المقـــــدمـــــة:
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على خير خلق الله و أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم. أما بعد:
سأتناول في هذا البحث الدور الخطير الذي لعبه الجاسوس ليون روش تحت قناع الإسلام في ملحمة الكفاح الجزائري. إن من المعروف أن الحملات الاستعمارية الكبرى باتجاه العالم الإسلامي كانت تسبقها حملات مركزة للجوسسة للتعرف على الأرضية التي سيتم استعمارها, وكان عادةً يقوم بالمهمة مجند عسكري لديه خبرة واسعة بالأرضية التي سيتم استعمارها, وأكبر مثال على هذا الجاسوس "بوتان Botin" الذي أرسله نابليون بونابرت, والذي قام بدوره بتقديم دراسة دقيقة جدا عن الجزائر والتي على أساسها تم احتلال الجزائر. لكن بعد الغزو العسكري سرعان ما اكتشف المستعمرون أن هناك مساحات كبيرة لم يتمكنوا من غزوها. فاحتلال الشعوب يقتضي التعرف بدقة على جغرافيتهم النفسية وخريطة عقولهم. وهكذا بدأت المرحلة الثانية من حركة الجوسسة الاستعمارية وذلك بإرسال رجال ونساء إلى الشعوب حتى يتغلغلوا وينفذوا إلى أعماق النسيج الاجتماعي ويقدموا التقارير الدقيقة والوافية عن تجربتهم في الداخل. وستظل أسماء مثل ليون روش بارزة في مسيرة حافلة لهؤلاء الذين اخترقنا وتغلغلوا إلى أعماق المجتمع, فلم تكن التقارير العسكرية والأمنية كافية للسيطرة على هذه المجتمعات بل كان من الواجب النفاذ بعمق في ألياف الحياة الاجتماعية والدينية والتجوال في دروبها والدخول إلى عمق أعماقها.
ليون روش جاسوس ندبته الحكومة الفرنسية في بداية غزوها للجزائر ليكون جاسوسا على الأمير عبد القادر حامل لواء المقاومة والجهاد ضدها, وأوعزت إليه أن يتظاهر عنده بالإسلام, وأن يتوصل أن يكون موضع ثقته ومحل أمانته. ففعل ذلك ونجح, وأقام مع الأمير عبد القادر ما يقارب الثلاث سنوات, إذ كان يبعث بكل تفاصيل دولة الأمير إلى حكومته الفرنسية, ولم يكتفي بهذا فقط بل كان السبب في نشب الفتن بين الأمير والقبائل الأخرى, فكان هدف إضعاف قوة المسلمين وتشتيتها من حول الأمير عبد القادر. وعلى ضوء هذا الموضوع تتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية: ما هو الهدف الحقيقي وراء تعلم ليون روش اللغة العربية واعتناقه للإسلام؟ وفيما تتمثل الأدوار الخطيرة التي مثلها إثر تقربه للأمير عبد القادر؟ وهل لتلك الأدوار تداعيات على جيش الأمير عبد القادر؟
هذه الأسئلة وأخرى سأحاول الإجابة عنها من خلال البحث. ودافعي لاختيار هذا الموضوع هو إبراز تلك الأعمال الاستعمارية الهدامة والتخريبية في الجزائر والتي ارتبطت بجواسيس استغلوا الإسلام ليخترقوا به عقولهم. والصعوبات التي واجهتني في إنجاز هذا البحث ندرة المصادر والمراجع بالإضافة إلى صعوبة ترجمة بعض المصادر الأجنبية. ولدراسة موضوع البحث اعتمدت على الخطة التالية:
خــطة البــــــحث :
المـــــقدمـــــة
المبـــحث الأول: ليون روش بين مسقط رأسه والجزائر(1809م-1837م)
o المطلب الأول: تفاصيل عن نشأته ودخوله الجزائر إلى جانب أبيه
o المطلب الثاني: تحمسه لتعلم اللغة العربية
o المطلب الثالث: دوره داخل الجيش الأفريقي
المبـــحث الثاني: دور روش الخطيـر داخـل جيـش الأمير (1837م-1839م)
o المطلب الأول: إلتحاقه بالأمير تحت قناع الإسلام بهدف الجوسسة
o المطلب الثاني: أبرز مواقفه الخطيرة داخل جيش الأمير
o المطلب الثالث: سقوط قناع الجاسوس ليون روش وهروبه
المبـــحث الثالث: روش في الجيـش الفرنسـي يطارد الأمير(1839م-1844م)
o المطلب الأول: بيجو يكلفه بمهمة سرية لتشتيت المسلمين
o المطلب الثاني: مساندة و استبشار التيجاني لمهمة روش
o المطلب الثالث: مطاردة روش للأمير والضغط عليه
الـــــخاتــــمــــة
المبـــحث الأول: ليـون روش بيـن مسقـط رأسـه والجـزائـر(1809م-1837م)
المطلب الأول: تفـاصيـل عـن نشـأتـه ودخـولـه الجـزائـر إلـى جـانب أبيـه
ولد ليون روش بفرنسا بمدينة "غرونوبل Grenoble" في يوم 27 سبتمبر 1809م, وتربى عند خالته السيدة ليون شامبانو بعد وفاة أمه, بدأ مزاولة دراسته الثانوية في ثانوية "غرونوبل Grenoble" وأكملها في ثانوية "تورنو Tournon", أين سعفه الحظ لينال فيها شهادة البكالوريا وذلك سنة 1828, وبعدها أكمل دراسته في تخصص الحقوق لمدة ستة أشهر في جامعة "غرونوبل Grenoble", إلا أن طموحاته الواسعة وحبه للمغامرة لم يرضى أن يكون حبيس الدراسة, فانقطع عنها, ورحل إلى "مرسيليا Marseille", بعد أن أرسله أبوه للعمل هناك مع تاجر يعمل بين فرنسا وشرق أوروبا وهو صديق أبوه. كان قد زار العديد من دول جنوب شرق أوروبا وكان عمره آنذاك لا يتعدى21, وفي كتابه "ثلاث وثلاثون سنة في الإسلام", يحكي مغامراته لهذه الدول وخاصة ايطاليا .
كان أبوه "روش ألفونس Roches Alphonse", ملحقا بخدمات العتاد العسكري في الجزائر منذ الحملة الفرنسية في شهر جويلية 1830م. واهتم بالعمل الفلاحي في ضواحي الجزائر, وكون مزرعة في سهل متيجة. ونظرا لتعدد مهامه, كتب إلى ابنه ليون يطلب منه الحضور إلى جانبه ليساعده في الفلاحة بعد أن غاب عنه مدة أربع سنوات . لبى ليون روش رغبة أبيه للحضور بجانبه, رغم حبه القوي نحو أوروبا عامة, ونحو مسقط رأسه فرنسا خاصة. ففي يوم 18جوان من عام 1832م, قرر مغادر مدينة "مرسيليا Marseille", فانطلق نحو الجزائر على متن باخرة فرنسية تحت قيادة الضابطان "ماريون Marion" و "لوجراندLegrand ", بعد رحلة دامت 12 يوم وصل إلى مدينة الجزائر وبالتحديد يوم 30 جوان 1832م, فيصف سعادته لحظة دخوله للجزائر, ولحظة لقاء أبيه الذي لم يراه مدة أربع سنوات, إذ يقول لقد تركني مراهقا, وإذا به يجدني رجلا بشواربه ولحيته) .
استقر ليون في منزل أبيه الذي كان في منطقة ابراهيم رايس , التي تبعد تقريبا بستة كيلومترات على مدينة الجزائر, فكان منماوالهم وسط الأهالي الجزائريين وبقايا الأتراك والحضر, وكانت مزرعتهم تتسع إلى 200 هكتار يقوم بخدمتها بعض الأهالي الجزائريين. ولكي يساعد ليون والده في خدمة المزرعة, كان لابد عليه أن يتعلم اللغة العربية, لكي يسهل عليه الاتصال بالأهالي القائمين على خدمت المزرعة كأجراء. هذه نبذة عن ليون روش وعن عائلته, ونشأته, وعن دخوله لمدينة الجزائر, فتقريبا تلكم هي بدايته في الجزائر. إن اختلاطه مع الأهالي الجزائريين كان من بين الأسباب التي دفعته إلى تعلم اللغة العربية, وهذا يعني أن هناك أسباب أخرى, في الحقيقة هم الدافع الرئيسي الذين دفعوا بروش إلى تعلم لغتنا, مما فتحت له باب الرزق حسب قوله, من خلال ممارسته لمهمة الجوسسة والتي كان لها دور للأسف فعال في تشتيت قوة المسلمين وتدميرهم.
المطلب الثاني: تحـمســه لتــعلـم اللـغـة العــربيــــة
لم يتأقلم ليون روش مع البيئة الجزائرية في ضواحي متيجة, إلا بعد مرور قرابة نصف سنة, إذ تعرف خلالها على إحدى الحضريات تدعى "نفيسة", يقول روش أنها أرملة وكيل الحرج (وزير البحرية), الذي توفي في معركة "أسطوالي" عند احتلال الفرنسيين للجزائر, فهو وكيل الحرج ما قبل الأخير لدى دايات الجزائر. كانت "ماما نفيسة" كما يسميها روش, تملك المقاطعة المجاورة لمقاطعة أبيه, وكان عمرها حوالي ستين سنة, وكانت تتكلم لغة (السابير Sabir) , ويقول روش أنها كانت تربطها علاقة حب قديمة مع أحد الأوروبيين, يقول روش أنها أحسنت استقباله, وصار يزورها من حين لآخر. كانت "نفيسة" تحتضن ابنة (وكيل الحرج), الذي خلف زوجها من امرأة جورجية, واسمها "خديجة", وكانت تحسن القراءة والكتابة باللغة العربية. فتعرف عليها روش وأحبها, وكانت تجري بينهما لقاءات غماوالية باركتها العجوز نفيسة . ولكن "خديجة" كانت تجهل اللغة الفرنسية, ونفس الشيء مع ليون روش الذي كان لا يعرف اللغة العربية, لذلك بدأت تنمو في داخله غريزة تعلم اللغة العربية, لتمكنه من مراسلة عشيقته "خديجة".
وحسب ليون روش, فقد اشتدت رغبته أكثر في تعلم العربية عندما تعرف على رئيس مجلس قضاء الجزائر آنذاك, فدعاه هذا الأخير إلى تناول وجبة الغذاء معه, فلبى ليون طلبه. وبعد ذلك خرج ليون روش من عنده وهو في أشد التحمس لتعلم العربية لهدفين أساسيين بالنسبة له, لكنهما أهداف ظاهرية تخفي في طياتها الهدف الحقيقي الغير مباشر والخطير جدا. فالهدف الأول بالنسبة له هو التمكن من مساعدة أبيه في الاتصال مع أجرائه في المزرعة (الأهالي). والهدف الثاني التحاور مع عشيقته خديجة. ولهذا السبب دلته العجوز نفيسة على أستاذ ليتمكن بواسطته تعلم اللغة العربية, وهو أستاذ مسلم جزائري الدار, أندلسي الأصل, كان صديقا قديما لزوجها, وزير البحرية قبل وفاته. واسمه "عبد الرزاق بن بسيط" . ورغم أن الأستاذ لا يعرف اللغة الفرنسية, وليون روش كان مازال يجهل العربية وقواعدها, لكن استطاع هذا الأخير, في حوالي مدة ثمانية أشهر, حسب قوله, أن يتكلم ويتحاور مع أستاذه باللغة العربية. فأحبه الأستاذ عبد الرزاق لفطنته وسرعة ذكائه. هذا ولم يكتف ليون روش بدروس أستاذه فقط, بل راح يمرن لسانه على التكلم بالعربية مع الأهالي الجزائريين في المقاهي الشعبية, وكان حتى يحضر جلسات قضاء المسلمين, وكان أيضا يخرج مع الفلاحين أجراء أبيه إلى الصيد ويتحاور معهم باللغة العربية . فكل هذه الطرق جعلت لسان روش ينطلق بسرعة, وصار يتكلم لغة الأهالي ويفهمها جيدا مما جعلته يربط علاقات قوية مع الأهالي .
لقد سعى ليون روش جاهدا بكل الوسائل لأن يتعلم اللغة العربية, فقد أدرك أنها ستفتح له أبواب لم يكن يتوقعها حتى, إذ بفضلها –كما يزعم- استطاع أن يدخل بين المسلمين ويفتت شملهم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (( من تعلم لغة قوم, أمن شرهم)).
المطلب الثالث: دوره فـي الجـــيـش الأفــــريـــقي
رغم أن اتصالات روش الأولى كانت مع الأهالي, إلا أنه كانت لديه اتصالات بالأوربيين, فيذكر أنه قضى كل المدة الواقعة مابين شهر نوفمبر 1832م, وشهر أوت 1833م في الخروج إلى الصيد مع عدد من الضباط الفرنسيين المنتمين إلى فرقة " قناصي أفريقيا Chasseurs d’Afrique" كان قد تعرف عليهم بواسطة السيدين "ماريون Marion" و "لوجراندLegrand ". وازدادت اتصالاته بالفرنسيين أكثر في منتصف 1833م, إذ قدمه أبوه إلى "الدوق دي روفيجو Doc De Rovigo", الحاكم العام للجزائر آنذاك, والسيد "جانتي Genty" مسؤول المصالح المدنية, والسيد "كوتان Cottin" رئيس بلدية الجزائر . وصدف هذا الحين إنشأ "دي روفيقوDe Rovigo " هيئة الحرس الوطني فعين ليون روش برتبة ملازم في فرقة الفرسان الخيالة, وكانت هذه الفرقة ترافق الجنرال في الحملات القصيرة التي يقودها في منطقة المتيجة.
وفي نفس السنة قدمت "اللجنة الأفريقية الأولى" إلى الجزائر لتبحث أحوال الجزائر وتقدم تقريرا للحكومة الفرنسية, فتلقى على إثرها "روش ألفونس Roches Alphonse"-والد ليون- زيارة بعض أعضائها وعلى رأسهم السيدان "بيسكاتوري Piscatory" و "لورانس Laurence" فكان هذا الأخير مكلفا بتنظيم شؤون العدالة. فأجري استقبال اللجنة في بيت ألفونس روش بإبراهيم رايس, فحضره بعض الجزائريين, وبما أن المناقشة كانت تدور باللغة الفرنسية, فقد كلف ليون روش نفسه مهمة القيام بالترجمة بين أعضاء اللجنة والعرب الحاضرين, ونظرا لطلاقة لسانه, فقد اعتقد أعضاء اللجنة أنه قدم من المشرق . ففي تلك الفترة قلما نجد مترجمين يحسنون اللغة العربية بلسان الجزائريين, مما ساعد على تعين ليون روش ترجمانا محلفا للجنة الأفريقية, من طرف السيد لورانس. مع العلم أن القانون الفرنسي آنذاك لا يعترف بأية اتفاقية أو تعاهد مع الأهالي بدون حضور ترجمان محلف.
