاته المادية والمعنوية ومنها الحاجة للاجتماع بالآخرين كغريزة أساسية وتكوين مجتمع منظم يسوده التعاون فيما بين الأفراد والجماعات، وهو ما عبر عنه أبو الفلاسفة أفلاطون بقوله إن الإنسان حيوان مدني بطبيعته، حيث كان يقصد بكلمة مدني أن المدينة هي الشكل المثالي لتنظيم المجتمع الإنساني وتحقيق السعادة .
لكن هذه المثالية لم تتحقق في الواقع، حيث أدت زيادة أعداد البشر وتعقد المجتمعات مع قلة الموارد إلى نشوب الصراعات والحروب التي هددت الجميع بالفناء إن لم يجدوا وسيلة لتسوية الخلافات وتقسيم الموارد بشكل يقبله الجميع ويوفق بينهم. وكان ذلك وراء ظهور الحاجة إلى النظام والقانون وكذلك الحاجة إلى السلطة القادرة على وضعه ثم فرضه على الجميع تجنباً لأخطار الفوضى والدمار . وكانت الحاجة إلى الأمن والسلام هى أم الاختراع الذي أوجد السلطة القادرة على تنظيم الجماعة الإنسانية، وبدأت منذ ذلك الوقت قصة كفاح الإنسان بحثاً عن الأسلوب الأمثل لتنظيم العلاقات الاجتماعية والشكل المثالي للسلطة الذي يضمن تحقيق الخير والسعادة والفضيلة .
وكانت الأسرة هي النواة الأولى للمجتمع المنظم في مراحل الحياة البدائية البسيطة، حيث سادها التعاون الغريزي وانتمى لها الفرد على أساس رابطة الدم وصلة الرحم والقرابة. وتحدد في ظلها دوره بحسب سنه وصفته وهل هو أب أم ابن أم زوج، ثم اتسع نطاق الأسرة وانضمت إليها عائلات جديدة بروابط المصاهرة فتشكلت القبيلة ثم العشيرة التي تضم مجموعة قبائل . ويمتلك السلطة فيها الشيوخ والعجائز الأكبر سناً. ولكن رابطة الدم لم تعد هي الأساس الوحيد للانتماء في المجتمع، حيث ظهرت روابط أوسع: دينية أو مذهبية أو طائفية . وهكذا، كانت المجتمعات الإنسانية تنقسم على أسس طبيعية لا يد للفرد في اختيارها فهو يجد نفسه منتمياً إلى عائلة وقبيلة وعشيرة معينة بحكم ميلاده.
ومع تعقد المجتمعات وتزايد الأعداد لم تعد هذه المجتمعات الطبيعية تنعم بالاستقرار والأمن. فقد بدأ الأفراد يتحيزون لمصالحهم الخاصة ويسعون لتحقيقها ولو على حساب الآخرين. ولم تعد القواعد العرفية والمبادئ الأخلاقية قادرة على حل ما بينهم من صراعات، وظهرت الحاجة الملحة إلى وضع القوانين في شكل نصوص مكتوبة والحاجة إلى سلطة تتولى فرضها وإلزام الجميع بها.
وفي العصور الوسطى لعبت السلطة الدينية هذا الدور، فكانت الكنيسة في أوروبا هي صاحبة السلطة في فرض النظام والقانون، ولكنها ما لبثت أن ادعت أنها تملك سلطة مقدسة مستمدة من الإرادة الإلهية. وتمادت في ممارسة القهر والكبت ضد الحريات، مما أغرق المجتمع الأوروبي في ظلام التخلف والجمود طوال العصور الوسطى في ذات الوقت الذي عاشت فيه الحضارة الإسلامية والعربية أزهى عهودها وعرفت أولى صور الدولة بمعناها الحديث كمجموعة مؤسسات واضحة ذات وظائف محددة .
ومع بزوغ القرن السابع عشر دخلت أوروبا عصر التنوير المعروف بعصر النهضة، حيث بدأ الانتقال من اقتصاد الإقطاع الزراعي إلى الصناعة. وارتبطت الثورة الصناعية واختراع الآلة بحركة هجرة السكان من الريف إلى المدن وانتقال العامل من المنماوال أو الورشة إلى المصنع الكبير، الذي يضم أعداداً كبيرة من العمال، فأصبحت هناك طبقتان إحداهما تعمل لدى الأخرى التي تمتلك رأس المال وبدأ التعارض يتضح بين مصالح العمال وأصحاب المصانع .
كذلك ارتبط هذا الوضع الاقتصادي الجديد بظهور حق الملكية الخاصة وهو ما دفع كل مجموعة من الأفراد إلى تأسيس نقابات واتحادات ومنظمات للدفاع عن حقوقهم ومصالحهم الخاصة والمشتركة. وأصبحت هذه الروابط تحظى بولاء وانتماء عدد كبير من الأفراد بغض النظر عما يوجد بينهم من اختلافات في روابط طبيعية كالقرابة والدين والجنس واللون والطائفة…..الخ .
وفرض سؤال جديد نفسه : ما هي العلاقة بين الجماعات المعبرة عن مصالح خاصة لأعضائها والدولة المعبرة عن المصلحة العامة للمجتمع ككل ؟ وهل هناك مجال وسط للالتقاء بينهما؟ هنا، جاء المجتمع المدني كحلقة وصل بين هذين المجالين.
فالمجتمع المدني هو أحد أشكال تنظيم المجتمعات بما يحقق التعاون بين الأفراد والجماعات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بهدف حماية حقوق ومصالح الفئات المتنوعة والتوفيق بينها ، بما يضمن أعلى درجة من المساواة فيما بينها . وهو يعتمد في ذلك على وسائل مستقلة بعيدة عن تدخل الحكومة وسيطرتها على أساس الاحترام المتبادل والموازنة بين المصالح الخاصة والمصلحة العامة للمجتمع ككل.
وقد ارتبطت ظاهرة المجتمع المدني في نشأتها وتطورها في المراحل اللاحقة لعصر التنوير بتاريخ نضال الشعوب من أجل الديموقراطية والحرية والمساواة. كما عبرت عن أفضل وسيلة لعلاج التعارض الظاهري بين حاجة الإنسان إلى الحرية وحاجته إلى الأمن والنظام. فالسلطة التي جسدتها الدولة ارتبطت في التاريخ بممارسة ألوان من الاستبداد والقهر والظلم والتعدي على حقوق شعوبها بحجة حماية المجتمع من الفوضى والحروب وتسببت عهود حكم الملوك المستبدين في أوروبا في حدوث ثورات شعبية طالبت بالديموقراطية واحترام حقوق الإنسان .
وهنا، ظهرت الحاجة إلى تأسيس منظمات وتجمعات للدفاع عن تلك الحقوق في مواجهة الحكام المستبدين بما يعيد التوازن الذي سبق وأن تعرض للاختلال بين الحرية والنظام. وتمثلت تلك المنظمات في الجمعيات والمنظمات غير الحكومية والنقابات والتي أخذت صورة كيانات مستقلة عن الدولة. فلولا الاستقلال لما تمكنت من الحد من التسلط والاستبداد الحكومي ووقف اعتداء السلطة على حقوق الأفراد والجماعات .
وهكذا، حدث التطور في معنى المجتمع المدني من وسيلة للتنظيم تهدف إلى الحفاظ على المصالح الخاصة فقط إلى وسيلة لحماية الحقوق والحريات في مواجهة الدولة .
ولكن هل معنى ذلك أن المجتمع المدني في صراع دائم مع الدولة ؟
الحقيقة أن هذا غير صحيح، فالمجتمع المدني يتعارض فقط مع الدولة المستبدة غير الديموقراطية. ولكن الدولة لا تسعى بالضرورة لتقييد الحريات أو كبتها، وإنما هي في الأصل جاءت كوسيلة ابتكرها الإنسان للحفاظ على كيان المجتمع وتحقيق النظام. ولذا فإنها لها وجهها الإيجابي المتمثل فى دورها سعيا للآرتقاء بالمجتمع كالتنمية الاقتصادية وحماية الهوية الحضارية والثقافية .
هذه الغايات العامة يتطلع إليها أي شعب، وقد يقبل الأفراد التضحية ببعض مصالحهم الخاصة في سبيلها. ولكن للوصول إلى هذا القبول يحتاج المجتمع إلى الدخول في حوار يتم فيه تبادل وجهات نظر الفئات المختلفة وصولاً إلى حل وسط . فكيف يتم هذا الحوار ؟هنا يأتي دور مؤسسات المجتمع المدني التي توفر قنوات وسيطة يتم من خلالها الحوار بشكل منظم في سلام دون أن يشعر أي طرف بحاجته للجوء إلى العنف .
والآن، هل يمكننا تحديد تلك المعاني المتعددة التي تحملها كلمة مجتمع مدني ؟ يمكن القول أن المجتمع المدني هو رابطة اجتماعية تقوم على الاختيار الفردي يدخل فيها الأفراد طواعية دون إجبار ويتقدمون إلى التنظيمات القائمة بطلب الانضمام إلى عضويتها بإرادتهم الحرة التي تجعلهم يلتزمون بمبادئها ويسهمون بجد في أنشطتها .ووجود هذه الرابطة الاجتماعية يحقق للمجتمع ككل مزيداً من الاستقرار والسلام والأمن، كما يضمن وضع حدود لتقييد سلطة الدولة ومنعها من الاستبداد .
وهذا الشكل من التنظيم الاجتماعي يتكون من مجموعة من المؤسسات المتنوعة دينية وتعليمية ومهنية وسياسية وثقافية، كالنقابات والاتحادات العمالية والمهنية والجمعيات الأهلية، وكذلك الخيرية والأحزاب السياسية ……الخ والتي تسودها قيم ومبادئ التسامح وقبول الآخر والحوار السلمي واحترام الحرية والخصوصية الفردية. وتقوم تلك الهيئات والمؤسسات بممارسة دور الرقيب على تصرفات الحكومة إزاء الأفراد والجماعات ثم محاسبتها وسؤالها .
أضف إلى ذلك، أن المجتمع المدني هو مجال مستقل للحركة متروك للمواطنين يتمتعون في ظله بالحرية في تنظيم حياتهم بعيدا عن تحكم الدولة أو سيطرتها، وأنه يشتمل على منظمات مستقلة مفتوحة أمام المواطنين للانضمام إليها بهدف خدمة مصلحة أو قضية أو التعبير عن رأي مشترك بوسائل سلمية تقوم على احترام حق الأفراد والجماعات الأخرى في أن تفعل نفس الشئ. فالتأسيس يقوم على الحرية والاستقلال والاختيار الإرادي للفرد، والنشاط يقوم على التطوع والعمل العام والأهداف هي مصالح أو قضايا أو حقوق مشتركة، والوسائل سلمية. أما التنظيم فهو يعبر عن بلوغ المجتمع درجة أعلى من الرقي بحيث لم يعد إطار الانتماء قاصراً على الروابط الأولية الموروثة التي ليس للإنسان دخل في اختيارها وإنما تفرضها عليه أقداره بحكم الميلاد. وصار الانتماء يعبر عن رابطة اختيارية يدخلها الفرد طوعاً بإرادته الحرة، وهو ما يعني أن الحياة الاجتماعية تحولت من مسألة قدرية يستسلم لها الفرد ولا يملك تغييرها، إلى قرار واختيار. وهذا هو حق الإنسان في تقرير مصيره .
ويعد اتخاذ قرار الانضمام إلى عضوية إحدى الجماعات بداية المشوار وليس نهايته، حيث يعقبه المشاركة في كل ما يتعلق بالشئون العامة للمجتمع. ويصبح الفرد قوياً وهو عضو في جماعة لأنه صار يمتلك قدرة أكبر على التأثير في مجريات الأمور من حوله، عندما أصبح شريكاً في صنع القرارات سواء على مستوى الجماعة أو على مستوى المجتمع ككل بعدما امتلك أحقية مساءلة الحكومة ومحاسبتها .
وكما ذكرنا من قبل حول علاقة المجتمع المدني بالديموقراطية، فإن ديموقراطية أي مجتمع تتوقف على مدى وجود مجتمع مدني بالمعنى المذكور. فهو أصدق مقياس لحقيقة الديموقراطية لأن وجود المجتمع المدني يضمن دفع الحكومة للاستجابة لما يقدمه لها الأفراد والجماعات من مطالب تعبر عن احتياجاتهم ورغباتهم في تحقيق نوعية حياة أفضل. ولكن لكي يتحقق ذلك لابد أولاً أن يتوافر المواطن الإيجابي الذي يكون لديه اهتمام بالشئون العامة واستعداد لممارسة العمل العام المستقل .
ولكن لا ينبغي أن يقودنا هذا المعنى للمجتمع المدني الذي يؤكد على الاستقلال والحرية وحماية الحقوق إلى الاعتقاد بتناقض دوره مع دور الحكومة. فالصحيح أنه مثله مثل الدولة ليس إلا ظاهرة تهدف إلى تنظيم العلاقات الاجتماعية والسياسية، وهو بذلك يشارك الدولة في غايتها الأساسية، ويضع القواعد الحاكمة لسلوك الأفراد والجماعات بحيث يتم التوفيق بينهم رغم مطالبهم ومصالحهم المتعارضة عن طريق توفير الوسائل السلمية للتعبير عنها، ثم تجميعها ووضعها في شكل بدائل أمام السلطة الحاكمة لتحقيق أعلى درجة من التوازن بين الحقوق والواجبات بما يحفظ كيان المجتمع ككل. فوحدات المجتمع المدني ليست إلا أدوات اتصال تتوسط علاقة الجماعات المختلفة ببعضها البعض كما تتوسط علاقة الحكومة بالمحكومين .
وكما هو واضح، فإنه للقول بوجود مجتمع مدني بمعنى الكلمة لابد أن تتحقق مجموعة من الشروط والصفات. فما هي تلك الصفات التي تعد خصائص مميزة لهذا المجتمع مقارنة بغيره من أشكال التنظيم الاجتماعي الأخرى، وما هى وظائف هذا المجتمع ؟ هذا هو موضوع الفصل الثانى.
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام