مــقدمـة:
أصبحت الصين بفضل التنامي المستمر لمكانتها على الساحة الدولية، من السمات الرئيسية المميزة لفترة ما بعد نهاية القطبية الثنائية.
فالصين بمعدلات نموها الأعلى من نوعها في العالم، و وزنها الاستراتيجي على المستوى الإقليمي و الدولي، و مؤسستها العسكرية المتجهة نحو التحديث، و كثافتها السـكانية العاليـة، و إرثها الحضاري و التاريخي و الثقافي الكبير، أصبحت محل اهتمام مختلف مؤسسات الفكر و المعاهد الأكاديمية المتـخصصة عبر أنحاء العالم، لمـحاولة معرفة السـر الكـامن وراء الصعـود الصيني المتميز، و لاستشراف مستقبل هذه القوة الصاعدة، ذات الطموحات الإقليمية و العالمية.
الإشكالية: إن معرفة توجهات أية قوة صاعدة تمر عبر تتبع مسار سياستها الخارجية، لذلك سيتناول هذا البحث عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الصينية، و بما أن الصين تعد من القوى الكبرى التي لها مجال تأثير و تحرك كبيرين، كما أنه لهذا النوع من القوى عادة استمرارية في سياساتها الخارجية، فالإشكالية التي يعالجها هذا البحث تدور حول حدود الاستمرارية و التقطع في سياسة الصين الخارجية، و هي الإشكالية التي يمكن ضبطها من خلال السؤال التالي: " ما مدى الاستمـرارية و التغير في سياسة الصين الخارجية ؟ " و منه طرح التساؤلات التالية:
- كيف يصنع القرار في الصين، و ما هي آثار المتغيرات البيئية الثلاث؟
- ماهي المحددات الرئيسية لسياسة الصين الخارجية ؟
- كيف تؤثر عناصر قوة الصين على طبيعة توجهات سياستها الخارجية ؟
- كيف يمكن إدراك مجالات الاستمرار، و مجالات التقطع في سياسة الصين الخارجية ؟
- إلى أي مدى أثرت عملية تناوب القيادات الصينية المختلفة على طبيعة السياسة الصينية الخارجية المنتهجة ؟
الفرضيات:
ينطلق تحليلنا للإشكالية المطروحة من فرضية أساسية، قائمة على افتراض أن القوى الكبرى تمتاز بانتهاج سياسات خارجية تتصف بالاستمرارية
سنـحاول من خـلال هـذا الـبحث، دراسـة تأثـير كـل مـن الـبيئـة الداخلـية و الخـارجية و السيكولوجية، على عملية اتخاذ القرار في الصين.
و يقوم هذا البحث كذلك على تتبع مدى الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية، و نظرا لتشعب و تداخل مختلف المتغيرات، و العوامل لمؤثرة في توجهات السياسة الصينية، فقد ارتأينا دراسة مجال الاستمرارية أو التغير في سياسة الصين الخارجية، بأخذ متـغير تفسيري، و تتبع دوره في مختلف الفترات التي مر بها النهج السياسي الصيني الخارجي، و قد اختارنا المتغير الاقتصادي، و المتـغير الجيوبوليتيكي، كمتغـيرين تفسيـريين، نبين من خلالهما مدى التغير أو الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية، و سيأتي بيان أهمية هذان المتغيران كعاملان محددان في سياسة الصين الخارجية في ثنايا هذا البحث.
و سيتم التوصل إلى معرفة طبيعة التغيرات التي تعرفها السياسة الخارجية الصينية من خلال الاستعانة بنموذج التغير في السيـاسة الخارجية للـدول الذي وضعه " تشارلز هرمان"، و التي قسمها إلى أربعة مستويات:
- التغير التكيفي: و يقصد به التغير في مستوى الاهتمام بقضية معينة، مع استمرار الأهداف و الوسائل.
- التغير البرنامجي: يتميز بتغير في الأدوات، ومن ذلك تحقيق الأهداف عن طريق التفاوض، و ليس عن طريق القوة العسكرية، مع استمرار نفس الأهداف.
- التغير في الأهداف: و يشير إلى تغير الأهداف ذاتها، و ليس مجرد التغير في الأدوات.
- التغير في توجهات السياسة الخارجية: أي تغير التوجه العام، و هو أكثر أشكال التغير تطرفا.( لتفاصيل أكثر حول هذا النموذج أنظر: محمد السيد سليم. تحليل السياسة الخارجية)
الفصل الاول: محددات سياسة الصين الخارجية:
المبحث الأول: المحددات الجغرافية و البشرية
يلعب العامل لجغرافي دورا هاما في تحديد التوجهات العامة للسياسة الخارجية لأيـة دولة، و هو الأمر الذي أكدت عليه دراسات " ماكيندر" و " مارشال ماكلوهان".
و لذلك فمن المهم تبيين أهم معالم المجال الجغرافي الصيني، تتربع الصين على مساحة 9.572.678 كم²، و تعد ثالث أكبر دول العالم مساحة بعد كل من روسيا و كندا. تقع الصين بين دائرتي عرض18° و 54°، و بيـن خطـي طـول 74° و 135°، و هي بذلك تعد حقا دولة قارة. و تتميز بموقع ذو أهمية إستراتيجية في منطقة شرق آسيا، إذ تجاور 14 دولة منها: روسيا، الهند، باكستان، فيتنام، كوريا الشمالية...الخ، و للصين عمق استراتيجي كـبير، و هو عامل مهم في تدعيم وزن الدولة الاستراتيجي الدفاعي خصوصا، خاصة في حالة التعرض لهجوم نووي، إذ يبلغ أقصى اتساع لها من الشمال إلى الجنوب 4023 كم، و من الشرق إلى الغرب6468 كم.
و تشرف الصين على طرق هامة للمواصلات و التجارة في العالم سواء البرية، كطريق الحرير(silk road)، أو البحرية بإطلالها على المحيط الهادي، و بحر الصين الجنوبي، و بحر الصين الشرقي، و البحر الأصفر، و مضيق فرموزا.
و بالنظر للامتداد الجغرافي للصين يمكن تفسير السبب في تنوع المناخ، و تنـوع الأقالـيم و تعدد الثروات الطبيعية، مما يؤثر إيجابا على الاقتصاد الصيني.
و من الجانب البشري تعد الصين أكثر بلدان العالم سكانا، بتعداد يفوق1.270.800.000
نسمة، حسب إحصائيات 1999. و هذه الأعداد الهائلة تؤهل الصين لأن تكون سوقا واسعة، تستوعب السلع المحلية و العالمية، و هي الحقائق التي سنقف عليها من خلال المبحث الثاني.
المبحث الثاني: المحددات الاقتصادية و العسكرية
*المحددات الاقتصادية: يعد الاقتصاد الصيني من الاقتصاديات الصاعدة و الواعدة، بفضل السوق الاستهلاكية الواسعة التي تحصي ما يفوق المليار مستهلك، خاصة بعد الإصلاحات الاقتصادية المتبعة منذ العام 1979، و الخروج من الاقتصاد الموجه إلى " اقتصاد السوق الاشتراكي"، الذي يزاوج بين القطاع العام و القطاع الخاص، و هو ما يعرف في الصين "بسياسة المشي على ساقين"، و التدرج في إدخال الإصلاحات الاقتصادية تماشيا مع الحـكمة الصـينية القائلة " عبور النهر عن طريق تلمس مواقع الأحجار بالقدمين ".
و قد تطور الاقتصاد الصيني على مرحلتين، الأولى و هي مرحلة ما قبل الإصلاح، التي بدأت مع ميلاد جمهورية الصين الشعبية عام 1949، حيث تبنت الصين النموذج الستاليني، ثم تحول بعد ذلك إلى نظام التخطيط المركزي، و منه إلى نظام الخطط الخماسية، مع التأكيد على تنمية الصناعات الثقيلة، ثم إلى نموذج التـعبئة الجمـاهيرية بالاستخدام المكثف للقوى العاملة، و منه إلى التركيز على الكفاية الإنتاجية و الاعتماد على الذات مع إدارة مركزية للصناعات،
و قد حقق الاقتصاد الصيني معدلات تنمية معقولة خلال هذه الفترة، لكنها معدلات لا تقارن بما حقق بعد إتباع الإصلاح الاقتصادي الشامل في عهد " دنغ كسياو بنغ " .
حيـث تراوحت نسبـة النمو في الفترة الممـتدة من 1978- 1998 بين 9 % و 13 %، و بلغت قيمة صادراتها عام 1997 حوالي 183 مليار دولار، حيث عرفت نمو قدر بـ 20.6%، في حين لم تتعد نسبة نمو الواردات في نفس السنة 2.5 .%
و قد أصبحت الصين من أكبر الأسواق المغرية للاستثمار الأجنبي، حيث استقطبت في الفترة الممتدة ما بين( 1993- 1996 ) 12.5 % من إجمالي تدفق الاستثمارات الأجنبية في العالم.
لكن هذا لا يمنع معاناة الاقتصاد الصيني من جملة من المشاكل منها، التنمية غير المتوازنة بين المناطق الشرقية الساحلية و المناطق الداخلية خاصة الغربية منها، و مشكلة الطاقة التي أصبح الطلب عليها شديدا في الصين بالتوازي مع التوسع السريع للاقتصاد الصيني، إذ يعتبر حاليا ثالث أكبر اقتصاد عالمي مستهلك للطاقة بعد الاقتصاد الأمريكي و الياباني.
* المحددات العسكرية: تعد المؤسسة العسكرية الصينية من أكبر المؤسسات العسكرية في العالم، بفضل ما تتميز به من تفوق عددي و من حيث التسلح (سواء الاستراتيجي أو التقليدي)
و كذا التقنية و الكفاءة التكنولوجية.
فمن ناحية القدرات النووية، نجد أن الصين التي دخلت النادي النووي عام 1964، تعد اليوم أكبر قوة عسكرية في آسيا، و أنها الدولة الوحيدة التي قامت بنشر أسلحة نووية، و لها قوة نووية بإمكانها أن تكون رادعة للولايات المتحدة الأمريكية.
و يعد الخيار النووي الصيني كانعكاس لاعتزاز الصينيين بأنفسهم، و بأمجاد المملكة الوسطى(مركز العالم)، و بفضل الأسلحة النووية تحاول الصين على حد تعبير"بيار بيرنيه"
(pierre pierniech)، الانتقام من الإهانة التي لحقت بها عندما التقت بالغرب، و كسر احتكار القوتين العظميين آنذاك للقوة النووية.
و تتبع الصين برنامج لتحديث قوتها كلفها 24 مليار دولار في الفترة الممتدة بين 1988-1995.
و رغم أن لتقديرات الغربية ترى ن الترسانة النووية الصينية، لا تزيد نسبتها عن 1 10/
من الترسانة الأمريكية أو الروسية، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها، فهي تتوفر على ثالث أكبر مركب نووي في العالم، و تمتلك حسب تقديرات احتمالية حوالي 300 رأس نووي و 2400 قنبلة نووية.
كما أنه بحوزة الصين "نظم إطلاق"(Delivery systems)، متطورة و عالية الدقة، خاصة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات مثل (DF-4) الذي يصل مداه إلى 7 آلاف كم، و صاروخ (DF-5) القادر على حمل رؤوس نووية متعددة، و هي صواريخ متحركة يمكن تحريكها حول الصين، و بالتالي إصابة أهداف في دول كاليابان و روسيا و الهند، بالإضافة إلى الصواريخ متـوسطة الـمدى مـثل: (دونج فانج 15 و 21)، و صواريخ (Julang 1) و (Julang 2)، و كذلك القاذفات الاسترتيجية (H-6)، و الغواصات النووية الحاملة للصواريخ النووية.
المبحث الثالث: المحددات المجتمعية و الثقافية
يقصد بالمحددات المجتمعية و الثقافية، العناصر المتعلقة بالجانب الاجتماعي من تركيبة عرقية، و درجة التماسك الاجتماعي و قيم المجتمع السائدة، أما الجانب الثقافي فهو تعبير عن الأنماط الثقافية المنتشرة في المجتمع و التي تشكل هيكله القيمي و معتقداته المحددة لتوجهاته الحضارية و القيمية.
يتشـكل المجتـمع الصيني من 56 قومية مختلفة، أكبرها قومية "الهان" (Hans) التي تمثل 93% أي الأغلبية بينما تتوزع الـ 7% المـتبقية علـى جماعـات إثنية مختلفة "كالتبتيـين" و "المانشوس" و "اليوغروس"، و "الويغور"، إضافة إلى جماعة "زونغ"، و هذا ما جعل الصين تتميز بنزاعات إقليمية و تناقضات ثقافية.
يعتبر "الهان" المجموعة الإثنية الأكثر أهمية و يرتبط تاريخها بشكل كبير بتاريخ الصين، لأنهم ظهروا فيما يعرف اليوم بشمال الصين منذ أكثر من 4000 سنة، و يتميز "الهان" بثـقافة و حضارة مشتركة، و يشكلون حاليا الأغلبية في 28 مقاطعة من بين الـ 30 مقاطعة الموجودة في الصين باستثناء إقليمي" كسين جيانغ" و "التبت".
هذا في الوقت الذي بلغ فيه تعداد أعضاء جماعة"زوانغ" مثلا 15.8 مليون نسمة، و تعداد "الويغور" 7.2 مليون نسمـة، و التبتـيين حوالي6 ملـيون نـسمة، لـهذا تدعى الصـين بـ " الجمهورية الاشتراكية الموحدة و المتعددة القوميات".