من هنا بدأ يبرز ويتضح دور ليون روش, فمهمته الأولى كانت تقتضي شرح مصطلحات الملكية في الإسلام, وتفسير الشروط المقترحة من الطرفين, غير أن تعلمه من اللغة العربية لم يكن كافيا لأداء هذه المهمة على وجهها الكامل, فكثف جهوده في تعلمها وإتقان مصطلحاتها, وصار يقضي الليالي الطوال في فك ألغاز الأسماء العربية القديمة والمصطلحات الاقتصادية العقارية وغيرها, وذلك بمساعدة أستاذه عبد الرزاق الذي سهل له تناول المفردات اللغوية المتعلقة بعلم القانون والخصومات في الإسلام . ومن هنا يجدر الملاحظة بأن ليون روش لم يكن جديا في تعلم اللغة العربية ولا حريصا على النطق بها ليغاماوال عشيقته كما ذكر سابقا, إلا بعدما عرف فوائدها المختلفة, إذ فتحت له باب رزق لم يخطر على بله من قبل. وأغلب الظن أنه كان يدرك جيدا مدى حاجة بلاده إلى مترجمين قادرين وأكفاء على أن يكونوا همزة وصل بين الفرنسيين والأهالي. فحرص على إبراز شخصيته أمام عضوي اللجنة الأفريقية السابقي الذكر, مما لعب دورا كبيرا وفعالا في الجيش الأفريقي, إذ كان الجيش الأفريقي آنذاك يضم أربعة مترجمين لا غير. ولما أحضرت فرنسا قنصلها في طنجة, السيد "دي لابورت" ليشغل منصب المترجم الرئيسي الأعلى في الجيش الأفريقي, ويعطي دروسا للمترجمين ويراقب تقدمهم ورفع مستواهم, لاحظ السيد "دي لابورت" أن أغلبية المترجمين جهلة لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. وللضرورة الماسة والملحة, قد أدتا إلى تعيين ليون روش في منصب مترجم رئيسي محلف في الجيش الأفريقي من طرف المارشال كلوزيل نفسه سنة 1835م, وذلك لكونه ضابطا في فرقة الحرس الوطني وإتقانه للغة العربية أحسن من المترجمين الآخرين .
فهذه المناصب التي نالها روش في الجيش الأفريقي نتيجة للخدمة وللدور الذي كان يلعبه فيه. وكدا في سنة 1836م اصطحب روش المارشال كلوزيل في حملته على المدية بصفته ترجمانا عسكريا محلفا . وما أن بدأ المارشال يتاخم ثنية موزاية حتى باغتته قوات مصطفى بومزراق, فتصدى لهم النقيب "جاستي Gastu", رئيس فرقة "الصبايحية Spahis", فتغلب عليه العرب وهزموا جنوده, وسقط "جاستي Gastu" جريحا بين صفوف المقاومين, فاغتاض المارشال من هذا الوضع وأمر ضباطه السبعة عشر الذين يكونون موكبه, بالهجوم عليهم وفك النقيب "جاستي Gastu" من قبضة سيوفهم, وكان روش, أول من وصل إلى "جاستي Gastu". فوجده ممدودا على الأرض وهو دامي لأن رصاصة قد اخترقت خديه فكسرت فكه, أردفه روش على حصانه ورجع راكضا نحو المارشال, فشكره هذا الأخير ورفع من شأنه .
أمر المارشال كلوزيل ليون روش أن يصطحب الجنرال "ديمشال Des Michels" إلى مدينة المدية كترجمان عسكري محلف. فامتثل لأوامره, ودخلوا المدية ولم يباشروا أية معركة ضد الأهالي,فالتقى روش بأحد أصدقائه الجزائريين, وكان قد عرفه في الجزائر عند محمد بن عمر باشا, وكان يدعى سيدي محمد قائد البويرة, فدعاه هذا الأخير لتناول العشاء معه. ولما استأذن روش الجنرال في ذلك, وافقه شريطة اغتنام الفرصة لجمع المعلومات حول محمد بن حسين الذي رشحه الجنرال بايا مواليا لفرنسا على المدية, خاصة وأن سيدي محمد قائد البويرة كان نائبا لهذا الباي ولما حضر محمد بن حسين في بيت قائد البويرة, تحدثا في شأن تعيينه على المدية, وكان ذلك بمحضر ليون روش.
ولما عاد الجاسوس ليون روش إلى الجنرال "ديمشال Des Michels" أخبره أن فكرة تنصيب محمد بن حسين بايا على المدية لا تخدم مصالح فرنسا, ولا يتغير بمقتضاها الوضع السائد في هذا الإقليم بل سيزيد الوضع إلى الأسوأ لأن الأهالي كلهم ساخطون عليه, و ستنجم عن هذا الإجراء أتعاب كثيرة للباي نفسه, كما سيسبب ذلك مخاطر للكراغلة حلفاء فرنسا لحمايته, حتى أن الجنرال نفسه أحس بهذا الشعور .
ومن هنا يثبت لدينا أن ليون روش كان قد مارس الجوسسة قبل التحاقه بجيش الأمير عبد القادر وبالتحديد في شهر نوفمبر 1837م.
المبـــحث الثاني: دور روش الخـطيـــر داخـــل جـيـــش الأمـيــر (1837م-1839م)
المطلب الأول: إلتحـــاقه بالأميـر عبـد القـادر تحــت قنــاع الإسـلام بهـدف الجـوسـســة
كان على السلطات الفرنسية أن تعمل على إقامة السلم في غرب الجزائر ووسطها بعد سبع سنوات من الحرب الضارية ضد الأمير عبد القادر وتركز جهودها, وتكثف قواتها العسكرية في الشرق الجزائري لمحو عار هزيمة الحملة الأولى على قسنطينة. ومما أكد حتمية إقامة هذا السلم, والرغبة الملحة فيه, هو فشل القوات الفرنسية في التوغل داخل البلاد, وزيادة الخسائر المادية والبشرية, واضطراب الحكومة الفرنسية وتخوفها من تصاعد الأزمة داخل مجلس النواب. لذا شرع كبار العسكريين في إعداد حملة ثانية على قسنطينة.
فقررت الحكومة الفرنسية إرسال الجنرال "بيجو Peugeot" إلى الجزائر للتفاوض مع الأمير عبد القادر وعرض شروط السلم عليه, وخولت له كل الصلاحيات لتحقيق ذلك. وكان الأمير هو الآخر محتاجا إلى فترة هدنة لإخماد الفتن الداخلية وجمع كلمة المسلمين وتنظيم شؤون دولته العسكرية والإدارية والمالية, وإقامة علاقته الخارجية لجلب الأسلحة والذخيرة. فبدأت المفاوضات في أوائل سنة 1837م, وعقدت في الأخير اتفاقية سلم بين الأمير عبد القادر والجنرال "بيجو Peugeot" نيابة عن حكومته في 30 ماي 1837م. وعرفت باسم " معاهدة تافنا " , وتضم خمسة عشر بندا كان جلها لصالح الأمير. ومن بين بنودها, البند الرابع الذي ينص على السماح للمسلمين بالعيش أينما أرادوا, ولهم الحرية المطلقة في الانتقال من دولة الأمير إلى الأماكن التي يحتلها الفرنسيون, أو من هذه الأخيرة إلى العيش تحت سلطة الأمير .
وبمقتضى البند الرابع لـ " معاهدة التافنا " قرر ليون روش في هذا الحين الالتحاق بجيش الأمير عبد القادر, فبادر يبرر موقفه على عزمه في اعتناق الدين الإسلامي. غادر ليون روش مقر أبيه بإبراهيم رايس واستقر عند قبيلة "بني موسى" في منطقة متيجة, إذ كانت تربطهم به علاقة سابقة إذ كان يخرج معهم إلى الصيد خلال السنوات الماضية كما سبق الذكر.
ويقول روش أنه قرر الالتحاق بالأمير بهدف الوصول إلى عشيقته خديجة التي علم أن زوجها استقر بها في مدينة "مليانة" الواقعة تحت حكم الأمير عبد القادر . ولكن إذا كان فعلا يريد الاتصال بخليلته كما زعم, فلماذا لم يقتصر الطريق ويلتحق بصديقه عمر باشا وأخيه محمد اللذان يقيمان في مليانة؟؟ وينظم من هناك اتصالاته كما يشاء؟؟, ويكون بذلك قد تجنب كل المخاطر والصعاب والمخاطرة بنفسه في الالتحاق بالأمير. أما إذا صدفنا قول روش من أنه ذاهب إلى جانب الأمير لمساعدته في تنوير المسلمين وكسب ولاء ضعاف العقول منهم إلى فرنسا والتباهي بالإنسانية وسعة المعرفة وسرعة الذكاء, وهو دور كان قد قام به أيضا الدكتور "وارنيWarnier " في مدينة معسكر لما كان يعالج مرضى المسلمين, لا بهدف مداواتهم وإنما لكسب عاطفتهم لصالح الفرنسيين, وأيضا بخلق الشقاق بينهم وتشتيت صفوفهم.
بدأ روش ينظم اتصالاته مع بعض الفرنسيين والجزائريين بهدف جمع المعلومات الكافية حول أحوال الأمير عبد القادر فاتصل بالملازم الأول "فيرجي Verge", قائد فرقة "الصبايحية Spahis", في مدينة "بوفاريك". ورافقه إلى مدينة البليدة لحضور الحكم على بعض الجزائريين كانوا قد قتلوا أحد الجنود الفرنسيين. أظهر ليون روش إسلامه أمما الحاكم لجلب نظره, فاستضافه هذا الأخير عنده. فاغتنم روش هذه الفرصة للاتصال بمرابط المدينة, سيدي بلقاسم ابن سيدي الكبير, وأظهر له بصفته مسلما, تخوفه من رجال قبيلة "الحجوط" لأن يغتالوه كما فعلوا مع الجندي الفرنسي. فوثق به المرابط على حسن نيته, واستضافه في بيته. فالتقى هناك ببعض المسلمين كانوا في ضيافة سيدي بلقاسم, واستقبلوه بحفاوة لاعتقادهم أنه مسلم. وفي هذه الأثناء حضر رسول الأمير عبد القادر, وأخبره سيدي بلقاسم بأن الأمير يريد بسط نفوذه على القبائل المقيمة في الشرق الجزائري التي لم تخضع بعد لسلطانه. فتقدم روش حينئذ وأخبر سيدي بلقاسم أنه يريد الالتحاق بالأمير وبذل كل جهده لخدمته. فاستبشر المرابط بكلامه, ودعا له بالتوفيق وفرح به أشد الفرح لاعتقاده في أن الله قد هداه من الكفر إلى الإيمان. ففرح روش حينئذ واستبشر ببلوغ مراميه لأن التحاقه بالأمير عبد القادر يعتبر عملا هاما في خدمة فرنسا, فيكون بذلك قد بادر بمساهمة حسنة في تحقيق طموح بلاده. خاصة وأنه, حسب قوله, ما اعتنق الدين الإسلامي إلا ليدخل في وسط جيش الأمير ويقترب منه ليتعرف على أحواله ويجعل منه حليفا لفرنسا, ويؤدي في الأخير إلى استسلام الجزائريين لها .
وفي شهر نوفمبر 1837م, عاد ليون روش إلى أولاد سيدي موسى وحمل متاعه في طريقه إلى مليانة. وكان المرابط سيدي بلقاسم قد سلمه رسالة يطلب له فيها الأمان من مرابط "الحجوط". ففتحت له الطريق ووصل إلى مدينة مليانة حيث كان يقيم صديقه عمر باشا. فاستضافه هذا, وقدم له نصائح كثيرة عن كيفية سيرته وأوصاه بالحذر في تحركاته, والفطنة في سلوكه لكي لا يجلب شكوك المسلمين حوله. وقد فعل عمر باشا ذلك من أجل مساعدة روش للوصول إلى عشيقته, وهو يعرف جيدا أن روش تظاهر باعتناق الإسلام إلا من أجلها. وفي هذه الأثناء كان الخليفة محمد بن علال غائبا عن المدية, فاتصل روش بنائبه وكاتبه, قدور بن رويلة, وشرح له بأنه مسلم ويريد الالتحاق بالأمير عبد القادر ليقدم له خدماته. وأهدى له مصحفا. فاستبشر قدور بن رويلة بإسلامه ووعده أنه سيصطحبه هو بنفسه إلى معسكر الأمير, وسوف يطلب من الخليفة محمد بن علال أن يقدمه للأمير. بدأ روش حينئذ يتهيأ لملاقات الأمير. فتعلم كيفية الصلاة, وبعض تعاليم الإسلام, وذلك طيلة إقامته عند صديقه عمر باشا. ورافقه قدور بن رويلة فعلا إلى الأمير الذي سار على رأس جيش إلى الشرق وعسكر على ضفاف وادي نوغة حيث به ليون روش, وقد سأله خليفته محمد بن علال, بطلب من قدور بن رويلة, استقبال ليون روش كفرنسي اعتنق الإسلام ويريد الدخول في خدمته . فقبل الأمير الدعوة, واستقبل لأول مرة ليون روش وأجرى معه حوارا. فأخبره روش أنه اعتنق الدين الإسلامي بكل إخلاص, ويريد منه أن يسمح له بالدخول في خدمته. وقال له أن مسلمي الجزائر قد أطلقوا عليه اسم عمر. ففرح الأمير بإسلامه وطلب من قاضي معسكره أن يعلمه القرآن وتعاليم الدين الإسلامي وقال له أن المسلم الحقيقي لا يكتفي بقوله أنه أعتنق الإسلام, وإنما يجب أن يفهم ويعرف ما يجب أن يكون عليه المسلم المخلص الصادق في القول والعمل.
وهنا بدأ روش يرتب أمور عمله لأداء مهمته الحقيقية كجاسوس. وبدأ يأخذ حذره من أن يتقن عملا لصالح الأمير ويرتكب بذلك جريمة ضد بلاده, فما كان عليه إذن إلا أن شرع في جمع المعلومات ومراسلة الفرنسيين وتعريفهم بجميع أحوال الأمير العسكرية والسياسية وغيرها. وبعث أول رسالة له من معسكر الأمير في "واد نوغة" بتاريخ 19 ديسمبر 1837م, إلى أحد الفرنسيين, لم يذكر اسمه, وأشار إليه بعبارة (صديقي) استهلها بإعطاء وصف دقيق جدا جدا عن شخصية الأمير عبد القادر, ومناقبه ولباسه وأوصافه الجسمية والخلقية, والدينية, والثقافية وقال أنه رجل عادل يحترم تعاليم دينه, وأن المسلمون يخضعون له بسبب احترامه الشديد لتعاليم الإسلام, وسيره على نهج الخلفاء الراشدين .
ثم تطرق للحديث عن الحالة الاقتصادية والمالية والعسكرية. فقال أن موارد الأمير الاقتصادية منعدمة وأن حالته المالية سيئة وجيشه النظامي مفتك ومشتت وضعيف المعنويات, وأن سلطته جزئية ولم يعم نفوذه كل القبائل. فقد خرجت عليه قبائل الجنوب قبل عقد "معاهدة التافنا", ولم تعترف بسلطانه, ولم يبق في يده إلا بعض قبائل الإقليم الوهراني.
ومن الناحية السياسية, قال ليون روش أن الأمير عبد القادر لا يرى في معاهدة التافنا إلا فترة سلم تمكنه من تجهيز نفسه للدخول في الحرب من جديد. وإن نفوذه ازداد خلال الستة أشهر الأولى منها, من شهر جوان إلى شهر ديسمبر 1837م, وتوسع نفوذه وأصبحت سلطته معترفا بها من الحدود المغربية إلى حدود إقليم قسنطينة. وإن الأمير الآن قد شرع في جمع الضرائب والأموال لبناء أركان دولته .
وفيما يخص تنظيم الأمير الإداري, أخبر روش أنه قسم دولته إلى ثمانية إمارات وعين على كل واحدة خليفة له. وأعطى تفاصيل حول تقسيم كل إمارة وكيفية توزيع القبائل التابعة لها. كما فصل أيضا في رسالته إلى (صديقه) كيفية جباية الضرائب والزكاة و العشور. أما عن موقف المسلمين من استعمار فرنسا للمدن الساحلية, فقال أن رأيهم مجمع على أنها تحتل الساحل بصفة مؤقتة فقط, و أنه سيتم جمع المال لشراء كل المدن, ويرجع الفرنسيون إلى بلادهم, وتسود سلطة الأمير عندئذ كل بلاد (أفريقيا).
إن هذه الرسالة تتبث النوايا السيئة لهذا الجاسوس. واصل روش مهمته كجاسوس وكشف للفرنسيين عن أسرار الأمير العسكرية والإستراتيجية. وقال أن هدف الأمير الأساسي من هذه الجولة هو بسط نفوذه على قبائل شرق البلاد, ومن ثم جمع الضرائب وتقوية ميزانية دولته. ثم شرح (لصديقه) كيفية محاربة الأمير للقبائل في وادي الزيتون انطلاقا من معسكره في وادي نوغة, وكيف انتصر عليهم في الأخير بفضل دقة أوامره وتنظيم جيشه. وأعرب له في الأخير عن رأيه في معاهدة التافنا, وقال أنه لا يجب عقد أي سلم مع هؤلاء العرب المتبربرين .
وأكثر من ذلك فقد ظهر روش على حقيقة أمره كجاسوس عندما راسل النقيب "دوماس", قنصل فرنسا في معسكر يقول له أنه ما التحق بالأمير إلا خدمة لبلاده وأنه سيفارقه عندما يستأنف الحرب ضد فرنسا وكان ذلك لما أوفده الأمير إلى مدينة تلمسان ليتعلم القرآن وتعاليم الدين الإسلامي.
المطلب الثاني: أبـــــرز مـــواقفــــــه الخطيـــــرة داخــــــل جيـــــش الأميــــر عبـــد القـــــــادر
لقد أوفد الأمير عبد القادر روش إلى تلمسان ليتعلم القرآن وتعاليم الدين الإسلامي, فقد كلف بمن يقرئه القرآن ويعلمه الشريعة والعقائد الدينية واللغة والكتابة العربية , إذ يقول أحد أصدقاء روش تعرف عليه عند التحاقه بتلمسان وهو "يوهان كارابيرنت" في كتابه "الأمير عبد القادر": عندما صعدنا ذات يوم نتنزه في سطح منزلنا, الذي كان يشرف على المدينة كلها, لمحنا أربعة فرسان غرباء يقتربون من القلعة, وكان أحدهم يرتدي ثيابا أحسن من ثياب الآخرين, وكان أحمر الوجه, يقود حصانه على غير الطريقة العربية, أي لم يكن يستعمل حركة فخذيه في ذلك. فصاح مصطفى: هذا أوروبي!! فمضينا بسرعة إلى مقهى القلعة, الذي نماوال فيه القادمون. لقد كان فعلا شابا فرنسيا دخل الإسلام وجاء يعرض خدماته على الأمير, وكان الأمير قد أرسله إلى تلمسان ليحسن معارفه في الدين الإسلامي و اللغة العربية وسرعان ما تعارفنا, وسمعت من فمه ما يلي: يدعى ليون روش وكان الابن الوحيد لأحد الملاك المعتبرين في مدينة الجزائر .
وأثناء إقامته في مدينة تلمسان, شك فيه المسلمون واعتبروه جاسوسا. فوضع عليه الخليفة البوحميدي عيونه. ولما أحس روش بذلك حاول الفرار إلى مدينة وهران, وكان كلما سألته القبائل عن سبب رحلته هذه يذكر لهم أنه ذاهب في مهمة إلى وهران بأمر من الخليفة البوحميدي. ويواصل ركوبه وأثناء هروبه التقى في طريقه برجل يركب حصانه ويسير في نفس الاتجاه. فسارا معا واقتربا من المنطقة الفرنسية إلى أن أصبحا على بعد ساعات منها, وهناك دعاه العربي إلى الركوب معه إلى خيمة آغا بني عامر لتناول الطعام هناك أو للمبيت. وكان على عمر عدم رفض الدعوة لأنه سيدفع ذلك إلى انكشاف أمره, بالإضافة إلى تعب حصانه, وكدا عدم معرفته للطريق ولا المسافة. لذلك قرر السير مع مرافقه إلى الخيام. فاستقبلهما الآغا بحفاوة كبيرة, الذي كانت له معرفة سابقة بعمر, لأنه كان قد رآه أكثر من مرة عند الخليفة في تلمسان. وعندما أراد في الصباح مواصلة السفر, طلب منه الآغا بأدب أن يذكر له الأسباب, التي استلزمت سفره إلى وهران, وما أن قال له إنه ذاهب إليها لتسوية بعض شؤون الخليفة, حتى طلب منه أن يقدم له الرسائل, التي حملها معه. ولما لم يستطع عمر إظهار أية رسالة (وقد كان من السهل عليه أن يكتب مثل هذه الرسائل, لأنه كان يحسن العربية, ولكننا لم نكن نفعل ذلك خشية أن يكون ثمة شهادة ثابتة تلصق بنا, في حالة تعرضنا لتهمة محاولة الفرار), فقد أعرب له الآغا عن أسفه بأنه لا يستطيع أن يسمح له بمواصلة السفر وأن عليه أن يرافقه إلى تلمسان ليتصل بالخليفة البوحميدي ويأخذ منه وثيقة السفر الضرورية. من الممكن أن نتصور المشاعر, التي غامرت روش المسكين خلال رجوعه إلى تلمسان, ومع ذلك لم يفقد حضور الذهن, ودافع عن نفسه أمام الخليفة (وقد ساعدته معرفته للعربية على ذلك), فلم ينتظر توجيه اللوم إليه, وإنما اتخذ موقف المهاجم, وراح يعاتب الخليفة, فاندهش الخليفة لذلك, وأخذ يعتذر له, وصرفه في سهولة ويسر, ولكنه حذره من العودة إلى مثل ذلك. كان عمر قد اشتكى من معاملته له قائلا إنه كان قد أتى إلى الخليفة, يعمر قلبه الحب والرغبة في الإسلام, ولم يأت إليه متسولا, وإنما أتاه حاملا للمال معه, فكان جزاؤه عدم الثقة فيه وإثارة الشبهات حوله, وأنه قد تبرع بأكثر من 5000 فرنك, ولم يقدم له حتى الآن شكره على ذلك, فالسلطان كان قد أرسله إلى هنا لإتقان العربية إتقانا كاملا, ولكن الخليفة لم يهتم بذلك, وعندما حضر العيد الكبير, الذي يعيد فيه المسلم على المسلم, ويبرهن له على مودته ومصالحته له, ويتلقى فيه حتى المتسول هدية حب من شخص ما, بقي هو وحده كالمقطوع وكأنه لا يزال مسيحيا. وقد أسخطه كل ذلك, وليس له الآن رغبة في البقاء هنا, وإنما هو يطلب منه أن يقدم له وثيقة سفر ليتوجه إلى الأمير عبد القادر ويشكو إليه هذه المعاملة, التي لم تكن تليق بمكانته. اعتذر إليه الخليفة في أدب, وقال له إنه لن يمنع عنه الحصول على وثيقة سفر إلى وهران. وإذا هو أراد أن يذهب إلى السلطان, فإن له أن يفعل ذلك, وسيهتم هو نفسه, أي الخليفة, بتوفير الأمن له . بعدما كان قد قرر الخليفة البوحميدي إعدامه, لكن روش بادره تحت قناع الإسلام, بأنه مسلم لا يجوز قتله إلا بأمر من السلطان-الأمير عبد القادر-, وأنه ما فر إلا لقساوة معاملة الخليفة له. فعفا عنه الخليفة وقرر ارساله إلى الأمير, خاصة وأنه رأى مجلسه كان في صالح روش. وكان روش قد بعث برسالته الثانية إلى صديقه في شهر فيفري 1838, فصل له فيها النظام الإداري والعرفي الذي كانت تسير عليه قبائل غرب البلاد. وشرح له ما, عرفه عن الأحوال الاجتماعية, والاقتصادية, والعسكرية, والثقافية, والدينية التي كان يمارسها الأهالي .
كان روش يعلم جيدا أن الدين الإسلامي يعدل بين الناس جميعا ولا يفرق بين سائد ومسود. فما إن وصل إلى مدينة المدية في أوائل شهر أفريل 1838, وحضر أمام الأمير حتى بكى له واشتكى من ظلم وجور الخليفة البوحميدي ورجاله, وسوء معاملتهم له وأنهم اعتبروه كافرا وليس مسلما أتى في خدمة الأمير لنصر الحق على الباطل وإظهار النور على الظلام. ولعب روش على (سذاجة), الأمير وقال له: ( هكذا يستقبل مسيحيا اعتنق الإسلام بإرادته؟) ثم بالغ في التضرع فصدقه الأمير ووعده أنه سوف لا يتركه يفارقه أبدا. واستطاع روش عندئذ أن يحقق هدفه ويبلغ مناه, ويقترب من الأمير ويطلع على جميع أسراره, خاصة بعد أن عينه الأمير كاتبا ومستشارا له, وزيادتا على هذا كله اتخذه رفيقا, وكلفه بمراقبة مسائل جيشه النظامي, وملابسه وأجوره-وهذا أكبر خطأ فعله الأمير, مما سيكون سبب فشل مقاومته-, وولاه مهمة تسجيل أسماء القبائل كلها وحصر أسماء شيوخها حتى يتمكن من جمع الضرائب بدقة.
ولما عاين المسلمون ما وصل إليه روش من مرتبة, آمنوا جانبه, وأصبح الأمر طبيعيا بالنسبة لهم خاصة بعدما قربه الأمير منه. فكثيرا ما أسلم الكفار في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأخلصوا الإيمان. وازدادت ثقتهم فيه وتيقنوا من إيمانه خاصة بعدما رفض الرجوع مع أبيه إلى الجزائر لما طلب منه هذا الأخير ذلك عند زيارته للأمير في منتصف شهر ماي 1838م, وكان الأمير قد ترك له حرية البقاء أو الذهاب. فاختار روش البقاء إلى جانب الأمير, فظن المسلمون أنه رفض العودة لكونه مسلما لا يريد الرجوع تحت حكم الكفار .
وصفا الجو حينذاك لروش وسهلت مهمته وتيسر له الأمر في جمع كل ما يحتاجه من معلومات, خاصة وأن كل المسلمين أصبحوا يبوحون له بكل أسرارهم ويعتبرونه ساعد الأمير الأيمن. وكان روش يحضر حتى مجالس الأمير السرية التي كان يعقدها مع كبار رجال دولته أمثال مصطفى بن التهامي وغيره. حرص الأمير على تعليم روش أمور دينه. فعكف هذا الأخير على دراسة اللغة العربية والتعمق فيها, وسجل معلومات كثيرة حول كيفية جلب الضرائب بمختلف أنواعها وكيفية توزيعها على القبائل. وكان الأمير يأخذه معه أينما ذهب وينفق عليه من بيت المسلمين بهدف تنويره بتعاليم الشريعة الإسلامية. ولكن كان ذلك عملا بدون مردود, ومجهودا في غير موضعه, لأنه كان يواجه عدوا في ثياب مسلم, والفائدة الوحيدة التي كان يجنيها الأمير من روش هي قراءة هذا الأخير للصحف الفرنسية وتلخيص ما جاء فيها للأمير باللغة العربية. ومن يدري هل كان فعلا يخبره بمضمونها الحقيقي أم كان يفتري عليه مكرا وخدعا .
خرج ليون روش مع الأمير عبد القادر في حملته على "عين ماضي" بتاريخ 12 جوان 1838م, وكان الأمير قد عزم على التوجه إلى الجنوب لإخضاع قبائل الصحراء وتنظيمها تحت سلطانه, بعدما جمع كلمة المسلمين في الشرق. كانت الطريقة التيجانية هي المسيطرة في أنحاء الصحراء, ومركزها "عين ماضي", وكان الأمير يعامل صاحبها, سيدي أحمد بن سالم التيجاني معاملة المرابطين. ولكن شاء القدر أن عثر الأمير على رسالة للتيجاني بعثها إلى أهل الأغواط يستنفرهم ضد الأمير, مع رسائل أخرى إلى الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول له فيها: (...أن أشغل الحاج عبد القادر من تلك الجهة البحرية وأنا أكفيك أمره من جهة البر...). ولما وصل الأمير عبد القادر على رأس جيشه إلى "دوار أولاد البيضة", وأتته قبائل الصحراء من كل فج وتجمعت حوله, أوفد عشرين فارسا على رأسهم ليون روش لإبلاغ التيجاني أن الأمير لا يريد من هذه الحملة إلا جمع كلمة المسلمين وإعدادهم للجهاد في سبيل الله والدين الإسلامي. ولكن التيجاني كان يرى في نفسه أنه أحق بحكم المسلمين من الأمير, فجمع قواته وتمركز في قصره بعين ماضي. ويقول روش أنه هو الذي طلب تلك المهمة من الأمير, وأنه أراد أن يبرهن له على صدق إيمانه .
والظاهر أن ليون روش قد قبل القيام بهذه المهمة لعلمه بولاء التيجاني للفرنسيين خاصة بعدما اطلع على الرسائل التي وجهها التيجاني إلى المارشال "فالي Valée" والتي وقعت في يد الأمير. ولذلك ألح روش على الأمير في إيفاده للتيجاني, وفي نيته أن هذا الأخير سوف لا يؤذيه خاصة إذا عرف أنه فرنسي. ومن ذلك يكون روش قد كسب ثقة الطرفين. وعوضا أن يؤدي روش مهمته الحقيقية في تحسين الوضع بين الأمير والتيجاني, عمل على تحريض هذا الأخير ضد الأمير. وقال له أن حصانة قصره هي قوة رهيبة في وجه الأمير وستكون له حاجزا صعب المنال. وفي نفس الوقت خوفه وحذره من مواقف الأمير الصلبة, وأنه سوف يحاصر المركز ولو لمدة عشر سنوات. ونستنتج من ذلك أنه بعث أملا كبيرا في نفس التيجاني الذي ظن فعلا أن حصنه يحميه من الهجومات الخارجية. ولم يذكر روش للتيجاني أن الأمير لا يريد الاستيلاء على مركزه وإنما هدفه الوحيد هو جمع كلمة المسلمين لاستئناف الجهاد ضد الكفار. ومن هنا يكون روش قد زاد النار حطبا, وبلغ بذلك هدفه الأسمى وهو إضعاف قوة المسلمين وتشتيت رأيهم.
بعد أن قوى روش عزيمة التيجاني على محاربة الأمير عاد إلى هذا الأخير وأخبره أن التيجاني متصلب في رأيه وأن له ثقة كبيرة في حصنه, وذكر له أنه جمع ما يكفيه لتموين رجاله لعدة سنوات.
باشر الأمير المعركة ضد التيجاني, وكان روش يعلم جيدا أن الأمير سوف ينتصر لا محالة ويتمكن من جمع كلمة المسلمين ضد فرنسا, فعمل على إضعاف قوة الأمير, وطلب منه أن يجعله على رأس الكراغلة لعلمه أن معظمهم يبغض الأمير. فلم يظهر لهم روش ذلك ولكنه عمل على تبذير الذخيرة وتركهم يطلقون الرصاص في غير موضعه بدل أن يراقب ذلك بكل دقة . ولم يكتف روش بهذه العملية التخريبية, بل تعداها إلى مراقبة الفارين الأجانب الذين أخلصوا العمل للأمير. فأمر أحد الفارين الفرنسيين, يدعى "ايزدور", بمراقبة الفار المجري الذي يقول أنه كان يحمل اسم حسن. وحتى لا يتركه يفعل ما يريد طلب من الأمير أن يلحقه بفرقة الكراغلة ليكون تحت مراقبته.
لولا الذخيرة التي وصلت إلى الأمير من وكلائه في المغرب وتلك التي أرسلها له المارشال "فالي" طبقا لنصوص معاهدة التافنا, لانهزم الأمير فعلا بسبب ضعفه قواته ونفاذ ذخيرته. ولم يتفطن الأمير لمخادعة روش, فعامله معاملة حسنة وارتفعت قيمته عنده أكثر من ذي قبل. ويقول روش أنه مرض في هذه الآونة وأن الأمير كان يرعاه رعاية الأم لطفلها. وبعدما تم استيلاؤه على مركز عين ماضي, منحه الأمير وسام "الريشة" اعترافا منه له بالمجهود الذي بذله خلال المعركة. وفي رسالته إلى المارشال "فالي", نوه الأمير بالدور الذي لعبه روش في هذه الحملة .
ومما يؤكد لنا مهمة ودور ليون روش الخطير كجاسوس فرنسي, اتصالاته مع النقيب "دوماس" في منتصف شهر ماي 1839م, إذ أخبره أن الأمير يهدف من وراء زيارته لقبائل شرق البلاد, إلى تفقد قواتها قبل استئناف الحرب من جديد ضد فرنسا, وأنه سوف يواصل رحلته نحو الشرق ويزور القبائل القاطنة على الحدود التونسية. وأن هذه الأخيرة كانت قد كاتبته تطلب حضوره عندها لمبايعته. أما عن موقف الأمير من المحافظة على السلم أخبر روش النقيب "دوماس" أن الأمير يريد السلم على الأقل لمدة قصيرة تمكنه من جمع الضرائب وتعويض خسائر حملة عين ماضي, وأن يتمكن الناس من جمع حصادهم, وتعطي مصانع الأسلحة ثمارها. ومن أجل ذلك, فإن السلم بالنسبة للأمير أمر ضروري يجب المحافظة عليه ما استطاع. وأما إذا أراد المارشال فالي شق الطريق ليربط بين مدينة الجزائر وقسنطينة, فأن الأمير سوف يعلن الحرب لا محالة. واستمر يقول أن, الأمير كاتب كلا من الملك لويس فيليب, ووزير البحرية, وأعضاء مجلس النواب الفرنسي, يطلب المحافظة على السلم وذلك لأن وكلاءه, ميلود بن عراش, وابن دران, وبوضربة, أكدوا له أن المارشال فالي مصمم على نقض المعاهدة بإدخاله على نصها بنود إضافية, وأكد روش للنقيب دوماس في آخر محادثته معه أنه سوف يبذل أقصى جهده في خدمة بلاده, ويعمل على رعاية مصالحها بكل الوسائل الممكنة. فنبهه دوماس إلى استغلال نفوذه على الأمير في أداء واجبه .
وفعلا فقد بدأ روش بالإطلاع على أماكن الأمير الإستراتيجية لتخريب مواقعها, ذلك أنه طلب من الأمير أن يمنحه مهمة تفتيش مصانع الأسلحة المتمركزة في مختلف المدن. وبلغ روش مراده, وقضى أشهر مارس, وأفريل, وماي , وجوان 1839م في تفتيش مصانع الأسلحة والذخيرة وكل المؤسسات الأساسية. وعمل على تحطيمها بدليل أنها لم تنتج شيئا يستحق الذكر منذ نشأتها. وأغلب الظن أنه عمل على تخريبها بمساعدة الفارين الفرنسيين الذين كانوا في خدمة الأمير, وهم المكلفون بإدارة هذه المصانع وتسير شؤونها. وكانت تربطهم به علاقة وثيقة حتى أنه تدخل لصالحهم لدى النقيب دوماس, فراسله يطلب منه أن يبلغ رسائل العمال الفرنسيين الموجودين في "تاقدامت" إلى أهلهم. وأكثر من ذلك وهو دليل قاطع, فلقد توقف عمال مصانع "تاقدامت" الفرنسيين عن العمل مباشرة بعد قرار مجلس الأمير لاستئناف الجهاد ضد العدو, (وكانوا ينتظرون روش بفارغ الصبر). ويقول روش أنه لما التقى بالأمير في شهر أكتوبر 1839م, في مدينة "تاقدامت" أخبره أنه تم إنشاء مصنع للأسلحة في تاقدامت, ويقول أيضا أنه وضع فيه بعض الأسلحة على أنها من إنتاجه, ولكن في الحقيقة حسب قوله أن المصنع كان لا ينتج شيئا ذا معنى وإنما وضع فيه الأسلحة لمخادعة الأمير فقط .
ولما أعلن الأمير الجهاد وبدأت التجهيزات, وكان الأمير في تاقدامت كما سبق الذكر, والتقى مع ليون روش, فسأله عن موقفه من استئناف الجهاد ضد العدو, فلم يملك روش نفسه حينئذ وأعلن له أنه لا يريد مقاتلة فرنسا الأم التي تحمي إخوانه. ولما أكد عليه الأمير أنه كمسلم يجب أن يعادي أعداء الله, انفجر روش في وجه الأمير وأعلنها له صراحة أنه لم يكن مسلما أبدا. فحاول الأمير تهدئته, لظنه أنه منفعل فقط. ثم أن الأمير ترك روش وشأنه, وربما إلى أن يفاتحه في الموضوع مرة أخرى. ولم يعط للموضوع أهمية كبيرة حتى أنه لم يخبر أحدا بما بدر من روش. وسافر الأمير في نفس الأسبوع إلى تلمسان لتنظيم شؤون دولته دون أن يترك أية أوامر تخص روش .
المطلب الثالث: سقـــــــــوط قنــــــــاع الجــــــــــاســـــــوس ليـــــــــون روش وهـــــــــروبــــــــه
قرر روش العودة إلى الجيش الفرنسي, وانتهز فرصة غياب الأمير, وأخذ كل ما يحتاجه وتوجه نحو مدينة وهران. وخادع المسلمين بقوله أن الأمير قد بعثه في مهمة إلى مدينة مليانة ليتفقد مصانع الأسلحة. وذلك ليتجنب متابعتهم له إذا علموا بحقيقة أمره. إن من بين الوثائق التي أقر روش أنه أخذها معه, خريطة جغرافية جزائرية, كان قد أحضرها ميلود بن عراش وجهاز بوصلة, وخاتمه بصفته كاتبا للأمير, وعددا من الرسائل استعملها في شكل برقيات ليخادع بها كل من يعترض طريقه . ولما وصل إلى منطقة معسكر وتلمسان أخبر اعترضه من الأهالي أنه ذاهب في مهمة إلى هاتين المدينتين بأمر من الأمير. فساعده المسلمون لذلك في معرفة المواقع, ولما دخل إقليم وهران التقى ببعض المسلمين, فاستوقفوه, فأظهر لهم بعض الرسائل عليها خاتمه, وقال لهم أنه يحملها إلى وكيل الأمير في وهران, وسلم لهم تذكرة باسمه أثبت فيها أقواله. واستطاع روش بعد ذلك أن يصل إلى مركز الجيش الفرنسي في "الكرمة" صحبة رفيقه "إيزدور". وانتقل من هناك إلى مقر حاكم إقليم وهران .
وهكذا يكون ليون روش قد التحق بجيش الأمير عبد القادر في فترة كانت فرنسا تجهز نفسها إلى حملة انتقام واحتلال ضد قسنطينة. فكان عليها أن تركز كل جهودها لقمع المقاومة الجزائرية في شرق البلاد. وقد فعلت واحتلت قسنطينة في 27 أكتوبر 1837م, وفي هذه الآونة بالذات إلتحق روش بالأمير عبد القادر ليتجسس عليه ويلعب على ذقون المسلمين باسم الإسلام. فانخدعوا له وأطلعوه على جميع أسرارهم ومصادر قوتهم. فألم بما فيه الكفاية وبلغ مراميه. ويا ليته اكتفى بذالك فقط, ولم يعمل على تخريب منشآت الأمير الصناعية والحربية التي كان المسلمون يضعون فيها أملهم ويتوقعون بواسطتها انتصارهم على العدو . وأهم نقطة اطلع عليها ليون روش الجاسوس هي مصدر قوة المسلمين ومنبع حيويتهم المتمثلة في تمسكهم بدينهم.
فلقد كان المسلمون في الجزائر لا يملكون الأسلحة الحديثة, ولا الذخيرة للمصانع, ولا أموالا طائلة على الأقل لشراء كل ما تحتاج إليه الحرب من تجهيزات. وإنما كان التمسك بالدين هو القلب النابض عند جميع المسلمين, غير أن نقطة ضعفهم كانت تمكن في اختلاف الطرق الدينية التي كانوا يتبعونها وعرف روش كل ذلك, واطلع على أدق أمور المسلمين وعاد إلى الحكام الفرنسيين في وقت كانت فرنسا في أشد الحاجة إلى مثل هذه الأخبار الدقيقة النادرة والتي كان محرما عليها معرفتها.
نستنتج أن ليون روش أفاد بلاده سواء كان قد التحق بالأمير عبد القادر من تلقاء نفسه أم كان ذلك بإيعاز من الضباط الفرنسيين. وعلى كل حال فلقد جازته فرنسا خير الجزاء, وقلدته رتبا هامة في جيشها, وخولته مناصب حكومية عالية. وكلفته بمهام أشد خطورة على المسلمين من التجسس عليهم.
المبـــحث الثالث: روش في الجـيـــش الفرنسـي يـــطارد الأمـيــر (1839م-1844م)
المطلب الأول: بيجـــــو يكـــــلفه بمـــــهمــة سريـــــة لتشتــيــــت المســـلمـيــــن
لما وصل الجنرال "بيجوPeugeot " إلى الجزائر في أواخر شهر ديسمبر 1840م, كان يحمل معه وصايا كثيرة من باريس في صالح ليون روش, إذ قدم له هذا الأخير تقارير مفصلة عن الأحوال العسكرية والسياسية لإقليمي الجزائر ووهران, مكنته
بسم الله الرحمن الرحيم
و الصلاة و السلام على خير خلق الله و أشرف المرسلين محمد صلى الله عليه و سلم. أما بعد:
سأتناول في هذا البحث الدور الخطير الذي لعبه الجاسوس ليون روش تحت قناع الإسلام في ملحمة الكفاح الجزائري. إن من المعروف أن الحملات الاستعمارية الكبرى باتجاه العالم الإسلامي كانت تسبقها حملات مركزة للجوسسة للتعرف على الأرضية التي سيتم استعمارها, وكان عادةً يقوم بالمهمة مجند عسكري لديه خبرة واسعة بالأرضية التي سيتم استعمارها, وأكبر مثال على هذا الجاسوس "بوتان Botin" الذي أرسله نابليون بونابرت, والذي قام بدوره بتقديم دراسة دقيقة جدا عن الجزائر والتي على أساسها تم احتلال الجزائر. لكن بعد الغزو العسكري سرعان ما اكتشف المستعمرون أن هناك مساحات كبيرة لم يتمكنوا من غزوها. فاحتلال الشعوب يقتضي التعرف بدقة على جغرافيتهم النفسية وخريطة عقولهم. وهكذا بدأت المرحلة الثانية من حركة الجوسسة الاستعمارية وذلك بإرسال رجال ونساء إلى الشعوب حتى يتغلغلوا وينفذوا إلى أعماق النسيج الاجتماعي ويقدموا التقارير الدقيقة والوافية عن تجربتهم في الداخل. وستظل أسماء مثل ليون روش بارزة في مسيرة حافلة لهؤلاء الذين اخترقنا وتغلغلوا إلى أعماق المجتمع, فلم تكن التقارير العسكرية والأمنية كافية للسيطرة على هذه المجتمعات بل كان من الواجب النفاذ بعمق في ألياف الحياة الاجتماعية والدينية والتجوال في دروبها والدخول إلى عمق أعماقها.
ليون روش جاسوس ندبته الحكومة الفرنسية في بداية غزوها للجزائر ليكون جاسوسا على الأمير عبد القادر حامل لواء المقاومة والجهاد ضدها, وأوعزت إليه أن يتظاهر عنده بالإسلام, وأن يتوصل أن يكون موضع ثقته ومحل أمانته. ففعل ذلك ونجح, وأقام مع الأمير عبد القادر ما يقارب الثلاث سنوات, إذ كان يبعث بكل تفاصيل دولة الأمير إلى حكومته الفرنسية, ولم يكتفي بهذا فقط بل كان السبب في نشب الفتن بين الأمير والقبائل الأخرى, فكان هدف إضعاف قوة المسلمين وتشتيتها من حول الأمير عبد القادر. وعلى ضوء هذا الموضوع تتبادر إلى الذهن الأسئلة التالية: ما هو الهدف الحقيقي وراء تعلم ليون روش اللغة العربية واعتناقه للإسلام؟ وفيما تتمثل الأدوار الخطيرة التي مثلها إثر تقربه للأمير عبد القادر؟ وهل لتلك الأدوار تداعيات على جيش الأمير عبد القادر؟
هذه الأسئلة وأخرى سأحاول الإجابة عنها من خلال البحث. ودافعي لاختيار هذا الموضوع هو إبراز تلك الأعمال الاستعمارية الهدامة والتخريبية في الجزائر والتي ارتبطت بجواسيس استغلوا الإسلام ليخترقوا به عقولهم. والصعوبات التي واجهتني في إنجاز هذا البحث ندرة المصادر والمراجع بالإضافة إلى صعوبة ترجمة بعض المصادر الأجنبية. ولدراسة موضوع البحث اعتمدت على الخطة التالية:
خــطة البــــــحث :
المـــــقدمـــــة
المبـــحث الأول: ليون روش بين مسقط رأسه والجزائر(1809م-1837م)
o المطلب الأول: تفاصيل عن نشأته ودخوله الجزائر إلى جانب أبيه
o المطلب الثاني: تحمسه لتعلم اللغة العربية
o المطلب الثالث: دوره داخل الجيش الأفريقي
المبـــحث الثاني: دور روش الخطيـر داخـل جيـش الأمير (1837م-1839م)
o المطلب الأول: إلتحاقه بالأمير تحت قناع الإسلام بهدف الجوسسة
o المطلب الثاني: أبرز مواقفه الخطيرة داخل جيش الأمير
o المطلب الثالث: سقوط قناع الجاسوس ليون روش وهروبه
المبـــحث الثالث: روش في الجيـش الفرنسـي يطارد الأمير(1839م-1844م)
o المطلب الأول: بيجو يكلفه بمهمة سرية لتشتيت المسلمين
o المطلب الثاني: مساندة و استبشار التيجاني لمهمة روش
o المطلب الثالث: مطاردة روش للأمير والضغط عليه
الـــــخاتــــمــــة
المبـــحث الأول: ليـون روش بيـن مسقـط رأسـه والجـزائـر(1809م-1837م)
المطلب الأول: تفـاصيـل عـن نشـأتـه ودخـولـه الجـزائـر إلـى جـانب أبيـه
ولد ليون روش بفرنسا بمدينة "غرونوبل Grenoble" في يوم 27 سبتمبر 1809م, وتربى عند خالته السيدة ليون شامبانو بعد وفاة أمه, بدأ مزاولة دراسته الثانوية في ثانوية "غرونوبل Grenoble" وأكملها في ثانوية "تورنو Tournon", أين سعفه الحظ لينال فيها شهادة البكالوريا وذلك سنة 1828, وبعدها أكمل دراسته في تخصص الحقوق لمدة ستة أشهر في جامعة "غرونوبل Grenoble", إلا أن طموحاته الواسعة وحبه للمغامرة لم يرضى أن يكون حبيس الدراسة, فانقطع عنها, ورحل إلى "مرسيليا Marseille", بعد أن أرسله أبوه للعمل هناك مع تاجر يعمل بين فرنسا وشرق أوروبا وهو صديق أبوه. كان قد زار العديد من دول جنوب شرق أوروبا وكان عمره آنذاك لا يتعدى21, وفي كتابه "ثلاث وثلاثون سنة في الإسلام", يحكي مغامراته لهذه الدول وخاصة ايطاليا .
كان أبوه "روش ألفونس Roches Alphonse", ملحقا بخدمات العتاد العسكري في الجزائر منذ الحملة الفرنسية في شهر جويلية 1830م. واهتم بالعمل الفلاحي في ضواحي الجزائر, وكون مزرعة في سهل متيجة. ونظرا لتعدد مهامه, كتب إلى ابنه ليون يطلب منه الحضور إلى جانبه ليساعده في الفلاحة بعد أن غاب عنه مدة أربع سنوات . لبى ليون روش رغبة أبيه للحضور بجانبه, رغم حبه القوي نحو أوروبا عامة, ونحو مسقط رأسه فرنسا خاصة. ففي يوم 18جوان من عام 1832م, قرر مغادر مدينة "مرسيليا Marseille", فانطلق نحو الجزائر على متن باخرة فرنسية تحت قيادة الضابطان "ماريون Marion" و "لوجراندLegrand ", بعد رحلة دامت 12 يوم وصل إلى مدينة الجزائر وبالتحديد يوم 30 جوان 1832م, فيصف سعادته لحظة دخوله للجزائر, ولحظة لقاء أبيه الذي لم يراه مدة أربع سنوات, إذ يقول لقد تركني مراهقا, وإذا به يجدني رجلا بشواربه ولحيته) .
استقر ليون في منزل أبيه الذي كان في منطقة ابراهيم رايس , التي تبعد تقريبا بستة كيلومترات على مدينة الجزائر, فكان منماوالهم وسط الأهالي الجزائريين وبقايا الأتراك والحضر, وكانت مزرعتهم تتسع إلى 200 هكتار يقوم بخدمتها بعض الأهالي الجزائريين. ولكي يساعد ليون والده في خدمة المزرعة, كان لابد عليه أن يتعلم اللغة العربية, لكي يسهل عليه الاتصال بالأهالي القائمين على خدمت المزرعة كأجراء. هذه نبذة عن ليون روش وعن عائلته, ونشأته, وعن دخوله لمدينة الجزائر, فتقريبا تلكم هي بدايته في الجزائر. إن اختلاطه مع الأهالي الجزائريين كان من بين الأسباب التي دفعته إلى تعلم اللغة العربية, وهذا يعني أن هناك أسباب أخرى, في الحقيقة هم الدافع الرئيسي الذين دفعوا بروش إلى تعلم لغتنا, مما فتحت له باب الرزق حسب قوله, من خلال ممارسته لمهمة الجوسسة والتي كان لها دور للأسف فعال في تشتيت قوة المسلمين وتدميرهم.
المطلب الثاني: تحـمســه لتــعلـم اللـغـة العــربيــــة
لم يتأقلم ليون روش مع البيئة الجزائرية في ضواحي متيجة, إلا بعد مرور قرابة نصف سنة, إذ تعرف خلالها على إحدى الحضريات تدعى "نفيسة", يقول روش أنها أرملة وكيل الحرج (وزير البحرية), الذي توفي في معركة "أسطوالي" عند احتلال الفرنسيين للجزائر, فهو وكيل الحرج ما قبل الأخير لدى دايات الجزائر. كانت "ماما نفيسة" كما يسميها روش, تملك المقاطعة المجاورة لمقاطعة أبيه, وكان عمرها حوالي ستين سنة, وكانت تتكلم لغة (السابير Sabir) , ويقول روش أنها كانت تربطها علاقة حب قديمة مع أحد الأوروبيين, يقول روش أنها أحسنت استقباله, وصار يزورها من حين لآخر. كانت "نفيسة" تحتضن ابنة (وكيل الحرج), الذي خلف زوجها من امرأة جورجية, واسمها "خديجة", وكانت تحسن القراءة والكتابة باللغة العربية. فتعرف عليها روش وأحبها, وكانت تجري بينهما لقاءات غماوالية باركتها العجوز نفيسة . ولكن "خديجة" كانت تجهل اللغة الفرنسية, ونفس الشيء مع ليون روش الذي كان لا يعرف اللغة العربية, لذلك بدأت تنمو في داخله غريزة تعلم اللغة العربية, لتمكنه من مراسلة عشيقته "خديجة".
وحسب ليون روش, فقد اشتدت رغبته أكثر في تعلم العربية عندما تعرف على رئيس مجلس قضاء الجزائر آنذاك, فدعاه هذا الأخير إلى تناول وجبة الغذاء معه, فلبى ليون طلبه. وبعد ذلك خرج ليون روش من عنده وهو في أشد التحمس لتعلم العربية لهدفين أساسيين بالنسبة له, لكنهما أهداف ظاهرية تخفي في طياتها الهدف الحقيقي الغير مباشر والخطير جدا. فالهدف الأول بالنسبة له هو التمكن من مساعدة أبيه في الاتصال مع أجرائه في المزرعة (الأهالي). والهدف الثاني التحاور مع عشيقته خديجة. ولهذا السبب دلته العجوز نفيسة على أستاذ ليتمكن بواسطته تعلم اللغة العربية, وهو أستاذ مسلم جزائري الدار, أندلسي الأصل, كان صديقا قديما لزوجها, وزير البحرية قبل وفاته. واسمه "عبد الرزاق بن بسيط" . ورغم أن الأستاذ لا يعرف اللغة الفرنسية, وليون روش كان مازال يجهل العربية وقواعدها, لكن استطاع هذا الأخير, في حوالي مدة ثمانية أشهر, حسب قوله, أن يتكلم ويتحاور مع أستاذه باللغة العربية. فأحبه الأستاذ عبد الرزاق لفطنته وسرعة ذكائه. هذا ولم يكتف ليون روش بدروس أستاذه فقط, بل راح يمرن لسانه على التكلم بالعربية مع الأهالي الجزائريين في المقاهي الشعبية, وكان حتى يحضر جلسات قضاء المسلمين, وكان أيضا يخرج مع الفلاحين أجراء أبيه إلى الصيد ويتحاور معهم باللغة العربية . فكل هذه الطرق جعلت لسان روش ينطلق بسرعة, وصار يتكلم لغة الأهالي ويفهمها جيدا مما جعلته يربط علاقات قوية مع الأهالي .
لقد سعى ليون روش جاهدا بكل الوسائل لأن يتعلم اللغة العربية, فقد أدرك أنها ستفتح له أبواب لم يكن يتوقعها حتى, إذ بفضلها –كما يزعم- استطاع أن يدخل بين المسلمين ويفتت شملهم. وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: (( من تعلم لغة قوم, أمن شرهم)).
المطلب الثالث: دوره فـي الجـــيـش الأفــــريـــقي
رغم أن اتصالات روش الأولى كانت مع الأهالي, إلا أنه كانت لديه اتصالات بالأوربيين, فيذكر أنه قضى كل المدة الواقعة مابين شهر نوفمبر 1832م, وشهر أوت 1833م في الخروج إلى الصيد مع عدد من الضباط الفرنسيين المنتمين إلى فرقة " قناصي أفريقيا Chasseurs d’Afrique" كان قد تعرف عليهم بواسطة السيدين "ماريون Marion" و "لوجراندLegrand ". وازدادت اتصالاته بالفرنسيين أكثر في منتصف 1833م, إذ قدمه أبوه إلى "الدوق دي روفيجو Doc De Rovigo", الحاكم العام للجزائر آنذاك, والسيد "جانتي Genty" مسؤول المصالح المدنية, والسيد "كوتان Cottin" رئيس بلدية الجزائر . وصدف هذا الحين إنشأ "دي روفيقوDe Rovigo " هيئة الحرس الوطني فعين ليون روش برتبة ملازم في فرقة الفرسان الخيالة, وكانت هذه الفرقة ترافق الجنرال في الحملات القصيرة التي يقودها في منطقة المتيجة.
وفي نفس السنة قدمت "اللجنة الأفريقية الأولى" إلى الجزائر لتبحث أحوال الجزائر وتقدم تقريرا للحكومة الفرنسية, فتلقى على إثرها "روش ألفونس Roches Alphonse"-والد ليون- زيارة بعض أعضائها وعلى رأسهم السيدان "بيسكاتوري Piscatory" و "لورانس Laurence" فكان هذا الأخير مكلفا بتنظيم شؤون العدالة. فأجري استقبال اللجنة في بيت ألفونس روش بإبراهيم رايس, فحضره بعض الجزائريين, وبما أن المناقشة كانت تدور باللغة الفرنسية, فقد كلف ليون روش نفسه مهمة القيام بالترجمة بين أعضاء اللجنة والعرب الحاضرين, ونظرا لطلاقة لسانه, فقد اعتقد أعضاء اللجنة أنه قدم من المشرق . ففي تلك الفترة قلما نجد مترجمين يحسنون اللغة العربية بلسان الجزائريين, مما ساعد على تعين ليون روش ترجمانا محلفا للجنة الأفريقية, من طرف السيد لورانس. مع العلم أن القانون الفرنسي آنذاك لا يعترف بأية اتفاقية أو تعاهد مع الأهالي بدون حضور ترجمان محلف.
من هنا بدأ يبرز ويتضح دور ليون روش, فمهمته الأولى كانت تقتضي شرح مصطلحات الملكية في الإسلام, وتفسير الشروط المقترحة من الطرفين, غير أن تعلمه من اللغة العربية لم يكن كافيا لأداء هذه المهمة على وجهها الكامل, فكثف جهوده في تعلمها وإتقان مصطلحاتها, وصار يقضي الليالي الطوال في فك ألغاز الأسماء العربية القديمة والمصطلحات الاقتصادية العقارية وغيرها, وذلك بمساعدة أستاذه عبد الرزاق الذي سهل له تناول المفردات اللغوية المتعلقة بعلم القانون والخصومات في الإسلام . ومن هنا يجدر الملاحظة بأن ليون روش لم يكن جديا في تعلم اللغة العربية ولا حريصا على النطق بها ليغاماوال عشيقته كما ذكر سابقا, إلا بعدما عرف فوائدها المختلفة, إذ فتحت له باب رزق لم يخطر على بله من قبل. وأغلب الظن أنه كان يدرك جيدا مدى حاجة بلاده إلى مترجمين قادرين وأكفاء على أن يكونوا همزة وصل بين الفرنسيين والأهالي. فحرص على إبراز شخصيته أمام عضوي اللجنة الأفريقية السابقي الذكر, مما لعب دورا كبيرا وفعالا في الجيش الأفريقي, إذ كان الجيش الأفريقي آنذاك يضم أربعة مترجمين لا غير. ولما أحضرت فرنسا قنصلها في طنجة, السيد "دي لابورت" ليشغل منصب المترجم الرئيسي الأعلى في الجيش الأفريقي, ويعطي دروسا للمترجمين ويراقب تقدمهم ورفع مستواهم, لاحظ السيد "دي لابورت" أن أغلبية المترجمين جهلة لا يعرفون القراءة ولا الكتابة. وللضرورة الماسة والملحة, قد أدتا إلى تعيين ليون روش في منصب مترجم رئيسي محلف في الجيش الأفريقي من طرف المارشال كلوزيل نفسه سنة 1835م, وذلك لكونه ضابطا في فرقة الحرس الوطني وإتقانه للغة العربية أحسن من المترجمين الآخرين .
فهذه المناصب التي نالها روش في الجيش الأفريقي نتيجة للخدمة وللدور الذي كان يلعبه فيه. وكدا في سنة 1836م اصطحب روش المارشال كلوزيل في حملته على المدية بصفته ترجمانا عسكريا محلفا . وما أن بدأ المارشال يتاخم ثنية موزاية حتى باغتته قوات مصطفى بومزراق, فتصدى لهم النقيب "جاستي Gastu", رئيس فرقة "الصبايحية Spahis", فتغلب عليه العرب وهزموا جنوده, وسقط "جاستي Gastu" جريحا بين صفوف المقاومين, فاغتاض المارشال من هذا الوضع وأمر ضباطه السبعة عشر الذين يكونون موكبه, بالهجوم عليهم وفك النقيب "جاستي Gastu" من قبضة سيوفهم, وكان روش, أول من وصل إلى "جاستي Gastu". فوجده ممدودا على الأرض وهو دامي لأن رصاصة قد اخترقت خديه فكسرت فكه, أردفه روش على حصانه ورجع راكضا نحو المارشال, فشكره هذا الأخير ورفع من شأنه .
أمر المارشال كلوزيل ليون روش أن يصطحب الجنرال "ديمشال Des Michels" إلى مدينة المدية كترجمان عسكري محلف. فامتثل لأوامره, ودخلوا المدية ولم يباشروا أية معركة ضد الأهالي,فالتقى روش بأحد أصدقائه الجزائريين, وكان قد عرفه في الجزائر عند محمد بن عمر باشا, وكان يدعى سيدي محمد قائد البويرة, فدعاه هذا الأخير لتناول العشاء معه. ولما استأذن روش الجنرال في ذلك, وافقه شريطة اغتنام الفرصة لجمع المعلومات حول محمد بن حسين الذي رشحه الجنرال بايا مواليا لفرنسا على المدية, خاصة وأن سيدي محمد قائد البويرة كان نائبا لهذا الباي ولما حضر محمد بن حسين في بيت قائد البويرة, تحدثا في شأن تعيينه على المدية, وكان ذلك بمحضر ليون روش.
ولما عاد الجاسوس ليون روش إلى الجنرال "ديمشال Des Michels" أخبره أن فكرة تنصيب محمد بن حسين بايا على المدية لا تخدم مصالح فرنسا, ولا يتغير بمقتضاها الوضع السائد في هذا الإقليم بل سيزيد الوضع إلى الأسوأ لأن الأهالي كلهم ساخطون عليه, و ستنجم عن هذا الإجراء أتعاب كثيرة للباي نفسه, كما سيسبب ذلك مخاطر للكراغلة حلفاء فرنسا لحمايته, حتى أن الجنرال نفسه أحس بهذا الشعور .
ومن هنا يثبت لدينا أن ليون روش كان قد مارس الجوسسة قبل التحاقه بجيش الأمير عبد القادر وبالتحديد في شهر نوفمبر 1837م.
المبـــحث الثاني: دور روش الخـطيـــر داخـــل جـيـــش الأمـيــر (1837م-1839م)
المطلب الأول: إلتحـــاقه بالأميـر عبـد القـادر تحــت قنــاع الإسـلام بهـدف الجـوسـســة
كان على السلطات الفرنسية أن تعمل على إقامة السلم في غرب الجزائر ووسطها بعد سبع سنوات من الحرب الضارية ضد الأمير عبد القادر وتركز جهودها, وتكثف قواتها العسكرية في الشرق الجزائري لمحو عار هزيمة الحملة الأولى على قسنطينة. ومما أكد حتمية إقامة هذا السلم, والرغبة الملحة فيه, هو فشل القوات الفرنسية في التوغل داخل البلاد, وزيادة الخسائر المادية والبشرية, واضطراب الحكومة الفرنسية وتخوفها من تصاعد الأزمة داخل مجلس النواب. لذا شرع كبار العسكريين في إعداد حملة ثانية على قسنطينة.
فقررت الحكومة الفرنسية إرسال الجنرال "بيجو Peugeot" إلى الجزائر للتفاوض مع الأمير عبد القادر وعرض شروط السلم عليه, وخولت له كل الصلاحيات لتحقيق ذلك. وكان الأمير هو الآخر محتاجا إلى فترة هدنة لإخماد الفتن الداخلية وجمع كلمة المسلمين وتنظيم شؤون دولته العسكرية والإدارية والمالية, وإقامة علاقته الخارجية لجلب الأسلحة والذخيرة. فبدأت المفاوضات في أوائل سنة 1837م, وعقدت في الأخير اتفاقية سلم بين الأمير عبد القادر والجنرال "بيجو Peugeot" نيابة عن حكومته في 30 ماي 1837م. وعرفت باسم " معاهدة تافنا " , وتضم خمسة عشر بندا كان جلها لصالح الأمير. ومن بين بنودها, البند الرابع الذي ينص على السماح للمسلمين بالعيش أينما أرادوا, ولهم الحرية المطلقة في الانتقال من دولة الأمير إلى الأماكن التي يحتلها الفرنسيون, أو من هذه الأخيرة إلى العيش تحت سلطة الأمير .
وبمقتضى البند الرابع لـ " معاهدة التافنا " قرر ليون روش في هذا الحين الالتحاق بجيش الأمير عبد القادر, فبادر يبرر موقفه على عزمه في اعتناق الدين الإسلامي. غادر ليون روش مقر أبيه بإبراهيم رايس واستقر عند قبيلة "بني موسى" في منطقة متيجة, إذ كانت تربطهم به علاقة سابقة إذ كان يخرج معهم إلى الصيد خلال السنوات الماضية كما سبق الذكر.
ويقول روش أنه قرر الالتحاق بالأمير بهدف الوصول إلى عشيقته خديجة التي علم أن زوجها استقر بها في مدينة "مليانة" الواقعة تحت حكم الأمير عبد القادر . ولكن إذا كان فعلا يريد الاتصال بخليلته كما زعم, فلماذا لم يقتصر الطريق ويلتحق بصديقه عمر باشا وأخيه محمد اللذان يقيمان في مليانة؟؟ وينظم من هناك اتصالاته كما يشاء؟؟, ويكون بذلك قد تجنب كل المخاطر والصعاب والمخاطرة بنفسه في الالتحاق بالأمير. أما إذا صدفنا قول روش من أنه ذاهب إلى جانب الأمير لمساعدته في تنوير المسلمين وكسب ولاء ضعاف العقول منهم إلى فرنسا والتباهي بالإنسانية وسعة المعرفة وسرعة الذكاء, وهو دور كان قد قام به أيضا الدكتور "وارنيWarnier " في مدينة معسكر لما كان يعالج مرضى المسلمين, لا بهدف مداواتهم وإنما لكسب عاطفتهم لصالح الفرنسيين, وأيضا بخلق الشقاق بينهم وتشتيت صفوفهم.
بدأ روش ينظم اتصالاته مع بعض الفرنسيين والجزائريين بهدف جمع المعلومات الكافية حول أحوال الأمير عبد القادر فاتصل بالملازم الأول "فيرجي Verge", قائد فرقة "الصبايحية Spahis", في مدينة "بوفاريك". ورافقه إلى مدينة البليدة لحضور الحكم على بعض الجزائريين كانوا قد قتلوا أحد الجنود الفرنسيين. أظهر ليون روش إسلامه أمما الحاكم لجلب نظره, فاستضافه هذا الأخير عنده. فاغتنم روش هذه الفرصة للاتصال بمرابط المدينة, سيدي بلقاسم ابن سيدي الكبير, وأظهر له بصفته مسلما, تخوفه من رجال قبيلة "الحجوط" لأن يغتالوه كما فعلوا مع الجندي الفرنسي. فوثق به المرابط على حسن نيته, واستضافه في بيته. فالتقى هناك ببعض المسلمين كانوا في ضيافة سيدي بلقاسم, واستقبلوه بحفاوة لاعتقادهم أنه مسلم. وفي هذه الأثناء حضر رسول الأمير عبد القادر, وأخبره سيدي بلقاسم بأن الأمير يريد بسط نفوذه على القبائل المقيمة في الشرق الجزائري التي لم تخضع بعد لسلطانه. فتقدم روش حينئذ وأخبر سيدي بلقاسم أنه يريد الالتحاق بالأمير وبذل كل جهده لخدمته. فاستبشر المرابط بكلامه, ودعا له بالتوفيق وفرح به أشد الفرح لاعتقاده في أن الله قد هداه من الكفر إلى الإيمان. ففرح روش حينئذ واستبشر ببلوغ مراميه لأن التحاقه بالأمير عبد القادر يعتبر عملا هاما في خدمة فرنسا, فيكون بذلك قد بادر بمساهمة حسنة في تحقيق طموح بلاده. خاصة وأنه, حسب قوله, ما اعتنق الدين الإسلامي إلا ليدخل في وسط جيش الأمير ويقترب منه ليتعرف على أحواله ويجعل منه حليفا لفرنسا, ويؤدي في الأخير إلى استسلام الجزائريين لها .
وفي شهر نوفمبر 1837م, عاد ليون روش إلى أولاد سيدي موسى وحمل متاعه في طريقه إلى مليانة. وكان المرابط سيدي بلقاسم قد سلمه رسالة يطلب له فيها الأمان من مرابط "الحجوط". ففتحت له الطريق ووصل إلى مدينة مليانة حيث كان يقيم صديقه عمر باشا. فاستضافه هذا, وقدم له نصائح كثيرة عن كيفية سيرته وأوصاه بالحذر في تحركاته, والفطنة في سلوكه لكي لا يجلب شكوك المسلمين حوله. وقد فعل عمر باشا ذلك من أجل مساعدة روش للوصول إلى عشيقته, وهو يعرف جيدا أن روش تظاهر باعتناق الإسلام إلا من أجلها. وفي هذه الأثناء كان الخليفة محمد بن علال غائبا عن المدية, فاتصل روش بنائبه وكاتبه, قدور بن رويلة, وشرح له بأنه مسلم ويريد الالتحاق بالأمير عبد القادر ليقدم له خدماته. وأهدى له مصحفا. فاستبشر قدور بن رويلة بإسلامه ووعده أنه سيصطحبه هو بنفسه إلى معسكر الأمير, وسوف يطلب من الخليفة محمد بن علال أن يقدمه للأمير. بدأ روش حينئذ يتهيأ لملاقات الأمير. فتعلم كيفية الصلاة, وبعض تعاليم الإسلام, وذلك طيلة إقامته عند صديقه عمر باشا. ورافقه قدور بن رويلة فعلا إلى الأمير الذي سار على رأس جيش إلى الشرق وعسكر على ضفاف وادي نوغة حيث به ليون روش, وقد سأله خليفته محمد بن علال, بطلب من قدور بن رويلة, استقبال ليون روش كفرنسي اعتنق الإسلام ويريد الدخول في خدمته . فقبل الأمير الدعوة, واستقبل لأول مرة ليون روش وأجرى معه حوارا. فأخبره روش أنه اعتنق الدين الإسلامي بكل إخلاص, ويريد منه أن يسمح له بالدخول في خدمته. وقال له أن مسلمي الجزائر قد أطلقوا عليه اسم عمر. ففرح الأمير بإسلامه وطلب من قاضي معسكره أن يعلمه القرآن وتعاليم الدين الإسلامي وقال له أن المسلم الحقيقي لا يكتفي بقوله أنه أعتنق الإسلام, وإنما يجب أن يفهم ويعرف ما يجب أن يكون عليه المسلم المخلص الصادق في القول والعمل.
وهنا بدأ روش يرتب أمور عمله لأداء مهمته الحقيقية كجاسوس. وبدأ يأخذ حذره من أن يتقن عملا لصالح الأمير ويرتكب بذلك جريمة ضد بلاده, فما كان عليه إذن إلا أن شرع في جمع المعلومات ومراسلة الفرنسيين وتعريفهم بجميع أحوال الأمير العسكرية والسياسية وغيرها. وبعث أول رسالة له من معسكر الأمير في "واد نوغة" بتاريخ 19 ديسمبر 1837م, إلى أحد الفرنسيين, لم يذكر اسمه, وأشار إليه بعبارة (صديقي) استهلها بإعطاء وصف دقيق جدا جدا عن شخصية الأمير عبد القادر, ومناقبه ولباسه وأوصافه الجسمية والخلقية, والدينية, والثقافية وقال أنه رجل عادل يحترم تعاليم دينه, وأن المسلمون يخضعون له بسبب احترامه الشديد لتعاليم الإسلام, وسيره على نهج الخلفاء الراشدين .
ثم تطرق للحديث عن الحالة الاقتصادية والمالية والعسكرية. فقال أن موارد الأمير الاقتصادية منعدمة وأن حالته المالية سيئة وجيشه النظامي مفتك ومشتت وضعيف المعنويات, وأن سلطته جزئية ولم يعم نفوذه كل القبائل. فقد خرجت عليه قبائل الجنوب قبل عقد "معاهدة التافنا", ولم تعترف بسلطانه, ولم يبق في يده إلا بعض قبائل الإقليم الوهراني.
ومن الناحية السياسية, قال ليون روش أن الأمير عبد القادر لا يرى في معاهدة التافنا إلا فترة سلم تمكنه من تجهيز نفسه للدخول في الحرب من جديد. وإن نفوذه ازداد خلال الستة أشهر الأولى منها, من شهر جوان إلى شهر ديسمبر 1837م, وتوسع نفوذه وأصبحت سلطته معترفا بها من الحدود المغربية إلى حدود إقليم قسنطينة. وإن الأمير الآن قد شرع في جمع الضرائب والأموال لبناء أركان دولته .
وفيما يخص تنظيم الأمير الإداري, أخبر روش أنه قسم دولته إلى ثمانية إمارات وعين على كل واحدة خليفة له. وأعطى تفاصيل حول تقسيم كل إمارة وكيفية توزيع القبائل التابعة لها. كما فصل أيضا في رسالته إلى (صديقه) كيفية جباية الضرائب والزكاة و العشور. أما عن موقف المسلمين من استعمار فرنسا للمدن الساحلية, فقال أن رأيهم مجمع على أنها تحتل الساحل بصفة مؤقتة فقط, و أنه سيتم جمع المال لشراء كل المدن, ويرجع الفرنسيون إلى بلادهم, وتسود سلطة الأمير عندئذ كل بلاد (أفريقيا).
إن هذه الرسالة تتبث النوايا السيئة لهذا الجاسوس. واصل روش مهمته كجاسوس وكشف للفرنسيين عن أسرار الأمير العسكرية والإستراتيجية. وقال أن هدف الأمير الأساسي من هذه الجولة هو بسط نفوذه على قبائل شرق البلاد, ومن ثم جمع الضرائب وتقوية ميزانية دولته. ثم شرح (لصديقه) كيفية محاربة الأمير للقبائل في وادي الزيتون انطلاقا من معسكره في وادي نوغة, وكيف انتصر عليهم في الأخير بفضل دقة أوامره وتنظيم جيشه. وأعرب له في الأخير عن رأيه في معاهدة التافنا, وقال أنه لا يجب عقد أي سلم مع هؤلاء العرب المتبربرين .
وأكثر من ذلك فقد ظهر روش على حقيقة أمره كجاسوس عندما راسل النقيب "دوماس", قنصل فرنسا في معسكر يقول له أنه ما التحق بالأمير إلا خدمة لبلاده وأنه سيفارقه عندما يستأنف الحرب ضد فرنسا وكان ذلك لما أوفده الأمير إلى مدينة تلمسان ليتعلم القرآن وتعاليم الدين الإسلامي.
المطلب الثاني: أبـــــرز مـــواقفــــــه الخطيـــــرة داخــــــل جيـــــش الأميــــر عبـــد القـــــــادر
لقد أوفد الأمير عبد القادر روش إلى تلمسان ليتعلم القرآن وتعاليم الدين الإسلامي, فقد كلف بمن يقرئه القرآن ويعلمه الشريعة والعقائد الدينية واللغة والكتابة العربية , إذ يقول أحد أصدقاء روش تعرف عليه عند التحاقه بتلمسان وهو "يوهان كارابيرنت" في كتابه "الأمير عبد القادر": عندما صعدنا ذات يوم نتنزه في سطح منزلنا, الذي كان يشرف على المدينة كلها, لمحنا أربعة فرسان غرباء يقتربون من القلعة, وكان أحدهم يرتدي ثيابا أحسن من ثياب الآخرين, وكان أحمر الوجه, يقود حصانه على غير الطريقة العربية, أي لم يكن يستعمل حركة فخذيه في ذلك. فصاح مصطفى: هذا أوروبي!! فمضينا بسرعة إلى مقهى القلعة, الذي نماوال فيه القادمون. لقد كان فعلا شابا فرنسيا دخل الإسلام وجاء يعرض خدماته على الأمير, وكان الأمير قد أرسله إلى تلمسان ليحسن معارفه في الدين الإسلامي و اللغة العربية وسرعان ما تعارفنا, وسمعت من فمه ما يلي: يدعى ليون روش وكان الابن الوحيد لأحد الملاك المعتبرين في مدينة الجزائر .
وأثناء إقامته في مدينة تلمسان, شك فيه المسلمون واعتبروه جاسوسا. فوضع عليه الخليفة البوحميدي عيونه. ولما أحس روش بذلك حاول الفرار إلى مدينة وهران, وكان كلما سألته القبائل عن سبب رحلته هذه يذكر لهم أنه ذاهب في مهمة إلى وهران بأمر من الخليفة البوحميدي. ويواصل ركوبه وأثناء هروبه التقى في طريقه برجل يركب حصانه ويسير في نفس الاتجاه. فسارا معا واقتربا من المنطقة الفرنسية إلى أن أصبحا على بعد ساعات منها, وهناك دعاه العربي إلى الركوب معه إلى خيمة آغا بني عامر لتناول الطعام هناك أو للمبيت. وكان على عمر عدم رفض الدعوة لأنه سيدفع ذلك إلى انكشاف أمره, بالإضافة إلى تعب حصانه, وكدا عدم معرفته للطريق ولا المسافة. لذلك قرر السير مع مرافقه إلى الخيام. فاستقبلهما الآغا بحفاوة كبيرة, الذي كانت له معرفة سابقة بعمر, لأنه كان قد رآه أكثر من مرة عند الخليفة في تلمسان. وعندما أراد في الصباح مواصلة السفر, طلب منه الآغا بأدب أن يذكر له الأسباب, التي استلزمت سفره إلى وهران, وما أن قال له إنه ذاهب إليها لتسوية بعض شؤون الخليفة, حتى طلب منه أن يقدم له الرسائل, التي حملها معه. ولما لم يستطع عمر إظهار أية رسالة (وقد كان من السهل عليه أن يكتب مثل هذه الرسائل, لأنه كان يحسن العربية, ولكننا لم نكن نفعل ذلك خشية أن يكون ثمة شهادة ثابتة تلصق بنا, في حالة تعرضنا لتهمة محاولة الفرار), فقد أعرب له الآغا عن أسفه بأنه لا يستطيع أن يسمح له بمواصلة السفر وأن عليه أن يرافقه إلى تلمسان ليتصل بالخليفة البوحميدي ويأخذ منه وثيقة السفر الضرورية. من الممكن أن نتصور المشاعر, التي غامرت روش المسكين خلال رجوعه إلى تلمسان, ومع ذلك لم يفقد حضور الذهن, ودافع عن نفسه أمام الخليفة (وقد ساعدته معرفته للعربية على ذلك), فلم ينتظر توجيه اللوم إليه, وإنما اتخذ موقف المهاجم, وراح يعاتب الخليفة, فاندهش الخليفة لذلك, وأخذ يعتذر له, وصرفه في سهولة ويسر, ولكنه حذره من العودة إلى مثل ذلك. كان عمر قد اشتكى من معاملته له قائلا إنه كان قد أتى إلى الخليفة, يعمر قلبه الحب والرغبة في الإسلام, ولم يأت إليه متسولا, وإنما أتاه حاملا للمال معه, فكان جزاؤه عدم الثقة فيه وإثارة الشبهات حوله, وأنه قد تبرع بأكثر من 5000 فرنك, ولم يقدم له حتى الآن شكره على ذلك, فالسلطان كان قد أرسله إلى هنا لإتقان العربية إتقانا كاملا, ولكن الخليفة لم يهتم بذلك, وعندما حضر العيد الكبير, الذي يعيد فيه المسلم على المسلم, ويبرهن له على مودته ومصالحته له, ويتلقى فيه حتى المتسول هدية حب من شخص ما, بقي هو وحده كالمقطوع وكأنه لا يزال مسيحيا. وقد أسخطه كل ذلك, وليس له الآن رغبة في البقاء هنا, وإنما هو يطلب منه أن يقدم له وثيقة سفر ليتوجه إلى الأمير عبد القادر ويشكو إليه هذه المعاملة, التي لم تكن تليق بمكانته. اعتذر إليه الخليفة في أدب, وقال له إنه لن يمنع عنه الحصول على وثيقة سفر إلى وهران. وإذا هو أراد أن يذهب إلى السلطان, فإن له أن يفعل ذلك, وسيهتم هو نفسه, أي الخليفة, بتوفير الأمن له . بعدما كان قد قرر الخليفة البوحميدي إعدامه, لكن روش بادره تحت قناع الإسلام, بأنه مسلم لا يجوز قتله إلا بأمر من السلطان-الأمير عبد القادر-, وأنه ما فر إلا لقساوة معاملة الخليفة له. فعفا عنه الخليفة وقرر ارساله إلى الأمير, خاصة وأنه رأى مجلسه كان في صالح روش. وكان روش قد بعث برسالته الثانية إلى صديقه في شهر فيفري 1838, فصل له فيها النظام الإداري والعرفي الذي كانت تسير عليه قبائل غرب البلاد. وشرح له ما, عرفه عن الأحوال الاجتماعية, والاقتصادية, والعسكرية, والثقافية, والدينية التي كان يمارسها الأهالي .
كان روش يعلم جيدا أن الدين الإسلامي يعدل بين الناس جميعا ولا يفرق بين سائد ومسود. فما إن وصل إلى مدينة المدية في أوائل شهر أفريل 1838, وحضر أمام الأمير حتى بكى له واشتكى من ظلم وجور الخليفة البوحميدي ورجاله, وسوء معاملتهم له وأنهم اعتبروه كافرا وليس مسلما أتى في خدمة الأمير لنصر الحق على الباطل وإظهار النور على الظلام. ولعب روش على (سذاجة), الأمير وقال له: ( هكذا يستقبل مسيحيا اعتنق الإسلام بإرادته؟) ثم بالغ في التضرع فصدقه الأمير ووعده أنه سوف لا يتركه يفارقه أبدا. واستطاع روش عندئذ أن يحقق هدفه ويبلغ مناه, ويقترب من الأمير ويطلع على جميع أسراره, خاصة بعد أن عينه الأمير كاتبا ومستشارا له, وزيادتا على هذا كله اتخذه رفيقا, وكلفه بمراقبة مسائل جيشه النظامي, وملابسه وأجوره-وهذا أكبر خطأ فعله الأمير, مما سيكون سبب فشل مقاومته-, وولاه مهمة تسجيل أسماء القبائل كلها وحصر أسماء شيوخها حتى يتمكن من جمع الضرائب بدقة.
ولما عاين المسلمون ما وصل إليه روش من مرتبة, آمنوا جانبه, وأصبح الأمر طبيعيا بالنسبة لهم خاصة بعدما قربه الأمير منه. فكثيرا ما أسلم الكفار في عهد الرسول –صلى الله عليه وسلم- وأخلصوا الإيمان. وازدادت ثقتهم فيه وتيقنوا من إيمانه خاصة بعدما رفض الرجوع مع أبيه إلى الجزائر لما طلب منه هذا الأخير ذلك عند زيارته للأمير في منتصف شهر ماي 1838م, وكان الأمير قد ترك له حرية البقاء أو الذهاب. فاختار روش البقاء إلى جانب الأمير, فظن المسلمون أنه رفض العودة لكونه مسلما لا يريد الرجوع تحت حكم الكفار .
وصفا الجو حينذاك لروش وسهلت مهمته وتيسر له الأمر في جمع كل ما يحتاجه من معلومات, خاصة وأن كل المسلمين أصبحوا يبوحون له بكل أسرارهم ويعتبرونه ساعد الأمير الأيمن. وكان روش يحضر حتى مجالس الأمير السرية التي كان يعقدها مع كبار رجال دولته أمثال مصطفى بن التهامي وغيره. حرص الأمير على تعليم روش أمور دينه. فعكف هذا الأخير على دراسة اللغة العربية والتعمق فيها, وسجل معلومات كثيرة حول كيفية جلب الضرائب بمختلف أنواعها وكيفية توزيعها على القبائل. وكان الأمير يأخذه معه أينما ذهب وينفق عليه من بيت المسلمين بهدف تنويره بتعاليم الشريعة الإسلامية. ولكن كان ذلك عملا بدون مردود, ومجهودا في غير موضعه, لأنه كان يواجه عدوا في ثياب مسلم, والفائدة الوحيدة التي كان يجنيها الأمير من روش هي قراءة هذا الأخير للصحف الفرنسية وتلخيص ما جاء فيها للأمير باللغة العربية. ومن يدري هل كان فعلا يخبره بمضمونها الحقيقي أم كان يفتري عليه مكرا وخدعا .
خرج ليون روش مع الأمير عبد القادر في حملته على "عين ماضي" بتاريخ 12 جوان 1838م, وكان الأمير قد عزم على التوجه إلى الجنوب لإخضاع قبائل الصحراء وتنظيمها تحت سلطانه, بعدما جمع كلمة المسلمين في الشرق. كانت الطريقة التيجانية هي المسيطرة في أنحاء الصحراء, ومركزها "عين ماضي", وكان الأمير يعامل صاحبها, سيدي أحمد بن سالم التيجاني معاملة المرابطين. ولكن شاء القدر أن عثر الأمير على رسالة للتيجاني بعثها إلى أهل الأغواط يستنفرهم ضد الأمير, مع رسائل أخرى إلى الحاكم الفرنسي في الجزائر يقول له فيها: (...أن أشغل الحاج عبد القادر من تلك الجهة البحرية وأنا أكفيك أمره من جهة البر...). ولما وصل الأمير عبد القادر على رأس جيشه إلى "دوار أولاد البيضة", وأتته قبائل الصحراء من كل فج وتجمعت حوله, أوفد عشرين فارسا على رأسهم ليون روش لإبلاغ التيجاني أن الأمير لا يريد من هذه الحملة إلا جمع كلمة المسلمين وإعدادهم للجهاد في سبيل الله والدين الإسلامي. ولكن التيجاني كان يرى في نفسه أنه أحق بحكم المسلمين من الأمير, فجمع قواته وتمركز في قصره بعين ماضي. ويقول روش أنه هو الذي طلب تلك المهمة من الأمير, وأنه أراد أن يبرهن له على صدق إيمانه .
والظاهر أن ليون روش قد قبل القيام بهذه المهمة لعلمه بولاء التيجاني للفرنسيين خاصة بعدما اطلع على الرسائل التي وجهها التيجاني إلى المارشال "فالي Valée" والتي وقعت في يد الأمير. ولذلك ألح روش على الأمير في إيفاده للتيجاني, وفي نيته أن هذا الأخير سوف لا يؤذيه خاصة إذا عرف أنه فرنسي. ومن ذلك يكون روش قد كسب ثقة الطرفين. وعوضا أن يؤدي روش مهمته الحقيقية في تحسين الوضع بين الأمير والتيجاني, عمل على تحريض هذا الأخير ضد الأمير. وقال له أن حصانة قصره هي قوة رهيبة في وجه الأمير وستكون له حاجزا صعب المنال. وفي نفس الوقت خوفه وحذره من مواقف الأمير الصلبة, وأنه سوف يحاصر المركز ولو لمدة عشر سنوات. ونستنتج من ذلك أنه بعث أملا كبيرا في نفس التيجاني الذي ظن فعلا أن حصنه يحميه من الهجومات الخارجية. ولم يذكر روش للتيجاني أن الأمير لا يريد الاستيلاء على مركزه وإنما هدفه الوحيد هو جمع كلمة المسلمين لاستئناف الجهاد ضد الكفار. ومن هنا يكون روش قد زاد النار حطبا, وبلغ بذلك هدفه الأسمى وهو إضعاف قوة المسلمين وتشتيت رأيهم.
بعد أن قوى روش عزيمة التيجاني على محاربة الأمير عاد إلى هذا الأخير وأخبره أن التيجاني متصلب في رأيه وأن له ثقة كبيرة في حصنه, وذكر له أنه جمع ما يكفيه لتموين رجاله لعدة سنوات.
باشر الأمير المعركة ضد التيجاني, وكان روش يعلم جيدا أن الأمير سوف ينتصر لا محالة ويتمكن من جمع كلمة المسلمين ضد فرنسا, فعمل على إضعاف قوة الأمير, وطلب منه أن يجعله على رأس الكراغلة لعلمه أن معظمهم يبغض الأمير. فلم يظهر لهم روش ذلك ولكنه عمل على تبذير الذخيرة وتركهم يطلقون الرصاص في غير موضعه بدل أن يراقب ذلك بكل دقة . ولم يكتف روش بهذه العملية التخريبية, بل تعداها إلى مراقبة الفارين الأجانب الذين أخلصوا العمل للأمير. فأمر أحد الفارين الفرنسيين, يدعى "ايزدور", بمراقبة الفار المجري الذي يقول أنه كان يحمل اسم حسن. وحتى لا يتركه يفعل ما يريد طلب من الأمير أن يلحقه بفرقة الكراغلة ليكون تحت مراقبته.
لولا الذخيرة التي وصلت إلى الأمير من وكلائه في المغرب وتلك التي أرسلها له المارشال "فالي" طبقا لنصوص معاهدة التافنا, لانهزم الأمير فعلا بسبب ضعفه قواته ونفاذ ذخيرته. ولم يتفطن الأمير لمخادعة روش, فعامله معاملة حسنة وارتفعت قيمته عنده أكثر من ذي قبل. ويقول روش أنه مرض في هذه الآونة وأن الأمير كان يرعاه رعاية الأم لطفلها. وبعدما تم استيلاؤه على مركز عين ماضي, منحه الأمير وسام "الريشة" اعترافا منه له بالمجهود الذي بذله خلال المعركة. وفي رسالته إلى المارشال "فالي", نوه الأمير بالدور الذي لعبه روش في هذه الحملة .
ومما يؤكد لنا مهمة ودور ليون روش الخطير كجاسوس فرنسي, اتصالاته مع النقيب "دوماس" في منتصف شهر ماي 1839م, إذ أخبره أن الأمير يهدف من وراء زيارته لقبائل شرق البلاد, إلى تفقد قواتها قبل استئناف الحرب من جديد ضد فرنسا, وأنه سوف يواصل رحلته نحو الشرق ويزور القبائل القاطنة على الحدود التونسية. وأن هذه الأخيرة كانت قد كاتبته تطلب حضوره عندها لمبايعته. أما عن موقف الأمير من المحافظة على السلم أخبر روش النقيب "دوماس" أن الأمير يريد السلم على الأقل لمدة قصيرة تمكنه من جمع الضرائب وتعويض خسائر حملة عين ماضي, وأن يتمكن الناس من جمع حصادهم, وتعطي مصانع الأسلحة ثمارها. ومن أجل ذلك, فإن السلم بالنسبة للأمير أمر ضروري يجب المحافظة عليه ما استطاع. وأما إذا أراد المارشال فالي شق الطريق ليربط بين مدينة الجزائر وقسنطينة, فأن الأمير سوف يعلن الحرب لا محالة. واستمر يقول أن, الأمير كاتب كلا من الملك لويس فيليب, ووزير البحرية, وأعضاء مجلس النواب الفرنسي, يطلب المحافظة على السلم وذلك لأن وكلاءه, ميلود بن عراش, وابن دران, وبوضربة, أكدوا له أن المارشال فالي مصمم على نقض المعاهدة بإدخاله على نصها بنود إضافية, وأكد روش للنقيب دوماس في آخر محادثته معه أنه سوف يبذل أقصى جهده في خدمة بلاده, ويعمل على رعاية مصالحها بكل الوسائل الممكنة. فنبهه دوماس إلى استغلال نفوذه على الأمير في أداء واجبه .
وفعلا فقد بدأ روش بالإطلاع على أماكن الأمير الإستراتيجية لتخريب مواقعها, ذلك أنه طلب من الأمير أن يمنحه مهمة تفتيش مصانع الأسلحة المتمركزة في مختلف المدن. وبلغ روش مراده, وقضى أشهر مارس, وأفريل, وماي , وجوان 1839م في تفتيش مصانع الأسلحة والذخيرة وكل المؤسسات الأساسية. وعمل على تحطيمها بدليل أنها لم تنتج شيئا يستحق الذكر منذ نشأتها. وأغلب الظن أنه عمل على تخريبها بمساعدة الفارين الفرنسيين الذين كانوا في خدمة الأمير, وهم المكلفون بإدارة هذه المصانع وتسير شؤونها. وكانت تربطهم به علاقة وثيقة حتى أنه تدخل لصالحهم لدى النقيب دوماس, فراسله يطلب منه أن يبلغ رسائل العمال الفرنسيين الموجودين في "تاقدامت" إلى أهلهم. وأكثر من ذلك وهو دليل قاطع, فلقد توقف عمال مصانع "تاقدامت" الفرنسيين عن العمل مباشرة بعد قرار مجلس الأمير لاستئناف الجهاد ضد العدو, (وكانوا ينتظرون روش بفارغ الصبر). ويقول روش أنه لما التقى بالأمير في شهر أكتوبر 1839م, في مدينة "تاقدامت" أخبره أنه تم إنشاء مصنع للأسلحة في تاقدامت, ويقول أيضا أنه وضع فيه بعض الأسلحة على أنها من إنتاجه, ولكن في الحقيقة حسب قوله أن المصنع كان لا ينتج شيئا ذا معنى وإنما وضع فيه الأسلحة لمخادعة الأمير فقط .
ولما أعلن الأمير الجهاد وبدأت التجهيزات, وكان الأمير في تاقدامت كما سبق الذكر, والتقى مع ليون روش, فسأله عن موقفه من استئناف الجهاد ضد العدو, فلم يملك روش نفسه حينئذ وأعلن له أنه لا يريد مقاتلة فرنسا الأم التي تحمي إخوانه. ولما أكد عليه الأمير أنه كمسلم يجب أن يعادي أعداء الله, انفجر روش في وجه الأمير وأعلنها له صراحة أنه لم يكن مسلما أبدا. فحاول الأمير تهدئته, لظنه أنه منفعل فقط. ثم أن الأمير ترك روش وشأنه, وربما إلى أن يفاتحه في الموضوع مرة أخرى. ولم يعط للموضوع أهمية كبيرة حتى أنه لم يخبر أحدا بما بدر من روش. وسافر الأمير في نفس الأسبوع إلى تلمسان لتنظيم شؤون دولته دون أن يترك أية أوامر تخص روش .
المطلب الثالث: سقـــــــــوط قنــــــــاع الجــــــــــاســـــــوس ليـــــــــون روش وهـــــــــروبــــــــه
قرر روش العودة إلى الجيش الفرنسي, وانتهز فرصة غياب الأمير, وأخذ كل ما يحتاجه وتوجه نحو مدينة وهران. وخادع المسلمين بقوله أن الأمير قد بعثه في مهمة إلى مدينة مليانة ليتفقد مصانع الأسلحة. وذلك ليتجنب متابعتهم له إذا علموا بحقيقة أمره. إن من بين الوثائق التي أقر روش أنه أخذها معه, خريطة جغرافية جزائرية, كان قد أحضرها ميلود بن عراش وجهاز بوصلة, وخاتمه بصفته كاتبا للأمير, وعددا من الرسائل استعملها في شكل برقيات ليخادع بها كل من يعترض طريقه . ولما وصل إلى منطقة معسكر وتلمسان أخبر اعترضه من الأهالي أنه ذاهب في مهمة إلى هاتين المدينتين بأمر من الأمير. فساعده المسلمون لذلك في معرفة المواقع, ولما دخل إقليم وهران التقى ببعض المسلمين, فاستوقفوه, فأظهر لهم بعض الرسائل عليها خاتمه, وقال لهم أنه يحملها إلى وكيل الأمير في وهران, وسلم لهم تذكرة باسمه أثبت فيها أقواله. واستطاع روش بعد ذلك أن يصل إلى مركز الجيش الفرنسي في "الكرمة" صحبة رفيقه "إيزدور". وانتقل من هناك إلى مقر حاكم إقليم وهران .
وهكذا يكون ليون روش قد التحق بجيش الأمير عبد القادر في فترة كانت فرنسا تجهز نفسها إلى حملة انتقام واحتلال ضد قسنطينة. فكان عليها أن تركز كل جهودها لقمع المقاومة الجزائرية في شرق البلاد. وقد فعلت واحتلت قسنطينة في 27 أكتوبر 1837م, وفي هذه الآونة بالذات إلتحق روش بالأمير عبد القادر ليتجسس عليه ويلعب على ذقون المسلمين باسم الإسلام. فانخدعوا له وأطلعوه على جميع أسرارهم ومصادر قوتهم. فألم بما فيه الكفاية وبلغ مراميه. ويا ليته اكتفى بذالك فقط, ولم يعمل على تخريب منشآت الأمير الصناعية والحربية التي كان المسلمون يضعون فيها أملهم ويتوقعون بواسطتها انتصارهم على العدو . وأهم نقطة اطلع عليها ليون روش الجاسوس هي مصدر قوة المسلمين ومنبع حيويتهم المتمثلة في تمسكهم بدينهم.
فلقد كان المسلمون في الجزائر لا يملكون الأسلحة الحديثة, ولا الذخيرة للمصانع, ولا أموالا طائلة على الأقل لشراء كل ما تحتاج إليه الحرب من تجهيزات. وإنما كان التمسك بالدين هو القلب النابض عند جميع المسلمين, غير أن نقطة ضعفهم كانت تمكن في اختلاف الطرق الدينية التي كانوا يتبعونها وعرف روش كل ذلك, واطلع على أدق أمور المسلمين وعاد إلى الحكام الفرنسيين في وقت كانت فرنسا في أشد الحاجة إلى مثل هذه الأخبار الدقيقة النادرة والتي كان محرما عليها معرفتها.
نستنتج أن ليون روش أفاد بلاده سواء كان قد التحق بالأمير عبد القادر من تلقاء نفسه أم كان ذلك بإيعاز من الضباط الفرنسيين. وعلى كل حال فلقد جازته فرنسا خير الجزاء, وقلدته رتبا هامة في جيشها, وخولته مناصب حكومية عالية. وكلفته بمهام أشد خطورة على المسلمين من التجسس عليهم.
المبـــحث الثالث: روش في الجـيـــش الفرنسـي يـــطارد الأمـيــر (1839م-1844م)
المطلب الأول: بيجـــــو يكـــــلفه بمـــــهمــة سريـــــة لتشتــيــــت المســـلمـيــــن
لما وصل الجنرال "بيجوPeugeot " إلى الجزائر في أواخر شهر ديسمبر 1840م, كان يحمل معه وصايا كثيرة من باريس في صالح ليون روش, إذ قدم له هذا الأخير تقارير مفصلة عن الأحوال العسكرية والسياسية لإقليمي الجزائر ووهران, مكنته
الأحد نوفمبر 27, 2022 9:16 pm من طرف Faizafazo
» برنامج احترافي في تنقيط التلاميذ تربية بدنية ورياضية وكل ما يحتاجه استاذ التربية البدنية والرياضية في المتوسط
الأحد يونيو 27, 2021 7:33 pm من طرف تمرت
» مفاهيم عامة .الاعلام و الاتصال
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:51 am من طرف المشرف العام
» نظريات الاعلام وحرية الصحافة و علاقة الصحافة بالسلطة
الثلاثاء فبراير 16, 2021 10:50 am من طرف المشرف العام
» نشأة وتطور الصحافة في العالم و الوطن العربي
الجمعة يناير 15, 2021 11:48 am من طرف المشرف العام
» ترحيب و تعارف
السبت يونيو 13, 2020 10:39 pm من طرف صقر السردي
» كتب تاريخ الجزائر في القديم والحديث
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الثورة الجزائرية ،"ثورة المليون و نصف المليون شهيد"
السبت مايو 16, 2020 3:30 pm من طرف المشرف العام
» الادارة وتعريفها
السبت مايو 16, 2020 3:28 pm من طرف المشرف العام
» مقياس :تاريخ وسائل الاعلام
السبت مايو 16, 2020 2:57 pm من طرف المشرف العام