لكن تلك النزاعات و التناقضات لم تظهر بالحدة المسجلة في دول أخرى كالهند أو الاتحاد السوفييتي، و يوغسلافيا سابقا، و هما الدولتان اللتان تفككتا نتيجة الاختلافات العرقية أسـاسا، و يرجع السبب في ذلك إلى التماسك التاريخي الذي يمـيز المجتمع الصيني، الـمعتز بهويتـه و قوميته، رغم ظهور مطالب انفصالية في مناطق محدودة مثل "التبت" و إقليم "كسين جيانغ" ذو الأغلبية المسلمة الواقع غرب لبلاد، و على ذكر العامل الديني فأغلبية الصينيين يدينون بالكونفوشيوسية، مع وجود أقليات مسلمة و مسيحية و هندوسية.
تمازجت الأعراق المختلفة المشكلة للصين عبر التاريخ في كيان حضاري واحد، تمثله ممـلكة الوسط الكبرى التي حكمت قارة آسيا طيلة قرون، أين كان الصينيون يعتبرون حضـارتهم "مركز العالم" و أنهم صحاب أعرق حضارة في التاريخ. قدمت للعالم خدمات جليلة و اختراعات لا تزال آثارها باقية إلى اليوم، و لعل هذا الزخم الحضاري من العوامل التي تقف وراء طبيعة المواقف الصينية، و طموحاتها للعب دور عالمي يتماشى مع موروثها الثقافي و الحضاري العريق
الفصل الثاني: تاثيرات المتغيرات البيئية على عملية صنع القرار في الصين:
المبحث الأول: تأثير البيئة الداخلية
بالنظر للمعطيات المذكورة في الفصل الأول فهي متغيرات داخلية تمثل مختلف المتغيرات المؤثرة في البيئة القرارية لصانع القرار في الصين، حيث يؤثر مستوى القوة و الإمكانيات على التوجه الذي تتخذه السياسة الصينية الخارجية، من حيث الأهداف و المخرجات، بما يتناسب مع إدراك القادة الصينيين لمكانة بلادهم و للدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في العلاقات الدولية.
و على ضوء تلك المتغيرات تبلورت توجهات و أهداف السياسة الخارجية الصينية، و حسب الدوائر الرسمية الصينية فتنعكس توجهات السياسة الصينية من خلال جملة من المبادئ و هي:
* تهدف السياسة الخارجية الصينية للحفاظ على الأمن و السلم الدوليين، و خلق بيئة أمنية آمنة، و تسعى لتطوير علاقاتها مع كل الدول بناء على خمسة مبادئ:
- الاحترام المتبادل للسيادة و وحدة الأراضي.
- عدم الاعتداء.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية .
- التعايش السلمي.
- المساواة الدولية.
* تقوية التضامن مع الدول النامية، و تقوية علاقات الصداقة و حسن الجوار مع الدول المجاورة المشكلة لحجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية.
* تسعى الصين لاستقرار العلاقات الدولية، و وضع نظام عالمي سياسي و اقتصادي جديد,
* تكريس العدالة الدولية، حيث لا تدخر الصين جهدا في الحفاظ على السلم العالمي، و تسوية النزاعات الدولية.
و قد حددت الوثيقة التي وضعها الرئيس الصيني الأسبق" جيانغ زيمين" المبادئ الرئيسية لسياسة الصين الخارجية في عالم متحول من خلال:
* مراقبة الوضع الدولي بثبات و رزانة.
* التشبث بالموقع الدولي للصين و هو ما يتضح في التركيز على فكرة السيادة و إصرار الصين على تعريف المصالح القومية أنها داخل الحدود.
* هدوء رد الفعل.
* إخفاء القدرات المتوفرة.
* كسب الوقت.
إذا فمتغيرات البيئة الداخلية الصينية تتحكم إلى حد كبير في صنع القرار في الصين، و الذي يعمل وفقا لجملة من الأهداف الرئيسية:
* الهدف الأول: تدعيم التنمية الاقتصادية و التحديث، فمنذ تبني برنامج الإصلاح الاقتصادي، بدأت الصين في التأكيد على أن التنمية هدف رئيسي للسياسة الخارجية، و حاليا أعطت الصين الأولوية لهدا الهدف و هو ما سيتضح أكثر من خلال الفصل القادم.
* الهدف الثاني: هو النماء العسكري، للمحافظة على السيادة و الاستقلال، و قد جعلت القوة الاقتصادية من الممكن تحديث المؤسسة العسكرية، و تم الإسراع في هذه العملية نتيجة للنزاعات الإقليمية.
* الهدف الثالث: تدعيم وضعها القومي بتحسين علاقاتها الخارجية، حيث حاولت الصين إحداث تقارب مع مختلف الدول، و تجسد ذلك في علاقاتها مع الدول الأوربية و الشرق أوسطية.
* انتهاج سياسة الباب المفتوح، حتى تبرز على أنها لاعب هام في الأسواق العالمية، و هذا ما تجلى في زيادة المبادلات التجارية الصينية، و تدفق الاستثمارات الخارجية.
المبحث الثاني: تأثير البيئة الخارجية
تتمثل المتغيرات الخارجية، في المعطيات المميزة للجوار الإقليمي الصيني، و تحولات النظام الدولي.
فعلى المستوى الإقليمي تؤثر جملة من التحولات على عملية صنع القرار، خاصة منها طبيعة علاقات الصين مع دول مؤثرة، و قضايا مهمة.
ففيما يخص قضية انتشار الأسلحة النووية في العالم، أثر ذلك كثيرا على توجهات السياسة الخارجية الصينية.
فمع ازدياد حدة الأزمة النووية لكوريا الشمالية خلال الصيف الحالي اتجهت الأنظار نحو أعدائها في أمريكا و"بيونج يانج" كما كان دور بكين كطرف ثالث يحظى باهتمام غير كبير رغم أنه على مستوى عالٍ من الأهمية. وبعد مرور فترة طويلة من الصمت الذي التزمته الصين فقد تدخلت بجرأة شديدة في النزاع عن طريق تعطيلها لشحنات البترول إلى كوريا الشمالية وإرسالها مبعوثين رفيعي المستوى إلى بيونج يانج بالإضافة إلى تحويل قواتها إلى الحدود الصينية الكورية وتنظيمها لسلسلة من المباحثات الثلاثية في بكين. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الصين عن ممارستها للضغط. حيث قامت أيضاً خلال الصيف الحالي باحتجاز سفينة ملاحية لكوريا الشمالية نتيجة لبعض الخلافات التجارية بينهما تلاه العديد من الزيارات التي قام بها نائب وزير الخارجية الصينية "ديابينجو" بين "واشنطن" و"بيونج يانج" في محاولة منه التأكيد على سلسلة جديدة من المباحثات.
وبصفة عامة فإن تلك المبادرات تسير في اتجاه مناف تماماً لتيار السلبية وعدم التحمل لأعباء المسئولية الذي كانت تتبعه الصين تجاه القضية النووية الكورية منذ عقد مضى. بالإضافة إلى أن تلك المبادرات أيضاً تعد طفرة تحول هائلة في حد ذاتها على الرغم من أن الصين لازالت في طريقها لتحقيقها وذلك باعتبار الصين لاعباً له دور فعال في ميدان الصراع الدولي في الوقت الراهن.
ففي خلال السنوات الأخيرة بدأت الصين تتخذ خطوات توصف بأنها أقل مواجهة وأكثر تحضراً وثقة بالنفس ولكنها في بعض الأحيان تبدو أكثر بنائيةً إزاء الشئون الإقليمية والعالمية. وعلى العكس مما كان معروفاً خلال العقد الماضي فإن الصين باعتبارها أكبر دول العالم سكاناً تقوم الآن بتطبيق نظام دولي جديد، حيث تبنت كوكبة كبيرة من المؤسسات والمبادئ والمعايير الدولية الراهنة من أجل تعزيز مصالحها الدولية حتى إنها سعت من أجل إضافة بعض الملامح التطويرية لهذا النظام ولكن بصورة محدودة.
و نظرا للتحول الحاصل في العلاقات الدولية، بسبب زيادة عوامل الاعتماد المتبادل، و أهمية توسيع العلاقات و الانضمام للتكتلات العالمية، عملت الصين على مواكبة هذا التغير.
ومن أكثر شواهد التغير وضوحاً منذ منتصف التسعينيات هو ما قامت به الصين من زيادة حجم وعمق علاقاتها الثنائية إلى جانب انضمامها إلى العديد من الاتفاقيات التجارية والأمنية وتعميق إسهاماتـها في المنظمات القيادية مـتعددة الجوانب، من خلال انضمامها للمنظمة العالمية للتجارة، و تأسيس منظمة شنغهاي، و منظمة الآسيان، و منظمة التعاون للمحيط الهادي (آبك)، و تنظيمها لمنتدى الصين إفريقيا. بالإضافة إلى تقديمها يد العون في توجيه القضايا الأمنية الدولية. و نتيجة لهذه التطورات أصبحت سياساتها الخارجية في صنع القرار أقل من الناحية الفردية وأكثر من الناحية المؤسسية عن ذي قبل، كما أصبح الدبلوماسيون الصينيون أكثر تحضراً في التعبير عن أهدافهم. وبصورة أشمل فقد اختلفت التصورات الخاصة بقوانين السياسة الخارجية، فبدلاً من اعتبار الصين ضمن الدول النامية المقهورة في ظل ولاية كل من" ماوزيدونج" و "دينج كزيا اوبينج" فقد أصبحت الصين إحدى القوى العظمى الصاعدة ذات المصالح المتعددة. كما جعلت هذه التحولات و ضرورة التكيف معها صنع القرار في الصين يتصف بمرونة أكثر، و التحول إلى دوائر مؤسساتية أكثر فأكثر.
المبحث الثالث: البيئة السيكولوجية و أثرها على صناعة القرار
لقد ساهمت كاريزما مختلف القيادات الصينية المتعاقبة على الحكم، وتداولها السلمي على الحكم في تطوير أساليب و آليات صنع القرار في الصين.
فالفلسفة و الذهنية الصينية فريدة من نوعها، فعندما تقدمت السن بـ" ماو تسيتونغ" ترك الكثير من الأمور للقائد الصيني المتواضع و البالغ الكفاءة "شوان لاى"، ولم يمانع في إعادة الاعتبار للقائد " دنج هسياو بنغ"، و عندما بلغ الكبر بهذا الأخير اكتفى بمنصب شرفي كرئيس للجنة العليا للرياضة، و لكنه كان بمثابة الأب الروحي للقيادات الجديدة.
و "جيانغ زيمين" عندما واجه نفس الاختيار، اكتفى بالاحتفاظ برئاسة اللجنة العسكـرية المركزية، و ترك القيادات الجديدة تضطلع بدور قيادة الصين و إدارتها في القرن الحادي و العشرين.
و بالنسبة للقيادة الجديدة فقد جرى إعدادها مسبقا للعب أدوار مستقبلية، فقد تولى" هو جنتاو" منصب نائب الرئيس لمـدة خمس سـنوات، و ذلك بعــد أن تم تصعـيـده من العمل العـسكري و الحربي، و نفس الشيء بالنسبة لرئيس مجلس الدولة "ون جياباو"، الذي كان بدوره نائبا لرئيس الوزراء على مدى خمس سنوات، و هنا تتجلى الـعبقرية الصيـنية حيث أن قائدا المسيرة الجديدة متمرسان على الحكم و الإدارة و الجانب العسكري، عندما سئل" جيانغ زيمين" عن مستقبل الصين قال أنه يحس بالاطمئنان لأنه يعرف أن شابا مثل" هو جنتاو" هو نائب الرئيس، و أن مقاليد أمور الصين بين يديه، و بذلك عبر "جيانغ" عن الحكمة البالغة التي تراكمت عبر السنين في حضارة عريقة و ديناميكية.
و قد تعاقب تطور مؤسسات صنع القرار في الصين، مع تعاقب مختلف القيادات، ففي عهد ماو كانت معظم قرارات السياسة الخارجية يتم اتخاذها بطريقة عائلة كورليون في قصة (God Father): فكان ماو بمثابة "الأب الإله"، ثم جاء بعد ذلك حكم "دينج" ليفتح آفاقاً جديدة حيث توطدت روابط الصين بالمجتمع الدولي، ولكن ظلت القرارات النهائية تتصف بالمركزية الشديدة. وعلى الرغم من ذلك فقد أصبحت عملية اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الآن تتميز بالمؤسسية واللامركزية ولم تعد أيضاً تعتمد بشكل كبير على الصفة الفردية لأحد القادة.
ومن أحد محاور التغير في الصين إتاحة فرصة أكبر للدور الذي تلعبه هيئات الإدارة الحكومية المتناظرة والمختصة بقضايا السياسة الرئيسية، والمعروفة باسم "المجموعات القيادية الصغيرة"، كما قامت بكين فى أواخر عام 2000 بتأسيس "مجموعة قيادية جديدة للأمن القومي". كما تشكل هذه الهيئات الصورة العامة للنظام السياسي، وأيضاً فإنه من شأنها تقييد السلطة التي يستقل بها فرد أو حرب.
عملت الصين أيضاً على تنويع مصادر التحليلات السياسية التي تصل إليها من داخل الحكومة أو من خارجها. فعلى سبيل المثال فإن القسم الجديد للتخطيط المتطور لسياسة وزارة الخارجية يلعب الآن دوراً بارزاً كأحد مصادر الفكر السياسي الداخلية، ومن ناحية أخرى فقد بدأت الحكومة فى تعيين متخصصين من خارج الحكومة للاستعانة بهم كمستشارين للقضايا الفنية مثل تلك التي تتعلق بعدم انتشار الأسلحة المحظورة والدفاع الصاروخي. هذا ويشارك عدد كبير من الدارسين والمحللين السياسيين الصينيين بصورة منتظمة فى مجموعات الدراسة الداخلية وكتابة التقريرات، إلى جانب تصميم بعض المختصرات السياسية، حيث يقوم هؤلاء الدارسون والمحللون السياسيون بكثير من الدراسات والزيارات للخارج للالتقاء بنظائرهم من الخبراء الدوليين بالإضافة إلى أنهم يلفتون أنظار الزعماء الصينيين إلى الاتجاهات الدولية السائدة ويطرحونها عليهم فى قالب من الخيارات السياسية.
وهناك أيضاً عامل آخر كانت له بصمة واضحة فى تطوير عملية صنع القرار فى السياسة الخارجية للصين وهو توسيع رقعة المناقشة العامة لتشمل الشئون العالمية. فلم يكن هناك أية مناقشات مفتوحة تتناول المشكلات الحساسة مثل حظر الأسلحة أو الدفاع الصاروخي فى خلال العشر سنوات الماضية، ولكن فى الوقت الراهن يستطيع النقاد أن يتناولوا كل تلك القضايا بالدراسة فى آرائهم ولقاءاتهم التليفزيونية إلى جانب مؤلفاتهم بفرض تفعيل وهيكلة الدبلوماسية الصينية. وفى الوقت نفسه فقد بدأت فئة من الصينيين تضم مسئولي الإعلام والمتحدثين الرسميين للحزب الشيوعى والصحف اليومية الشعبية تجرى مباحثات باستخدام أسلوب المائدة المستديرة بالاستعانة بالإدارة الصريحة للمحللين الجدد حتى إن بعض الصحف وخاصة "الهوانكى شيباو" (أوقات عالمية) و"النانفانج زومو" (نهاية الأسبوع الجنوبي) قد نشرت بعض الآراء المطالبة بإيجاد بدائل لسياسة الحرب الرسمي مثل تلك التي تتعلق بكوريا الشمالية.
أما عن الأسلوب الذي يتبعه الساسة فى تنفيذ الدبلوماسية الصينية المتطورة بشكل كبير، فقد تميز بالبراعة والفطنة وهو ما أثمرته نتائج التدريب المناضل الذي بدأته وزارة الخارجية منذ أكثر من عشرين عاماً مع بدء فترة الإصلاح حيث قضى الدبلوماسيون الصينيون وقتاً طويلاً فى دراسة العالم الخارجي من المتحدثين لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية والحاصلين على درجات وشهادات علمية من جامعات أوروبا وأمريكا. كما عملت أيضاً على تعزيز فكرة تجنيد المؤهلات المتوسطة المحولة من الولايات الأخرى من أجل زيادة خبراتها فى شتى المجالات.
صحب تلك التغييرات فى الواقع حملة صينية جديدة لتعميم وتعزيز السياسة الخارجية للدولة. ففي خلال العقود الماضية كانت المناظرات والتلخيصات يتم إحالتها إلى الصحف اليومية والتقارير الإخبارية والمطبوعات التي تصدرها وزارة الخارجية، ثم تغير الوضع مؤخراً حيث أدركت الصين أهمية طرح وجهة نظرها للعالم الخارجي، من أجل تحسين صورتها بين الدول. وطبقاً لذلك فقد بدأت الصين فى منتصف التسعينيات فى إصدار الأوراق البيضاء الحكومية المتعلقة بالموضوعات الجدلية للسياسة الخارجية من أجل التعزيز والدفاع عن آرائها.
الفصل الثالث: مدى الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية:
المبحث الأول: دور المتغير الاقتصادي
- صراع المصالح الاقتصادية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية.
- التنافس الياباني الأوروبي على السوق الصيني.
- التوجه الصيني نحو العالم الثالث.
المبحث الثاني: أهمية المتغير الجيوبوليتيكي
- تايوان محور العلاقات الصينية الأمريكية.
- المصالح المتبادلة حول الشيشان و إقليم كسين جيانغ بين الصين و روسيا.
- العلاقات الصينية الهندية و مسألة التبت.
المبحث الأول: أهمية المتغير الاقتصادي
يلعب المتغير الاقتصادي دورا هاما في سياسة الصين الخارجية، حيث لاحظنا أنه يعتبر من الأهداف الرئيسية في توجهاتها العامة، و فيما يلي رصد لتأثير المتغير الاقتصادي على علاقات الصين مع مختلف النقاط الحساسة من العالم.
* صراع المصالح الاقتصادية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية: أصبحت الأسواق الصينية تمثل فرصا حقيقية لاستثمار، خاصة بعد عملية الانفتاح الاقتصادي، و تعد الولايات المتحدة من أهم المستثمرين في السوق الصينية إذ يعد هدا العامل حيويا في تطور اقتصاد البلدين، فالصين تعتمد أسواق الولايات المتحدة و تكنولوجيتها العالية، بينما ترى الولايات المتحدة في الصين المكان المناسب لإقامة المشاريع الاستثمارية، حتى لا تسيطر عليها قوى اقتصادية أخرى منافسة خاصة اليابانية منها و الأوروبية.
إلا أن دلك لا يمنع من وجود مشاكل تهدد بقيام حروب تجارية بين البلدين، إذ أصبح العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين مسألة اقتصادية خطيرة، إذ بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين 60 مليار دولار عام 1998، و ارتفع ليقارب 66.9 مليار دولار عام 1999 .
و قد عملت الولايات المتحدة على مواجهة المشكلة من خلال تهديد الصين بفرض عقوبات اقتصادية، و استغلال قضية حقوق الإنسان للضغط على الصين كلما أرادت الحصول على تناماوالات لصالحها، و التهديد بحرمانها من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية.
كما أن مسألة الملكية الفكرية تميز علاقات البلدين، حيث و صل الأمر بإدارة" كلينتون" لفرض عقوبات تجارية على الصين مما أجبر هذه الأخيرة على توقيف هذه السرقات.
و كثيرا ما تهدد الولايات المتحدة بوقف استثماراتها في الصين بحجة خرقها لحقوق الإنسان، لحن هذه التهديدات لا تؤثر على الصين، التي تعلم أنه بإمكانها تغطية انسحاب الشركات الأمريكية بحماس الشركات اليابانية و الأوروبية للاستثمار في الصين.
* التنافس الياباني الأوروبي على السوق الصيني: رغم الـعداوة التـاريخية بين الصيـن و اليابان إلا إن ذلك لم يمنع التعاون بينهما، فالصين بحاجة للتكنولوجيا اليابانية، و اليابان بحاجة لفرص الاستثمار التي يوفرها الاقتصاد الصيني، فقد أصبحت الشركات اليابانية مقتنعة أن الاستثمار في الصين شيء مربح.
إن مختلف المؤشرات تدل على اتجاه الدولتين للتعاون الوثيق خاصة في المجال الاقتصادي، فقد عقدت بينهما عدة اتفاقيات، حيث وصل حجم التبادلات بينهما 47.9 مليار دولار عام 1994، أي بنسبة زيادة قدرت 22.8% ، و منذ أن أقام البلدان علاقات اقتصادية بينهما بلغ حجم العجز التجاري الصيني مع اليابان 50 مليار دولار، و قد أقامت الشركات اليابانية قاعدة واسعة لها في الصين، مع زيادة في الاستثمار ففي نهاية 1999 افتتحت الشركات اليابانية 1222 مشروعا استثماري في الصين، قيمتها 14.2 مليار دولار .
أمـا فيما يخـص الاتحاد الأوروبي، فدوله خاصة ألماني و فرنسا و بريطانيا، تتنافس فيمي بينها و مع اليابان و الشركات الأمريكية لافتكاك مكانة في السوق الصينية.
و قد أعلن "بيتر مانديلسون" المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي ، أثناء زيارته للصين، أن تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين أمر هام للغاية بالنسبة لأوروبا، وأن الاتحاد الأوروبي يرغب في تسوية المشاكل في التعاون التجاري بين الجانبين من خلال الحوار والتشاور، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي مستعد لتعزيز التعاون مع الصين في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية.
هذا وقد شهدت العلاقات التجارية الصينية الأوروبية تطورا سريعا في السنوات الأخيرة حيث أصبح الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للصين في عامي 2004 و2005، أما الصين فقد أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وتجاوز إجمالي قيمة التبادلات التجارية بين الجانبين في العام الماضي 210 مليار دولار أمريكي. ولكن في الوقت نفسه، زادت الاحتكاكات التجارية بين الجانبين أيضا، وفرض الاتحاد الأوروبي في يوليو العام الماضي رسوم مكافحة إغراق على الأحذية الصينية المصدرة إلى أوروبا، ورفض وضعية اقتصاد السوق للمؤسسات الصينية المعنية دون أن يقوم بتحقيقات جدية، وعبرت الصين عن استيائها من هذا الأمر وطالبت الاتحاد الأوروبي بمعاملة مؤسسات الأحذية الصينية بطريقة مناسبة.
* التوجه الصيني نحو العالم الثالث: يعد الاهتمام بعلاقات الصين مع دول العالم الثالث من أهم تقاليد السياسة الخارجية الصينية، و بعد أن كان هذا الاهتمام ذو طابع سياسي و اقتصادي في عهد الحرب الباردة، تحول إلى اهتمام اقتصادي، لكي تستفيد الدول النامية من الخبرة و المساعدة الصينية، و تستفيد الصين من موارد هذه الدول خاصة الطاقوية منها، و من فرص الاستثمار كذلك.
و سنأخذ التعاون الإفريقي الصيني كنموذج لسياسة الصين دول العالم الثالث، عقدت ابتداء من 4 نوفمبر 2006 في قاعة الشعب الكبرى ببكين عاصمة الصين، قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي. ويرى الزعماء الأفارقة الذين يشاركون في القمة أن الصين وإفريقيا لديهما مستقبل مشرق في التعاون.
منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2000، تطور التعاون المتبادل المنفعة بين الصين وإفريقيا بسرعة في مختلف المجالات، وأتاح المنتدى للجانبين فرصة نادرة لإجراء حوار جماعي وأصبح آلية فعالة للتعاون بينهما.
وفي إطار منتدى التعاون الصيني الإفريقي، يتعزز التبادل والتعاون بين الجانبين في مجال الموارد البشرية. ومنذ عام 2004، بعثت الصين أكثر من 500 خبير وأستاذ إلى الدول الإفريقية لمساعدتها على تدريب المتخصصين في مجالات الزراعة والعلوم والتعليم المهني والطب والصحة، وقدم هؤلاء الصينيون مساهمات كبيرة في بناء إفريقيا وتوطيد العلاقات مع الشعوب الإفريقية.
وتكثفت التبادلات الثقافية بين الصين وإفريقيا. وفي عام 2005، استقبلت الدول الإفريقية سبع بعثات فنية صينية، وأوفدت الصين مدربين ممتازين إلى مصر ونيجيريا وغانا.
أرسى تفاوت الأسلوب التجاري أساسا للتجارة الصينية الإفريقية المتمثلة في المنفعات المتبادلة والأرباح للجميع. تطورت التجارة الصينية الإفريقية الآن إلى مرحلة خاصة لجمع الأساليب التعددية بما في ذلك التجارة العامة والاستثمار في الخارج والمقاولة وتقديم المساعدات إلى الخارج. حتى نهاية عام 2005، وصلت الاستثمارات الصينية في إفريقيا إلى أكثر من 6 مليارات دولار أمريكي، وأقامت أكثر 800 مؤسسة هناك. وفى عملية التعاون الصيني الافريقى في الطاقة، وتدفع الصين تنمية اقتصاد الدول الموفرة للموارد الطبيعية بواسطة تقديم الاستثمار في الطاقة. وحققت المنفعات والأرباح للجميع مع شركائها الأفارقة عن طريق المشاركة في الخدمة العامة وشاركت في بناء الطرق والجسور والمستشفيات ومنشآت أساسية أخرى في الدول الموفرة للموارد مما حققت المنفعات المتبادلة والإرباح للجميع هناك. كما تجسدت المنفعات المتبادلة والأرباح للجميع في حالة التجارة الصينية الإفريقية أيضا، منذ السنوات الأخيرة، تبقى التجارة الصينية الإفريقية في التوازن الأساسي، ويتمتع الجانب الافريقى بفائض قليل بهذا الخصوص .
المبحث الثاني: أهمية المتغير الجيوبوليتيكي
يعد العامل الجيوبوليتيكي من بين أهم المتغيرات المتحكمة في سياسة الصين الخارجية، إذ لم يفقد هذا المتغير أهميته، يقول "جوزيف ناي" : " لم تحل الجغرافيا الاقتصادية محل الجغرافيا السياسية، رغم أن مطلع القرن الحادي و العشرين قد شهد بوضوح إمحاء الحدود التقليدية بين الاثنتين، ذلك أن تجاهل دور القوة المركزية و الشؤون الأمنية سيكون كتجاهل الأكسجين، ففي الظروف العادية يتواجد الأكسجين بكثرة فلا نعيره اهتماما يذكر، و لكن ما إن تتغير هذه الظـروف، و نبدأ في افتقاد الأكسجين حتى نعجز عن التركيز على أي شيء آخر".
و تتجلى أهمية هذا المتغير من خلال تأثيره على علاقات الصين مع مختلف القوى:
* تايوان محور العلاقات الصينية الأمريكية: العلاقات الصينية الأمريكية يسيطر عليها الشك و عدم الثقة، خاصة ما يتعلق بقضايا الفائض التجاري و حقوق الإنسان و تايوان، و التي تعتبر محورا مهما في السياسة الخارجية الصينية تجاه الولايات المتحدة.
فبشأن الطريقة التي تتبعها الصين في تناول قضية تايوان، فهي تكشف عن مستوى عال من الإدراك و الثقة في النفس، فمنذ فترة التسعينات حتى بداية عام 2001، باتت السياسات التي تحكم العلاقات المتبادلة يشوبها القلق و التوتر، و ترجع تلك المخاوف إلى إمكانية تسلل الفكر الاستقلالي إلى تايوان، و في ردها على هذه الأخيرة قامت الصين باستخدام الأسلوب الجبري المكثف، في مواجهة هذا الفكر الذي يعيق الجهود الصينية لتوحيد البلاد، و لذلك رفضت الصين أي توطيد للروابط العسكرية الأمريكية مع تايوان.
فالمقدرات العسكرية الصينية أهلتها لتؤدي دور في السياسة الخارجية الصينية، و قد برز هذا الدور في ردع الولايات المتـحدة من التدخـل في الحالة الـتايوانية، و ساهم التسلح العسكري الصيني في منع تايوان من اتخاذ أي سياسات انفصالية.
* المصالح المتبادلة حول الشيشان و إقليم كسين جيانغ بين الصين و روسيا: مرت العلاقات الصينية الروسية بفترات متباينة، فبعد أن كانت علاقات متينة على إثر انتصار الثورة الشيوعية، عرفت اضطرابات بسبب المشاكل الحدودية، و التقارب الأمريكي الصيني، و التباينات الإيديولوجية.
إلا أنها عرفت نقلة نوعية منذ نهاية الحرب الباردة، مع تبادل الزيارات بين البلدين على أعلى مستوى، كالزيارة التي قام بها الرئيس الروسي" بوريس يلتسين" للصين عام 1996، و أسفرت عن توقيع اتفاقية أمنية مشتركة، و الاتفاق على حل مشكلة الحدود نهائيا.
و تركز الصـين في علاقاتها مع روسيا على قـضية إقليم "كسين جيانـغ"، الذي توجد به حركة " ويغور" الإسلامية ذات المطالب الانفصالية.
يقع إقليم " كسين جيانغ" في الشمال الغربي، بلغ عدد سكانه عام 1990 نحو 15 مليون نسمة أغلبهم مسلمون، يضم حوالي 13 قومية، و تعادل مساحته سدس مساحة الصين ككل، و يشكل عمقا استراتيجي للصين في وجه روسيا و جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، و لإعادة التوزيع السكاني الصيني مستقبلا، فهو إقليم شاسع المساحة و الكثافة السكانية به منخفضة، كما أنه يحتوي على ثروات معدنية، و احتياطي بترولي ضخم، كما تعتبره الصين همزة وصل لهل مع العالم الإسلامي.
و حاولت الصين استغلال العلاقات التاريخية و الإستراتيجية بين روسيا و الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، لضمان تعاون هذه الجمهوريات بمنع هذه الحركة من تحويل أراضي تلك الدول إلى قواعد خلفية لها خاصة مع الروابط الدينية و القومية و التاريخية بين الويغوريين و سكان آسيا الوسطى.
و أبدت الصين تأييدها للسياسة الروسـية في "الشيشـان"، مقابل الدعم الروسي لوحـدة الصيـن، و مناهضة المطالب الانفصـالية في "التبت"، و دعـم حق الصين في اسـترجاع "تايوان"، و شكل البلدان مـنظمة "شنغهاي"، و الـتي ضمت كذلك كازاخستـان و طاجاكستان و كيرغستـان و أورباكستان، والتي توسعت لتضم الهند و باكستان كذلك، و كان الهدف الأول المعلن للمنظمة هو العمل على حل المشاكل الحدودية بين الدول الأعضاء.
* العلاقات الصينية الهندية و مسألة التبت:
شهدت العلاقات الصينية الهندية حالة من التأرجح الكبير، بين التقارب الكامل و الـتنافر الكبير و قد بدأت العلاقات بشكل ايجابي بين البلدين في عام 1949، عندما كانت الهند أول دولة تعترف بحكومة الصين الشعبية ولم تعترف بالصين الوطنية، بل إن الهند كانت تدعم الصين للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن .
لكن العلاقات سرعان ما بدأت تدخل حالة من التوتر في عام 1959بسبب المشاكل الحدودية، مما أدى سنة 1962 إلى اشتعال الحرب بينهما التي سرعان ما انتهت لصالح الصين ،ومن ثم فقد وطدت علاقاتها مع باكستان المنافس الأخر للهند ،ولجأت إلى تطوير علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي، لكن في إعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان بدأ يعود الوفاق بينهما في تلك الفترة التي شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات ببن البلدين حيث حدث تطور ملموس للعلاقات الصينية الهندية بعد الزيارات المتتالية بين الطرفين الأولى سنة 1988، ثم الثانية بعد 1991 زيارة رئيس الصين للهند ،لكن الصين راجعت سياستها تجاه الهند عندما قامت بالتفجيرات النووية عام1998،مما أعاد العلاقات بين البلدين إلي الخلف ثم بدأ يعود الوفاق بين البلدين بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي إلى الصين في شهر جوان 2003.
إذن فالسياسة الخارجية الصينية تجاه الهند تميزت بالتذبذب من فترة إلى أخرى ، ولهدا نلاحظ بعض نقاط الاتفاق بين الطرفين ونقاط اختلاف .
فنقاط الاتفاق تجلت في رفض الهيمنة الأمريكية في المنـطقة باعـتبار دلك ليس في صالحـهما و خاصة في ظل سعي كل طرف لأن يصبح قوة إقليمية.كما أن التواجد في المنطقة ليس في صالح البلدين ( منطقة أفغانستان ) حيث لا ترضى الصين و الهند أن تكون دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية بمقربة منهما لذلك أشاد رئيس مجلس الدولة الصيني بالتعاون مع الهند في عام 2002 من اجل السلام والتنمية.
- مكافحة الإرهاب لما يمثله من خطر على الدولتين، وهو ما دفع البلدين للتعاون في مجال المعلومات و الاستخبارات، لهدا بحثت الصين سبل التقارب مع الهند من اجل الدفاع عن الديمقراطية و محاربة الإرهاب
-رفض فكرة حق تقرير المصير، فالهند ترفض إعطاء الكشميريين حق تقرير المصير، كما أن الصين ترفض إعطاء دلك الحق لبعض الأقاليم كالتبت والمناطق المسلمة وتايوان .
-تنمية العلاقات بين البلدين خاصة بعد أن نمت العلاقات الاقتصادية بين البلدين وبلغت قيمة التجارة الثنائية بينهما حوالي 300 مليون في بداية 1990 لتصل إلى 05 مليار دولار في 2002.
من الجانب الأخر نجد العديد من القضايا بين الطرفين محل اختلاف بداية بالعلاقات الصينية الباكستانية المتميزة في شقها العسكري
لكن الجانب الجيوبو ليتيكي المهم هو قضية كشمير من المعروف أن كشمير يمثل أهمية إستراتجية حيث يقع في أقصى الشمال الغربي لشبه القارة الهندية، حيث يتقاسم الحدود مع كل من الهند و باكستان و أفغانستان و الصين، فان نظرة الصين للقضية الكشميرية تقوم على عدم السماح بان يتحول إلى حرب نظامية قد تجر إليها عنوة كما أنها لن تسمح لأي الطرفين تحقيق تقدم على حساب الأخر باعتبار أن دلك يخدم الإستراتجية الأمريكية في المقام الأول .
-المعارضة الصينية في أن تحتل الهند احد المقاعد في مجلس الأمن حيث ترى الصين أن ذلك ليس في خدمتها ،حيث يشكل حلقة احتواء لها من طرف القوى الكبرى ،و خاصة إذا نجحت اليابان في الحصول على مقعد في مجلس الأمن، وكذلك في ظل الدعم الهندي للمطالب الانفصالية في التبت مما يشكل لها استراتجيه وقائية. 1
خـاتـــمة
يمكن استخلاص مجموعة من النتائج الهامة من هذا البحث، نوردها فيما يلي:
- تأثير البيئة الداخلية بمكوناتها الثقافية و الحضارية و عناصر قوتها الاقتصادية و العسكرية، و بنية مؤسساتها السياسية، على عملية صناعة القرار في الصين.
- لعبت القيادات الصينية، بشخصيتها القوية و تميزها بروح المسؤولية، و التداول السلمي على السلطة، و المزاوجة بين التكوينات المختلفة السياسية و العسكرية و الإدارية، دورا هاما في جعل قرارات القرارات المتخذة تتسم بقدر كبير من العقلانية و الفعالية.
- التطور النوعي في عملية صنع القرار، من خلال توسع دائرة اتخاذ القرار و خروجها من الدائرة الضيقة المقتصرة على الإطار الفردي، و انتقالها حاليا لتأخذ الطابع المؤسساتي شيئا فشيئا، من خلال إعطاء هامش أكبر لتنظيمات أخرى للمشاركة في عملية صنع القرار.
- تطور السياسة الخارجية الصينية من حيث مجال التحرك و التأثير، و يتجلى ذلك من خلال دورها المتزايد في العلاقات الدولية، و انضمامها لمختلف المنتديات الدولية و الإقليمية، كالمنظمة العالمية للتجارة، و منظمة شنغهاي، و الآبك، و الآســيان، و تأسـيسها لمنــتدى الصين إفريقيا، و توجيه اهتمامها لأمريكا اللاتينية خاصة بعد تصاعد المد اليساري في القارة
- تميز سياسة الصين الخارجية بالاستمرارية رغم كونها من الأنظمة المغلقة، و هذا ما تجلى من خلال استمرار اعتبار التنمية الاقتصادية، و الحفاظ على الاستقلال و وحدة الأراضي، و العمل على استرجاع الأقاليم المنفصلة.
- يمكن إدراج التغيرات التي حصلت في سياسة الصين الخارجية ضمن مستوى " التغير التكيفي"، حيث ظلت السياسة الخارجية الصينية محافظة على نفس الأهداف، و الوسائل و الأدوات لتنفيذها، في جو من الرزانة و التثبت و هدوء رد الفعل، كما جاء في وثيقة" جيانغ زيمين" حول أهداف السياسة الخارجية الصينية.
قائـمة المـراجع:
أ-العـربيـة:
*الكتـب:
1-جوزيف. س. ناي. مفارقة القوة الأمريكية. ترجمة: محمد توفيق البجيرمي. الطبعة الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 2003
2- دانييل بورشتاين، أرنيه دي كيزا. التنين لأكبر: الصين في القرن لحادي و العشرين. ترجمة: شوقي جلال، الطبعة الأولى. سلسلة عالم المعرفة، رقم 271، المجلس الوطـني للثـقافة و الفـنون و الآداب، الكويت، 2001.
3-كاظم هاشم نعمة. سياسة الكتل في آسيا. الطبعة الأولى، أكاديمية الدراسات العليا و البحوث الاقتصادية، طرابلس، 1997.
4-محمد السيد سليم، نيفين مسعد. العلاقة بين الديمقراطية و التنمية في آسيا. الطبعة الأولى، مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، مصر، 1997.
5-محمد السيد سليم. آسيا و التحولات العالمية. مركز الدراسات الآسيوية، القاهرة، 1998.
6-ــــــــ. تحليل السياسة الخارجية. الطبعة الثانية، دار الجيل، بيروت، 2001.
7-محمود عبد الفضيل. العرب و التجربة الآسيوية: الدروس المستفادة. الطبعة الأولى، مركز دراسات ا لوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1999.
8-نورهان الشيخ: صناعة القرار في روسيا و العلاقات العربية الروسية . الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999.
9-علا عبد العزيز(محرر). الحركات الإسلامية في آسيا. الطبعة الأولى، مركز الدراسات الآسياوية، القاهرة، 1998.
10-وليد عبد الحي و آخزون. آفاق التحولات الدولية المعاصرة. الطبعة الأولى، دار الشـروق للنـشر و التوزيع، عمان، 2002.
*الدوريات و المجلات:
1-بريس هارلاند. " من أجل صين قوية". السياسة الدولية: عدد 107، 1994
2- جمال مظلوم. " التعاون الروسي الصيني في إطار منظمة شنغهاي". السياسة الدولية: عدد 164، أفريل 2006، السنة الثانية و الأربعون 2006.
3-سونج بوم آهن. " الصين كرقم واحد". الثفافة العالمية: عدد 114، سبتمبر- أكتوبر 2002.
4-عدنان الهياجنة. " الح
أصبحت الصين بفضل التنامي المستمر لمكانتها على الساحة الدولية، من السمات الرئيسية المميزة لفترة ما بعد نهاية القطبية الثنائية.
فالصين بمعدلات نموها الأعلى من نوعها في العالم، و وزنها الاستراتيجي على المستوى الإقليمي و الدولي، و مؤسستها العسكرية المتجهة نحو التحديث، و كثافتها السـكانية العاليـة، و إرثها الحضاري و التاريخي و الثقافي الكبير، أصبحت محل اهتمام مختلف مؤسسات الفكر و المعاهد الأكاديمية المتـخصصة عبر أنحاء العالم، لمـحاولة معرفة السـر الكـامن وراء الصعـود الصيني المتميز، و لاستشراف مستقبل هذه القوة الصاعدة، ذات الطموحات الإقليمية و العالمية.
الإشكالية: إن معرفة توجهات أية قوة صاعدة تمر عبر تتبع مسار سياستها الخارجية، لذلك سيتناول هذا البحث عملية صنع القرار في السياسة الخارجية الصينية، و بما أن الصين تعد من القوى الكبرى التي لها مجال تأثير و تحرك كبيرين، كما أنه لهذا النوع من القوى عادة استمرارية في سياساتها الخارجية، فالإشكالية التي يعالجها هذا البحث تدور حول حدود الاستمرارية و التقطع في سياسة الصين الخارجية، و هي الإشكالية التي يمكن ضبطها من خلال السؤال التالي: " ما مدى الاستمـرارية و التغير في سياسة الصين الخارجية ؟ " و منه طرح التساؤلات التالية:
- كيف يصنع القرار في الصين، و ما هي آثار المتغيرات البيئية الثلاث؟
- ماهي المحددات الرئيسية لسياسة الصين الخارجية ؟
- كيف تؤثر عناصر قوة الصين على طبيعة توجهات سياستها الخارجية ؟
- كيف يمكن إدراك مجالات الاستمرار، و مجالات التقطع في سياسة الصين الخارجية ؟
- إلى أي مدى أثرت عملية تناوب القيادات الصينية المختلفة على طبيعة السياسة الصينية الخارجية المنتهجة ؟
الفرضيات:
ينطلق تحليلنا للإشكالية المطروحة من فرضية أساسية، قائمة على افتراض أن القوى الكبرى تمتاز بانتهاج سياسات خارجية تتصف بالاستمرارية
سنـحاول من خـلال هـذا الـبحث، دراسـة تأثـير كـل مـن الـبيئـة الداخلـية و الخـارجية و السيكولوجية، على عملية اتخاذ القرار في الصين.
و يقوم هذا البحث كذلك على تتبع مدى الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية، و نظرا لتشعب و تداخل مختلف المتغيرات، و العوامل لمؤثرة في توجهات السياسة الصينية، فقد ارتأينا دراسة مجال الاستمرارية أو التغير في سياسة الصين الخارجية، بأخذ متـغير تفسيري، و تتبع دوره في مختلف الفترات التي مر بها النهج السياسي الصيني الخارجي، و قد اختارنا المتغير الاقتصادي، و المتـغير الجيوبوليتيكي، كمتغـيرين تفسيـريين، نبين من خلالهما مدى التغير أو الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية، و سيأتي بيان أهمية هذان المتغيران كعاملان محددان في سياسة الصين الخارجية في ثنايا هذا البحث.
و سيتم التوصل إلى معرفة طبيعة التغيرات التي تعرفها السياسة الخارجية الصينية من خلال الاستعانة بنموذج التغير في السيـاسة الخارجية للـدول الذي وضعه " تشارلز هرمان"، و التي قسمها إلى أربعة مستويات:
- التغير التكيفي: و يقصد به التغير في مستوى الاهتمام بقضية معينة، مع استمرار الأهداف و الوسائل.
- التغير البرنامجي: يتميز بتغير في الأدوات، ومن ذلك تحقيق الأهداف عن طريق التفاوض، و ليس عن طريق القوة العسكرية، مع استمرار نفس الأهداف.
- التغير في الأهداف: و يشير إلى تغير الأهداف ذاتها، و ليس مجرد التغير في الأدوات.
- التغير في توجهات السياسة الخارجية: أي تغير التوجه العام، و هو أكثر أشكال التغير تطرفا.( لتفاصيل أكثر حول هذا النموذج أنظر: محمد السيد سليم. تحليل السياسة الخارجية)
الفصل الاول: محددات سياسة الصين الخارجية:
المبحث الأول: المحددات الجغرافية و البشرية
يلعب العامل لجغرافي دورا هاما في تحديد التوجهات العامة للسياسة الخارجية لأيـة دولة، و هو الأمر الذي أكدت عليه دراسات " ماكيندر" و " مارشال ماكلوهان".
و لذلك فمن المهم تبيين أهم معالم المجال الجغرافي الصيني، تتربع الصين على مساحة 9.572.678 كم²، و تعد ثالث أكبر دول العالم مساحة بعد كل من روسيا و كندا. تقع الصين بين دائرتي عرض18° و 54°، و بيـن خطـي طـول 74° و 135°، و هي بذلك تعد حقا دولة قارة. و تتميز بموقع ذو أهمية إستراتيجية في منطقة شرق آسيا، إذ تجاور 14 دولة منها: روسيا، الهند، باكستان، فيتنام، كوريا الشمالية...الخ، و للصين عمق استراتيجي كـبير، و هو عامل مهم في تدعيم وزن الدولة الاستراتيجي الدفاعي خصوصا، خاصة في حالة التعرض لهجوم نووي، إذ يبلغ أقصى اتساع لها من الشمال إلى الجنوب 4023 كم، و من الشرق إلى الغرب6468 كم.
و تشرف الصين على طرق هامة للمواصلات و التجارة في العالم سواء البرية، كطريق الحرير(silk road)، أو البحرية بإطلالها على المحيط الهادي، و بحر الصين الجنوبي، و بحر الصين الشرقي، و البحر الأصفر، و مضيق فرموزا.
و بالنظر للامتداد الجغرافي للصين يمكن تفسير السبب في تنوع المناخ، و تنـوع الأقالـيم و تعدد الثروات الطبيعية، مما يؤثر إيجابا على الاقتصاد الصيني.
و من الجانب البشري تعد الصين أكثر بلدان العالم سكانا، بتعداد يفوق1.270.800.000
نسمة، حسب إحصائيات 1999. و هذه الأعداد الهائلة تؤهل الصين لأن تكون سوقا واسعة، تستوعب السلع المحلية و العالمية، و هي الحقائق التي سنقف عليها من خلال المبحث الثاني.
المبحث الثاني: المحددات الاقتصادية و العسكرية
*المحددات الاقتصادية: يعد الاقتصاد الصيني من الاقتصاديات الصاعدة و الواعدة، بفضل السوق الاستهلاكية الواسعة التي تحصي ما يفوق المليار مستهلك، خاصة بعد الإصلاحات الاقتصادية المتبعة منذ العام 1979، و الخروج من الاقتصاد الموجه إلى " اقتصاد السوق الاشتراكي"، الذي يزاوج بين القطاع العام و القطاع الخاص، و هو ما يعرف في الصين "بسياسة المشي على ساقين"، و التدرج في إدخال الإصلاحات الاقتصادية تماشيا مع الحـكمة الصـينية القائلة " عبور النهر عن طريق تلمس مواقع الأحجار بالقدمين ".
و قد تطور الاقتصاد الصيني على مرحلتين، الأولى و هي مرحلة ما قبل الإصلاح، التي بدأت مع ميلاد جمهورية الصين الشعبية عام 1949، حيث تبنت الصين النموذج الستاليني، ثم تحول بعد ذلك إلى نظام التخطيط المركزي، و منه إلى نظام الخطط الخماسية، مع التأكيد على تنمية الصناعات الثقيلة، ثم إلى نموذج التـعبئة الجمـاهيرية بالاستخدام المكثف للقوى العاملة، و منه إلى التركيز على الكفاية الإنتاجية و الاعتماد على الذات مع إدارة مركزية للصناعات،
و قد حقق الاقتصاد الصيني معدلات تنمية معقولة خلال هذه الفترة، لكنها معدلات لا تقارن بما حقق بعد إتباع الإصلاح الاقتصادي الشامل في عهد " دنغ كسياو بنغ " .
حيـث تراوحت نسبـة النمو في الفترة الممـتدة من 1978- 1998 بين 9 % و 13 %، و بلغت قيمة صادراتها عام 1997 حوالي 183 مليار دولار، حيث عرفت نمو قدر بـ 20.6%، في حين لم تتعد نسبة نمو الواردات في نفس السنة 2.5 .%
و قد أصبحت الصين من أكبر الأسواق المغرية للاستثمار الأجنبي، حيث استقطبت في الفترة الممتدة ما بين( 1993- 1996 ) 12.5 % من إجمالي تدفق الاستثمارات الأجنبية في العالم.
لكن هذا لا يمنع معاناة الاقتصاد الصيني من جملة من المشاكل منها، التنمية غير المتوازنة بين المناطق الشرقية الساحلية و المناطق الداخلية خاصة الغربية منها، و مشكلة الطاقة التي أصبح الطلب عليها شديدا في الصين بالتوازي مع التوسع السريع للاقتصاد الصيني، إذ يعتبر حاليا ثالث أكبر اقتصاد عالمي مستهلك للطاقة بعد الاقتصاد الأمريكي و الياباني.
* المحددات العسكرية: تعد المؤسسة العسكرية الصينية من أكبر المؤسسات العسكرية في العالم، بفضل ما تتميز به من تفوق عددي و من حيث التسلح (سواء الاستراتيجي أو التقليدي)
و كذا التقنية و الكفاءة التكنولوجية.
فمن ناحية القدرات النووية، نجد أن الصين التي دخلت النادي النووي عام 1964، تعد اليوم أكبر قوة عسكرية في آسيا، و أنها الدولة الوحيدة التي قامت بنشر أسلحة نووية، و لها قوة نووية بإمكانها أن تكون رادعة للولايات المتحدة الأمريكية.
و يعد الخيار النووي الصيني كانعكاس لاعتزاز الصينيين بأنفسهم، و بأمجاد المملكة الوسطى(مركز العالم)، و بفضل الأسلحة النووية تحاول الصين على حد تعبير"بيار بيرنيه"
(pierre pierniech)، الانتقام من الإهانة التي لحقت بها عندما التقت بالغرب، و كسر احتكار القوتين العظميين آنذاك للقوة النووية.
و تتبع الصين برنامج لتحديث قوتها كلفها 24 مليار دولار في الفترة الممتدة بين 1988-1995.
و رغم أن لتقديرات الغربية ترى ن الترسانة النووية الصينية، لا تزيد نسبتها عن 1 10/
من الترسانة الأمريكية أو الروسية، إلا أن ذلك لا يقلل من أهميتها، فهي تتوفر على ثالث أكبر مركب نووي في العالم، و تمتلك حسب تقديرات احتمالية حوالي 300 رأس نووي و 2400 قنبلة نووية.
كما أنه بحوزة الصين "نظم إطلاق"(Delivery systems)، متطورة و عالية الدقة، خاصة الصواريخ الباليستية العابرة للقارات مثل (DF-4) الذي يصل مداه إلى 7 آلاف كم، و صاروخ (DF-5) القادر على حمل رؤوس نووية متعددة، و هي صواريخ متحركة يمكن تحريكها حول الصين، و بالتالي إصابة أهداف في دول كاليابان و روسيا و الهند، بالإضافة إلى الصواريخ متـوسطة الـمدى مـثل: (دونج فانج 15 و 21)، و صواريخ (Julang 1) و (Julang 2)، و كذلك القاذفات الاسترتيجية (H-6)، و الغواصات النووية الحاملة للصواريخ النووية.
المبحث الثالث: المحددات المجتمعية و الثقافية
يقصد بالمحددات المجتمعية و الثقافية، العناصر المتعلقة بالجانب الاجتماعي من تركيبة عرقية، و درجة التماسك الاجتماعي و قيم المجتمع السائدة، أما الجانب الثقافي فهو تعبير عن الأنماط الثقافية المنتشرة في المجتمع و التي تشكل هيكله القيمي و معتقداته المحددة لتوجهاته الحضارية و القيمية.
يتشـكل المجتـمع الصيني من 56 قومية مختلفة، أكبرها قومية "الهان" (Hans) التي تمثل 93% أي الأغلبية بينما تتوزع الـ 7% المـتبقية علـى جماعـات إثنية مختلفة "كالتبتيـين" و "المانشوس" و "اليوغروس"، و "الويغور"، إضافة إلى جماعة "زونغ"، و هذا ما جعل الصين تتميز بنزاعات إقليمية و تناقضات ثقافية.
يعتبر "الهان" المجموعة الإثنية الأكثر أهمية و يرتبط تاريخها بشكل كبير بتاريخ الصين، لأنهم ظهروا فيما يعرف اليوم بشمال الصين منذ أكثر من 4000 سنة، و يتميز "الهان" بثـقافة و حضارة مشتركة، و يشكلون حاليا الأغلبية في 28 مقاطعة من بين الـ 30 مقاطعة الموجودة في الصين باستثناء إقليمي" كسين جيانغ" و "التبت".
هذا في الوقت الذي بلغ فيه تعداد أعضاء جماعة"زوانغ" مثلا 15.8 مليون نسمة، و تعداد "الويغور" 7.2 مليون نسمـة، و التبتـيين حوالي6 ملـيون نـسمة، لـهذا تدعى الصـين بـ " الجمهورية الاشتراكية الموحدة و المتعددة القوميات".
لكن تلك النزاعات و التناقضات لم تظهر بالحدة المسجلة في دول أخرى كالهند أو الاتحاد السوفييتي، و يوغسلافيا سابقا، و هما الدولتان اللتان تفككتا نتيجة الاختلافات العرقية أسـاسا، و يرجع السبب في ذلك إلى التماسك التاريخي الذي يمـيز المجتمع الصيني، الـمعتز بهويتـه و قوميته، رغم ظهور مطالب انفصالية في مناطق محدودة مثل "التبت" و إقليم "كسين جيانغ" ذو الأغلبية المسلمة الواقع غرب لبلاد، و على ذكر العامل الديني فأغلبية الصينيين يدينون بالكونفوشيوسية، مع وجود أقليات مسلمة و مسيحية و هندوسية.
تمازجت الأعراق المختلفة المشكلة للصين عبر التاريخ في كيان حضاري واحد، تمثله ممـلكة الوسط الكبرى التي حكمت قارة آسيا طيلة قرون، أين كان الصينيون يعتبرون حضـارتهم "مركز العالم" و أنهم صحاب أعرق حضارة في التاريخ. قدمت للعالم خدمات جليلة و اختراعات لا تزال آثارها باقية إلى اليوم، و لعل هذا الزخم الحضاري من العوامل التي تقف وراء طبيعة المواقف الصينية، و طموحاتها للعب دور عالمي يتماشى مع موروثها الثقافي و الحضاري العريق
الفصل الثاني: تاثيرات المتغيرات البيئية على عملية صنع القرار في الصين:
المبحث الأول: تأثير البيئة الداخلية
بالنظر للمعطيات المذكورة في الفصل الأول فهي متغيرات داخلية تمثل مختلف المتغيرات المؤثرة في البيئة القرارية لصانع القرار في الصين، حيث يؤثر مستوى القوة و الإمكانيات على التوجه الذي تتخذه السياسة الصينية الخارجية، من حيث الأهداف و المخرجات، بما يتناسب مع إدراك القادة الصينيين لمكانة بلادهم و للدور الذي يمكن أن تلعبه الصين في العلاقات الدولية.
و على ضوء تلك المتغيرات تبلورت توجهات و أهداف السياسة الخارجية الصينية، و حسب الدوائر الرسمية الصينية فتنعكس توجهات السياسة الصينية من خلال جملة من المبادئ و هي:
* تهدف السياسة الخارجية الصينية للحفاظ على الأمن و السلم الدوليين، و خلق بيئة أمنية آمنة، و تسعى لتطوير علاقاتها مع كل الدول بناء على خمسة مبادئ:
- الاحترام المتبادل للسيادة و وحدة الأراضي.
- عدم الاعتداء.
- عدم التدخل في الشؤون الداخلية .
- التعايش السلمي.
- المساواة الدولية.
* تقوية التضامن مع الدول النامية، و تقوية علاقات الصداقة و حسن الجوار مع الدول المجاورة المشكلة لحجر الزاوية في سياسة الصين الخارجية.
* تسعى الصين لاستقرار العلاقات الدولية، و وضع نظام عالمي سياسي و اقتصادي جديد,
* تكريس العدالة الدولية، حيث لا تدخر الصين جهدا في الحفاظ على السلم العالمي، و تسوية النزاعات الدولية.
و قد حددت الوثيقة التي وضعها الرئيس الصيني الأسبق" جيانغ زيمين" المبادئ الرئيسية لسياسة الصين الخارجية في عالم متحول من خلال:
* مراقبة الوضع الدولي بثبات و رزانة.
* التشبث بالموقع الدولي للصين و هو ما يتضح في التركيز على فكرة السيادة و إصرار الصين على تعريف المصالح القومية أنها داخل الحدود.
* هدوء رد الفعل.
* إخفاء القدرات المتوفرة.
* كسب الوقت.
إذا فمتغيرات البيئة الداخلية الصينية تتحكم إلى حد كبير في صنع القرار في الصين، و الذي يعمل وفقا لجملة من الأهداف الرئيسية:
* الهدف الأول: تدعيم التنمية الاقتصادية و التحديث، فمنذ تبني برنامج الإصلاح الاقتصادي، بدأت الصين في التأكيد على أن التنمية هدف رئيسي للسياسة الخارجية، و حاليا أعطت الصين الأولوية لهدا الهدف و هو ما سيتضح أكثر من خلال الفصل القادم.
* الهدف الثاني: هو النماء العسكري، للمحافظة على السيادة و الاستقلال، و قد جعلت القوة الاقتصادية من الممكن تحديث المؤسسة العسكرية، و تم الإسراع في هذه العملية نتيجة للنزاعات الإقليمية.
* الهدف الثالث: تدعيم وضعها القومي بتحسين علاقاتها الخارجية، حيث حاولت الصين إحداث تقارب مع مختلف الدول، و تجسد ذلك في علاقاتها مع الدول الأوربية و الشرق أوسطية.
* انتهاج سياسة الباب المفتوح، حتى تبرز على أنها لاعب هام في الأسواق العالمية، و هذا ما تجلى في زيادة المبادلات التجارية الصينية، و تدفق الاستثمارات الخارجية.
المبحث الثاني: تأثير البيئة الخارجية
تتمثل المتغيرات الخارجية، في المعطيات المميزة للجوار الإقليمي الصيني، و تحولات النظام الدولي.
فعلى المستوى الإقليمي تؤثر جملة من التحولات على عملية صنع القرار، خاصة منها طبيعة علاقات الصين مع دول مؤثرة، و قضايا مهمة.
ففيما يخص قضية انتشار الأسلحة النووية في العالم، أثر ذلك كثيرا على توجهات السياسة الخارجية الصينية.
فمع ازدياد حدة الأزمة النووية لكوريا الشمالية خلال الصيف الحالي اتجهت الأنظار نحو أعدائها في أمريكا و"بيونج يانج" كما كان دور بكين كطرف ثالث يحظى باهتمام غير كبير رغم أنه على مستوى عالٍ من الأهمية. وبعد مرور فترة طويلة من الصمت الذي التزمته الصين فقد تدخلت بجرأة شديدة في النزاع عن طريق تعطيلها لشحنات البترول إلى كوريا الشمالية وإرسالها مبعوثين رفيعي المستوى إلى بيونج يانج بالإضافة إلى تحويل قواتها إلى الحدود الصينية الكورية وتنظيمها لسلسلة من المباحثات الثلاثية في بكين. ومنذ ذلك الوقت لم تتوقف الصين عن ممارستها للضغط. حيث قامت أيضاً خلال الصيف الحالي باحتجاز سفينة ملاحية لكوريا الشمالية نتيجة لبعض الخلافات التجارية بينهما تلاه العديد من الزيارات التي قام بها نائب وزير الخارجية الصينية "ديابينجو" بين "واشنطن" و"بيونج يانج" في محاولة منه التأكيد على سلسلة جديدة من المباحثات.
وبصفة عامة فإن تلك المبادرات تسير في اتجاه مناف تماماً لتيار السلبية وعدم التحمل لأعباء المسئولية الذي كانت تتبعه الصين تجاه القضية النووية الكورية منذ عقد مضى. بالإضافة إلى أن تلك المبادرات أيضاً تعد طفرة تحول هائلة في حد ذاتها على الرغم من أن الصين لازالت في طريقها لتحقيقها وذلك باعتبار الصين لاعباً له دور فعال في ميدان الصراع الدولي في الوقت الراهن.
ففي خلال السنوات الأخيرة بدأت الصين تتخذ خطوات توصف بأنها أقل مواجهة وأكثر تحضراً وثقة بالنفس ولكنها في بعض الأحيان تبدو أكثر بنائيةً إزاء الشئون الإقليمية والعالمية. وعلى العكس مما كان معروفاً خلال العقد الماضي فإن الصين باعتبارها أكبر دول العالم سكاناً تقوم الآن بتطبيق نظام دولي جديد، حيث تبنت كوكبة كبيرة من المؤسسات والمبادئ والمعايير الدولية الراهنة من أجل تعزيز مصالحها الدولية حتى إنها سعت من أجل إضافة بعض الملامح التطويرية لهذا النظام ولكن بصورة محدودة.
و نظرا للتحول الحاصل في العلاقات الدولية، بسبب زيادة عوامل الاعتماد المتبادل، و أهمية توسيع العلاقات و الانضمام للتكتلات العالمية، عملت الصين على مواكبة هذا التغير.
ومن أكثر شواهد التغير وضوحاً منذ منتصف التسعينيات هو ما قامت به الصين من زيادة حجم وعمق علاقاتها الثنائية إلى جانب انضمامها إلى العديد من الاتفاقيات التجارية والأمنية وتعميق إسهاماتـها في المنظمات القيادية مـتعددة الجوانب، من خلال انضمامها للمنظمة العالمية للتجارة، و تأسيس منظمة شنغهاي، و منظمة الآسيان، و منظمة التعاون للمحيط الهادي (آبك)، و تنظيمها لمنتدى الصين إفريقيا. بالإضافة إلى تقديمها يد العون في توجيه القضايا الأمنية الدولية. و نتيجة لهذه التطورات أصبحت سياساتها الخارجية في صنع القرار أقل من الناحية الفردية وأكثر من الناحية المؤسسية عن ذي قبل، كما أصبح الدبلوماسيون الصينيون أكثر تحضراً في التعبير عن أهدافهم. وبصورة أشمل فقد اختلفت التصورات الخاصة بقوانين السياسة الخارجية، فبدلاً من اعتبار الصين ضمن الدول النامية المقهورة في ظل ولاية كل من" ماوزيدونج" و "دينج كزيا اوبينج" فقد أصبحت الصين إحدى القوى العظمى الصاعدة ذات المصالح المتعددة. كما جعلت هذه التحولات و ضرورة التكيف معها صنع القرار في الصين يتصف بمرونة أكثر، و التحول إلى دوائر مؤسساتية أكثر فأكثر.
المبحث الثالث: البيئة السيكولوجية و أثرها على صناعة القرار
لقد ساهمت كاريزما مختلف القيادات الصينية المتعاقبة على الحكم، وتداولها السلمي على الحكم في تطوير أساليب و آليات صنع القرار في الصين.
فالفلسفة و الذهنية الصينية فريدة من نوعها، فعندما تقدمت السن بـ" ماو تسيتونغ" ترك الكثير من الأمور للقائد الصيني المتواضع و البالغ الكفاءة "شوان لاى"، ولم يمانع في إعادة الاعتبار للقائد " دنج هسياو بنغ"، و عندما بلغ الكبر بهذا الأخير اكتفى بمنصب شرفي كرئيس للجنة العليا للرياضة، و لكنه كان بمثابة الأب الروحي للقيادات الجديدة.
و "جيانغ زيمين" عندما واجه نفس الاختيار، اكتفى بالاحتفاظ برئاسة اللجنة العسكـرية المركزية، و ترك القيادات الجديدة تضطلع بدور قيادة الصين و إدارتها في القرن الحادي و العشرين.
و بالنسبة للقيادة الجديدة فقد جرى إعدادها مسبقا للعب أدوار مستقبلية، فقد تولى" هو جنتاو" منصب نائب الرئيس لمـدة خمس سـنوات، و ذلك بعــد أن تم تصعـيـده من العمل العـسكري و الحربي، و نفس الشيء بالنسبة لرئيس مجلس الدولة "ون جياباو"، الذي كان بدوره نائبا لرئيس الوزراء على مدى خمس سنوات، و هنا تتجلى الـعبقرية الصيـنية حيث أن قائدا المسيرة الجديدة متمرسان على الحكم و الإدارة و الجانب العسكري، عندما سئل" جيانغ زيمين" عن مستقبل الصين قال أنه يحس بالاطمئنان لأنه يعرف أن شابا مثل" هو جنتاو" هو نائب الرئيس، و أن مقاليد أمور الصين بين يديه، و بذلك عبر "جيانغ" عن الحكمة البالغة التي تراكمت عبر السنين في حضارة عريقة و ديناميكية.
و قد تعاقب تطور مؤسسات صنع القرار في الصين، مع تعاقب مختلف القيادات، ففي عهد ماو كانت معظم قرارات السياسة الخارجية يتم اتخاذها بطريقة عائلة كورليون في قصة (God Father): فكان ماو بمثابة "الأب الإله"، ثم جاء بعد ذلك حكم "دينج" ليفتح آفاقاً جديدة حيث توطدت روابط الصين بالمجتمع الدولي، ولكن ظلت القرارات النهائية تتصف بالمركزية الشديدة. وعلى الرغم من ذلك فقد أصبحت عملية اتخاذ قرارات السياسة الخارجية الآن تتميز بالمؤسسية واللامركزية ولم تعد أيضاً تعتمد بشكل كبير على الصفة الفردية لأحد القادة.
ومن أحد محاور التغير في الصين إتاحة فرصة أكبر للدور الذي تلعبه هيئات الإدارة الحكومية المتناظرة والمختصة بقضايا السياسة الرئيسية، والمعروفة باسم "المجموعات القيادية الصغيرة"، كما قامت بكين فى أواخر عام 2000 بتأسيس "مجموعة قيادية جديدة للأمن القومي". كما تشكل هذه الهيئات الصورة العامة للنظام السياسي، وأيضاً فإنه من شأنها تقييد السلطة التي يستقل بها فرد أو حرب.
عملت الصين أيضاً على تنويع مصادر التحليلات السياسية التي تصل إليها من داخل الحكومة أو من خارجها. فعلى سبيل المثال فإن القسم الجديد للتخطيط المتطور لسياسة وزارة الخارجية يلعب الآن دوراً بارزاً كأحد مصادر الفكر السياسي الداخلية، ومن ناحية أخرى فقد بدأت الحكومة فى تعيين متخصصين من خارج الحكومة للاستعانة بهم كمستشارين للقضايا الفنية مثل تلك التي تتعلق بعدم انتشار الأسلحة المحظورة والدفاع الصاروخي. هذا ويشارك عدد كبير من الدارسين والمحللين السياسيين الصينيين بصورة منتظمة فى مجموعات الدراسة الداخلية وكتابة التقريرات، إلى جانب تصميم بعض المختصرات السياسية، حيث يقوم هؤلاء الدارسون والمحللون السياسيون بكثير من الدراسات والزيارات للخارج للالتقاء بنظائرهم من الخبراء الدوليين بالإضافة إلى أنهم يلفتون أنظار الزعماء الصينيين إلى الاتجاهات الدولية السائدة ويطرحونها عليهم فى قالب من الخيارات السياسية.
وهناك أيضاً عامل آخر كانت له بصمة واضحة فى تطوير عملية صنع القرار فى السياسة الخارجية للصين وهو توسيع رقعة المناقشة العامة لتشمل الشئون العالمية. فلم يكن هناك أية مناقشات مفتوحة تتناول المشكلات الحساسة مثل حظر الأسلحة أو الدفاع الصاروخي فى خلال العشر سنوات الماضية، ولكن فى الوقت الراهن يستطيع النقاد أن يتناولوا كل تلك القضايا بالدراسة فى آرائهم ولقاءاتهم التليفزيونية إلى جانب مؤلفاتهم بفرض تفعيل وهيكلة الدبلوماسية الصينية. وفى الوقت نفسه فقد بدأت فئة من الصينيين تضم مسئولي الإعلام والمتحدثين الرسميين للحزب الشيوعى والصحف اليومية الشعبية تجرى مباحثات باستخدام أسلوب المائدة المستديرة بالاستعانة بالإدارة الصريحة للمحللين الجدد حتى إن بعض الصحف وخاصة "الهوانكى شيباو" (أوقات عالمية) و"النانفانج زومو" (نهاية الأسبوع الجنوبي) قد نشرت بعض الآراء المطالبة بإيجاد بدائل لسياسة الحرب الرسمي مثل تلك التي تتعلق بكوريا الشمالية.
أما عن الأسلوب الذي يتبعه الساسة فى تنفيذ الدبلوماسية الصينية المتطورة بشكل كبير، فقد تميز بالبراعة والفطنة وهو ما أثمرته نتائج التدريب المناضل الذي بدأته وزارة الخارجية منذ أكثر من عشرين عاماً مع بدء فترة الإصلاح حيث قضى الدبلوماسيون الصينيون وقتاً طويلاً فى دراسة العالم الخارجي من المتحدثين لغة أو أكثر من اللغات الأجنبية والحاصلين على درجات وشهادات علمية من جامعات أوروبا وأمريكا. كما عملت أيضاً على تعزيز فكرة تجنيد المؤهلات المتوسطة المحولة من الولايات الأخرى من أجل زيادة خبراتها فى شتى المجالات.
صحب تلك التغييرات فى الواقع حملة صينية جديدة لتعميم وتعزيز السياسة الخارجية للدولة. ففي خلال العقود الماضية كانت المناظرات والتلخيصات يتم إحالتها إلى الصحف اليومية والتقارير الإخبارية والمطبوعات التي تصدرها وزارة الخارجية، ثم تغير الوضع مؤخراً حيث أدركت الصين أهمية طرح وجهة نظرها للعالم الخارجي، من أجل تحسين صورتها بين الدول. وطبقاً لذلك فقد بدأت الصين فى منتصف التسعينيات فى إصدار الأوراق البيضاء الحكومية المتعلقة بالموضوعات الجدلية للسياسة الخارجية من أجل التعزيز والدفاع عن آرائها.
الفصل الثالث: مدى الاستمرارية في سياسة الصين الخارجية:
المبحث الأول: دور المتغير الاقتصادي
- صراع المصالح الاقتصادية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية.
- التنافس الياباني الأوروبي على السوق الصيني.
- التوجه الصيني نحو العالم الثالث.
المبحث الثاني: أهمية المتغير الجيوبوليتيكي
- تايوان محور العلاقات الصينية الأمريكية.
- المصالح المتبادلة حول الشيشان و إقليم كسين جيانغ بين الصين و روسيا.
- العلاقات الصينية الهندية و مسألة التبت.
المبحث الأول: أهمية المتغير الاقتصادي
يلعب المتغير الاقتصادي دورا هاما في سياسة الصين الخارجية، حيث لاحظنا أنه يعتبر من الأهداف الرئيسية في توجهاتها العامة، و فيما يلي رصد لتأثير المتغير الاقتصادي على علاقات الصين مع مختلف النقاط الحساسة من العالم.
* صراع المصالح الاقتصادية بين الصين و الولايات المتحدة الأمريكية: أصبحت الأسواق الصينية تمثل فرصا حقيقية لاستثمار، خاصة بعد عملية الانفتاح الاقتصادي، و تعد الولايات المتحدة من أهم المستثمرين في السوق الصينية إذ يعد هدا العامل حيويا في تطور اقتصاد البلدين، فالصين تعتمد أسواق الولايات المتحدة و تكنولوجيتها العالية، بينما ترى الولايات المتحدة في الصين المكان المناسب لإقامة المشاريع الاستثمارية، حتى لا تسيطر عليها قوى اقتصادية أخرى منافسة خاصة اليابانية منها و الأوروبية.
إلا أن دلك لا يمنع من وجود مشاكل تهدد بقيام حروب تجارية بين البلدين، إذ أصبح العجز التجاري للولايات المتحدة مع الصين مسألة اقتصادية خطيرة، إذ بلغ العجز التجاري الأمريكي مع الصين 60 مليار دولار عام 1998، و ارتفع ليقارب 66.9 مليار دولار عام 1999 .
و قد عملت الولايات المتحدة على مواجهة المشكلة من خلال تهديد الصين بفرض عقوبات اقتصادية، و استغلال قضية حقوق الإنسان للضغط على الصين كلما أرادت الحصول على تناماوالات لصالحها، و التهديد بحرمانها من مبدأ الدولة الأولى بالرعاية.
كما أن مسألة الملكية الفكرية تميز علاقات البلدين، حيث و صل الأمر بإدارة" كلينتون" لفرض عقوبات تجارية على الصين مما أجبر هذه الأخيرة على توقيف هذه السرقات.
و كثيرا ما تهدد الولايات المتحدة بوقف استثماراتها في الصين بحجة خرقها لحقوق الإنسان، لحن هذه التهديدات لا تؤثر على الصين، التي تعلم أنه بإمكانها تغطية انسحاب الشركات الأمريكية بحماس الشركات اليابانية و الأوروبية للاستثمار في الصين.
* التنافس الياباني الأوروبي على السوق الصيني: رغم الـعداوة التـاريخية بين الصيـن و اليابان إلا إن ذلك لم يمنع التعاون بينهما، فالصين بحاجة للتكنولوجيا اليابانية، و اليابان بحاجة لفرص الاستثمار التي يوفرها الاقتصاد الصيني، فقد أصبحت الشركات اليابانية مقتنعة أن الاستثمار في الصين شيء مربح.
إن مختلف المؤشرات تدل على اتجاه الدولتين للتعاون الوثيق خاصة في المجال الاقتصادي، فقد عقدت بينهما عدة اتفاقيات، حيث وصل حجم التبادلات بينهما 47.9 مليار دولار عام 1994، أي بنسبة زيادة قدرت 22.8% ، و منذ أن أقام البلدان علاقات اقتصادية بينهما بلغ حجم العجز التجاري الصيني مع اليابان 50 مليار دولار، و قد أقامت الشركات اليابانية قاعدة واسعة لها في الصين، مع زيادة في الاستثمار ففي نهاية 1999 افتتحت الشركات اليابانية 1222 مشروعا استثماري في الصين، قيمتها 14.2 مليار دولار .
أمـا فيما يخـص الاتحاد الأوروبي، فدوله خاصة ألماني و فرنسا و بريطانيا، تتنافس فيمي بينها و مع اليابان و الشركات الأمريكية لافتكاك مكانة في السوق الصينية.
و قد أعلن "بيتر مانديلسون" المفوض التجاري للاتحاد الأوروبي ، أثناء زيارته للصين، أن تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية مع الصين أمر هام للغاية بالنسبة لأوروبا، وأن الاتحاد الأوروبي يرغب في تسوية المشاكل في التعاون التجاري بين الجانبين من خلال الحوار والتشاور، مشيرا إلى أن الاتحاد الأوروبي مستعد لتعزيز التعاون مع الصين في مجال حماية حقوق الملكية الفكرية.
هذا وقد شهدت العلاقات التجارية الصينية الأوروبية تطورا سريعا في السنوات الأخيرة حيث أصبح الاتحاد الأوروبي أكبر شريك تجاري للصين في عامي 2004 و2005، أما الصين فقد أصبحت ثاني أكبر شريك تجاري للاتحاد الأوروبي، وتجاوز إجمالي قيمة التبادلات التجارية بين الجانبين في العام الماضي 210 مليار دولار أمريكي. ولكن في الوقت نفسه، زادت الاحتكاكات التجارية بين الجانبين أيضا، وفرض الاتحاد الأوروبي في يوليو العام الماضي رسوم مكافحة إغراق على الأحذية الصينية المصدرة إلى أوروبا، ورفض وضعية اقتصاد السوق للمؤسسات الصينية المعنية دون أن يقوم بتحقيقات جدية، وعبرت الصين عن استيائها من هذا الأمر وطالبت الاتحاد الأوروبي بمعاملة مؤسسات الأحذية الصينية بطريقة مناسبة.
* التوجه الصيني نحو العالم الثالث: يعد الاهتمام بعلاقات الصين مع دول العالم الثالث من أهم تقاليد السياسة الخارجية الصينية، و بعد أن كان هذا الاهتمام ذو طابع سياسي و اقتصادي في عهد الحرب الباردة، تحول إلى اهتمام اقتصادي، لكي تستفيد الدول النامية من الخبرة و المساعدة الصينية، و تستفيد الصين من موارد هذه الدول خاصة الطاقوية منها، و من فرص الاستثمار كذلك.
و سنأخذ التعاون الإفريقي الصيني كنموذج لسياسة الصين دول العالم الثالث، عقدت ابتداء من 4 نوفمبر 2006 في قاعة الشعب الكبرى ببكين عاصمة الصين، قمة بكين لمنتدى التعاون الصيني الإفريقي. ويرى الزعماء الأفارقة الذين يشاركون في القمة أن الصين وإفريقيا لديهما مستقبل مشرق في التعاون.
منذ تأسيس منتدى التعاون الصيني الإفريقي عام 2000، تطور التعاون المتبادل المنفعة بين الصين وإفريقيا بسرعة في مختلف المجالات، وأتاح المنتدى للجانبين فرصة نادرة لإجراء حوار جماعي وأصبح آلية فعالة للتعاون بينهما.
وفي إطار منتدى التعاون الصيني الإفريقي، يتعزز التبادل والتعاون بين الجانبين في مجال الموارد البشرية. ومنذ عام 2004، بعثت الصين أكثر من 500 خبير وأستاذ إلى الدول الإفريقية لمساعدتها على تدريب المتخصصين في مجالات الزراعة والعلوم والتعليم المهني والطب والصحة، وقدم هؤلاء الصينيون مساهمات كبيرة في بناء إفريقيا وتوطيد العلاقات مع الشعوب الإفريقية.
وتكثفت التبادلات الثقافية بين الصين وإفريقيا. وفي عام 2005، استقبلت الدول الإفريقية سبع بعثات فنية صينية، وأوفدت الصين مدربين ممتازين إلى مصر ونيجيريا وغانا.
أرسى تفاوت الأسلوب التجاري أساسا للتجارة الصينية الإفريقية المتمثلة في المنفعات المتبادلة والأرباح للجميع. تطورت التجارة الصينية الإفريقية الآن إلى مرحلة خاصة لجمع الأساليب التعددية بما في ذلك التجارة العامة والاستثمار في الخارج والمقاولة وتقديم المساعدات إلى الخارج. حتى نهاية عام 2005، وصلت الاستثمارات الصينية في إفريقيا إلى أكثر من 6 مليارات دولار أمريكي، وأقامت أكثر 800 مؤسسة هناك. وفى عملية التعاون الصيني الافريقى في الطاقة، وتدفع الصين تنمية اقتصاد الدول الموفرة للموارد الطبيعية بواسطة تقديم الاستثمار في الطاقة. وحققت المنفعات والأرباح للجميع مع شركائها الأفارقة عن طريق المشاركة في الخدمة العامة وشاركت في بناء الطرق والجسور والمستشفيات ومنشآت أساسية أخرى في الدول الموفرة للموارد مما حققت المنفعات المتبادلة والإرباح للجميع هناك. كما تجسدت المنفعات المتبادلة والأرباح للجميع في حالة التجارة الصينية الإفريقية أيضا، منذ السنوات الأخيرة، تبقى التجارة الصينية الإفريقية في التوازن الأساسي، ويتمتع الجانب الافريقى بفائض قليل بهذا الخصوص .
المبحث الثاني: أهمية المتغير الجيوبوليتيكي
يعد العامل الجيوبوليتيكي من بين أهم المتغيرات المتحكمة في سياسة الصين الخارجية، إذ لم يفقد هذا المتغير أهميته، يقول "جوزيف ناي" : " لم تحل الجغرافيا الاقتصادية محل الجغرافيا السياسية، رغم أن مطلع القرن الحادي و العشرين قد شهد بوضوح إمحاء الحدود التقليدية بين الاثنتين، ذلك أن تجاهل دور القوة المركزية و الشؤون الأمنية سيكون كتجاهل الأكسجين، ففي الظروف العادية يتواجد الأكسجين بكثرة فلا نعيره اهتماما يذكر، و لكن ما إن تتغير هذه الظـروف، و نبدأ في افتقاد الأكسجين حتى نعجز عن التركيز على أي شيء آخر".
و تتجلى أهمية هذا المتغير من خلال تأثيره على علاقات الصين مع مختلف القوى:
* تايوان محور العلاقات الصينية الأمريكية: العلاقات الصينية الأمريكية يسيطر عليها الشك و عدم الثقة، خاصة ما يتعلق بقضايا الفائض التجاري و حقوق الإنسان و تايوان، و التي تعتبر محورا مهما في السياسة الخارجية الصينية تجاه الولايات المتحدة.
فبشأن الطريقة التي تتبعها الصين في تناول قضية تايوان، فهي تكشف عن مستوى عال من الإدراك و الثقة في النفس، فمنذ فترة التسعينات حتى بداية عام 2001، باتت السياسات التي تحكم العلاقات المتبادلة يشوبها القلق و التوتر، و ترجع تلك المخاوف إلى إمكانية تسلل الفكر الاستقلالي إلى تايوان، و في ردها على هذه الأخيرة قامت الصين باستخدام الأسلوب الجبري المكثف، في مواجهة هذا الفكر الذي يعيق الجهود الصينية لتوحيد البلاد، و لذلك رفضت الصين أي توطيد للروابط العسكرية الأمريكية مع تايوان.
فالمقدرات العسكرية الصينية أهلتها لتؤدي دور في السياسة الخارجية الصينية، و قد برز هذا الدور في ردع الولايات المتـحدة من التدخـل في الحالة الـتايوانية، و ساهم التسلح العسكري الصيني في منع تايوان من اتخاذ أي سياسات انفصالية.
* المصالح المتبادلة حول الشيشان و إقليم كسين جيانغ بين الصين و روسيا: مرت العلاقات الصينية الروسية بفترات متباينة، فبعد أن كانت علاقات متينة على إثر انتصار الثورة الشيوعية، عرفت اضطرابات بسبب المشاكل الحدودية، و التقارب الأمريكي الصيني، و التباينات الإيديولوجية.
إلا أنها عرفت نقلة نوعية منذ نهاية الحرب الباردة، مع تبادل الزيارات بين البلدين على أعلى مستوى، كالزيارة التي قام بها الرئيس الروسي" بوريس يلتسين" للصين عام 1996، و أسفرت عن توقيع اتفاقية أمنية مشتركة، و الاتفاق على حل مشكلة الحدود نهائيا.
و تركز الصـين في علاقاتها مع روسيا على قـضية إقليم "كسين جيانـغ"، الذي توجد به حركة " ويغور" الإسلامية ذات المطالب الانفصالية.
يقع إقليم " كسين جيانغ" في الشمال الغربي، بلغ عدد سكانه عام 1990 نحو 15 مليون نسمة أغلبهم مسلمون، يضم حوالي 13 قومية، و تعادل مساحته سدس مساحة الصين ككل، و يشكل عمقا استراتيجي للصين في وجه روسيا و جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية، و لإعادة التوزيع السكاني الصيني مستقبلا، فهو إقليم شاسع المساحة و الكثافة السكانية به منخفضة، كما أنه يحتوي على ثروات معدنية، و احتياطي بترولي ضخم، كما تعتبره الصين همزة وصل لهل مع العالم الإسلامي.
و حاولت الصين استغلال العلاقات التاريخية و الإستراتيجية بين روسيا و الجمهوريات الإسلامية في آسيا الوسطى، لضمان تعاون هذه الجمهوريات بمنع هذه الحركة من تحويل أراضي تلك الدول إلى قواعد خلفية لها خاصة مع الروابط الدينية و القومية و التاريخية بين الويغوريين و سكان آسيا الوسطى.
و أبدت الصين تأييدها للسياسة الروسـية في "الشيشـان"، مقابل الدعم الروسي لوحـدة الصيـن، و مناهضة المطالب الانفصـالية في "التبت"، و دعـم حق الصين في اسـترجاع "تايوان"، و شكل البلدان مـنظمة "شنغهاي"، و الـتي ضمت كذلك كازاخستـان و طاجاكستان و كيرغستـان و أورباكستان، والتي توسعت لتضم الهند و باكستان كذلك، و كان الهدف الأول المعلن للمنظمة هو العمل على حل المشاكل الحدودية بين الدول الأعضاء.
* العلاقات الصينية الهندية و مسألة التبت:
شهدت العلاقات الصينية الهندية حالة من التأرجح الكبير، بين التقارب الكامل و الـتنافر الكبير و قد بدأت العلاقات بشكل ايجابي بين البلدين في عام 1949، عندما كانت الهند أول دولة تعترف بحكومة الصين الشعبية ولم تعترف بالصين الوطنية، بل إن الهند كانت تدعم الصين للحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن .
لكن العلاقات سرعان ما بدأت تدخل حالة من التوتر في عام 1959بسبب المشاكل الحدودية، مما أدى سنة 1962 إلى اشتعال الحرب بينهما التي سرعان ما انتهت لصالح الصين ،ومن ثم فقد وطدت علاقاتها مع باكستان المنافس الأخر للهند ،ولجأت إلى تطوير علاقاتها مع الاتحاد السوفيتي، لكن في إعقاب الغزو السوفيتي لأفغانستان بدأ يعود الوفاق بينهما في تلك الفترة التي شهدت توقيع العديد من الاتفاقيات ببن البلدين حيث حدث تطور ملموس للعلاقات الصينية الهندية بعد الزيارات المتتالية بين الطرفين الأولى سنة 1988، ثم الثانية بعد 1991 زيارة رئيس الصين للهند ،لكن الصين راجعت سياستها تجاه الهند عندما قامت بالتفجيرات النووية عام1998،مما أعاد العلاقات بين البلدين إلي الخلف ثم بدأ يعود الوفاق بين البلدين بعد الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الهندي إلى الصين في شهر جوان 2003.
إذن فالسياسة الخارجية الصينية تجاه الهند تميزت بالتذبذب من فترة إلى أخرى ، ولهدا نلاحظ بعض نقاط الاتفاق بين الطرفين ونقاط اختلاف .
فنقاط الاتفاق تجلت في رفض الهيمنة الأمريكية في المنـطقة باعـتبار دلك ليس في صالحـهما و خاصة في ظل سعي كل طرف لأن يصبح قوة إقليمية.كما أن التواجد في المنطقة ليس في صالح البلدين ( منطقة أفغانستان ) حيث لا ترضى الصين و الهند أن تكون دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية بمقربة منهما لذلك أشاد رئيس مجلس الدولة الصيني بالتعاون مع الهند في عام 2002 من اجل السلام والتنمية.
- مكافحة الإرهاب لما يمثله من خطر على الدولتين، وهو ما دفع البلدين للتعاون في مجال المعلومات و الاستخبارات، لهدا بحثت الصين سبل التقارب مع الهند من اجل الدفاع عن الديمقراطية و محاربة الإرهاب
-رفض فكرة حق تقرير المصير، فالهند ترفض إعطاء الكشميريين حق تقرير المصير، كما أن الصين ترفض إعطاء دلك الحق لبعض الأقاليم كالتبت والمناطق المسلمة وتايوان .
-تنمية العلاقات بين البلدين خاصة بعد أن نمت العلاقات الاقتصادية بين البلدين وبلغت قيمة التجارة الثنائية بينهما حوالي 300 مليون في بداية 1990 لتصل إلى 05 مليار دولار في 2002.
من الجانب الأخر نجد العديد من القضايا بين الطرفين محل اختلاف بداية بالعلاقات الصينية الباكستانية المتميزة في شقها العسكري
لكن الجانب الجيوبو ليتيكي المهم هو قضية كشمير من المعروف أن كشمير يمثل أهمية إستراتجية حيث يقع في أقصى الشمال الغربي لشبه القارة الهندية، حيث يتقاسم الحدود مع كل من الهند و باكستان و أفغانستان و الصين، فان نظرة الصين للقضية الكشميرية تقوم على عدم السماح بان يتحول إلى حرب نظامية قد تجر إليها عنوة كما أنها لن تسمح لأي الطرفين تحقيق تقدم على حساب الأخر باعتبار أن دلك يخدم الإستراتجية الأمريكية في المقام الأول .
-المعارضة الصينية في أن تحتل الهند احد المقاعد في مجلس الأمن حيث ترى الصين أن ذلك ليس في خدمتها ،حيث يشكل حلقة احتواء لها من طرف القوى الكبرى ،و خاصة إذا نجحت اليابان في الحصول على مقعد في مجلس الأمن، وكذلك في ظل الدعم الهندي للمطالب الانفصالية في التبت مما يشكل لها استراتجيه وقائية. 1
خـاتـــمة
يمكن استخلاص مجموعة من النتائج الهامة من هذا البحث، نوردها فيما يلي:
- تأثير البيئة الداخلية بمكوناتها الثقافية و الحضارية و عناصر قوتها الاقتصادية و العسكرية، و بنية مؤسساتها السياسية، على عملية صناعة القرار في الصين.
- لعبت القيادات الصينية، بشخصيتها القوية و تميزها بروح المسؤولية، و التداول السلمي على السلطة، و المزاوجة بين التكوينات المختلفة السياسية و العسكرية و الإدارية، دورا هاما في جعل قرارات القرارات المتخذة تتسم بقدر كبير من العقلانية و الفعالية.
- التطور النوعي في عملية صنع القرار، من خلال توسع دائرة اتخاذ القرار و خروجها من الدائرة الضيقة المقتصرة على الإطار الفردي، و انتقالها حاليا لتأخذ الطابع المؤسساتي شيئا فشيئا، من خلال إعطاء هامش أكبر لتنظيمات أخرى للمشاركة في عملية صنع القرار.
- تطور السياسة الخارجية الصينية من حيث مجال التحرك و التأثير، و يتجلى ذلك من خلال دورها المتزايد في العلاقات الدولية، و انضمامها لمختلف المنتديات الدولية و الإقليمية، كالمنظمة العالمية للتجارة، و منظمة شنغهاي، و الآبك، و الآســيان، و تأسـيسها لمنــتدى الصين إفريقيا، و توجيه اهتمامها لأمريكا اللاتينية خاصة بعد تصاعد المد اليساري في القارة
- تميز سياسة الصين الخارجية بالاستمرارية رغم كونها من الأنظمة المغلقة، و هذا ما تجلى من خلال استمرار اعتبار التنمية الاقتصادية، و الحفاظ على الاستقلال و وحدة الأراضي، و العمل على استرجاع الأقاليم المنفصلة.
- يمكن إدراج التغيرات التي حصلت في سياسة الصين الخارجية ضمن مستوى " التغير التكيفي"، حيث ظلت السياسة الخارجية الصينية محافظة على نفس الأهداف، و الوسائل و الأدوات لتنفيذها، في جو من الرزانة و التثبت و هدوء رد الفعل، كما جاء في وثيقة" جيانغ زيمين" حول أهداف السياسة الخارجية الصينية.
قائـمة المـراجع:
أ-العـربيـة:
*الكتـب:
1-جوزيف. س. ناي. مفارقة القوة الأمريكية. ترجمة: محمد توفيق البجيرمي. الطبعة الأولى، مكتبة العبيكان، الرياض، 2003
2- دانييل بورشتاين، أرنيه دي كيزا. التنين لأكبر: الصين في القرن لحادي و العشرين. ترجمة: شوقي جلال، الطبعة الأولى. سلسلة عالم المعرفة، رقم 271، المجلس الوطـني للثـقافة و الفـنون و الآداب، الكويت، 2001.
3-كاظم هاشم نعمة. سياسة الكتل في آسيا. الطبعة الأولى، أكاديمية الدراسات العليا و البحوث الاقتصادية، طرابلس، 1997.
4-محمد السيد سليم، نيفين مسعد. العلاقة بين الديمقراطية و التنمية في آسيا. الطبعة الأولى، مركز الدراسات الآسيوية، جامعة القاهرة، مصر، 1997.
5-محمد السيد سليم. آسيا و التحولات العالمية. مركز الدراسات الآسيوية، القاهرة، 1998.
6-ــــــــ. تحليل السياسة الخارجية. الطبعة الثانية، دار الجيل، بيروت، 2001.
7-محمود عبد الفضيل. العرب و التجربة الآسيوية: الدروس المستفادة. الطبعة الأولى، مركز دراسات ا لوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1999.
8-نورهان الشيخ: صناعة القرار في روسيا و العلاقات العربية الروسية . الطبعة الأولى، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1999.
9-علا عبد العزيز(محرر). الحركات الإسلامية في آسيا. الطبعة الأولى، مركز الدراسات الآسياوية، القاهرة، 1998.
10-وليد عبد الحي و آخزون. آفاق التحولات الدولية المعاصرة. الطبعة الأولى، دار الشـروق للنـشر و التوزيع، عمان، 2002.
*الدوريات و المجلات:
1-بريس هارلاند. " من أجل صين قوية". السياسة الدولية: عدد 107، 1994
2- جمال مظلوم. " التعاون الروسي الصيني في إطار منظمة شنغهاي". السياسة الدولية: عدد 164، أفريل 2006، السنة الثانية و الأربعون 2006.
3-سونج بوم آهن. " الصين كرقم واحد". الثفافة العالمية: عدد 114، سبتمبر- أكتوبر 2002.
4-عدنان الهياجنة. " الح
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام